هل يستعد العراق لـ"بلدوزر" ترمب؟

الذهاب إلى علاقات متوازنة مع إيران

أ.ف.ب
أ.ف.ب
أعلام فلسطين ولبنان والعراق معلقة على جانب مسجد في العاصمة بغداد في 27 أكتوبر 2024

هل يستعد العراق لـ"بلدوزر" ترمب؟

كان لافتا خطاب رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي مؤخرا الذي تحدث فيه، على نحو عرضي، عن ضرورة احتكار الدولة للسلاح "المنفلت" في إشارة خجولة إلى نزع السلاح الميليشيوي، وذلك في سياق تحذير أوسع من التغيرات المقبلة في المنطقة، والاستعداد العراقي المفترض لها، في ضوء فوز دونالد ترمب بالرئاسة الأميركية والتوجهات الواضحة لإدارته التي هي في طور التشكل الآن بانتهاج سياسة شرق أوسطية متشددة ضد إيران وحلفائها وداعمة لإسرائيل في الوقت نفسه.

وقد جاء الخطاب في ظاهره "استجابة" لرسالة زعيم المرجعية الدينية الشيعية في النجف، السيد علي السيستاني، على أثر لقائه بالمبعوث الأممي، محمد الحسان، التي توقف فيها الزعيم الديني عند الإخفاق الحاصل في إدارة البلد، داعيا- لأجل تجاوزه- إلى اعتماد "مبدأ الكفاءة والنزاهة في تسنم مواقع المسؤولية، ومنع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها، وتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، ومكافحة الفساد على جميع المستويات."

أ ف ب
رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يلوح بيده لدى وصوله لحضور توقيع اتفاقية مع رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ في نيودلهي في 23 أغسطس 2013

لم يقل المالكي شيئا جديدا في خطابه، بل استخدم الإنشاء المعتاد الذي يقدم عبره حلولا مائعة، لن تجد طريقها للتنفيذ، لمشاكل صعبة تسببت فيها في الأصل سياسات الرجل وسواه من ساسة الطبقة السياسية الحاكمة. كرر الخطابُ مثلا الشكوى الروتينية من الوقائع السيئة (انتشار الفساد وهشاشة الدولة وعدم احترام سيادتها من دول أخرى والسلاح "المنفلت"، وفقدان ثقة المواطنين في الدولة، والتدخل الخارجي في الشأن العراقي... إلخ) من دون التوقف عند الأسباب التي قادت إلى هذه النتائج والمتلخصة في السياسات التي تبناها هؤلاء الساسة بقوة، وفي مقدمتهم المالكي نفسه، كالمحاصصة والسماح بالسلاح الميليشيوي بل والاستفادة منه، وتحصين الساسة وأحزابهم المتنفذة من المساءلة والعقاب وترسيخ الطائفية واستدعاء التدخل الخارجي عند الحاجة، وغيرها الكثير. وعلى نحو ما، يوحي خطاب المالكي بأن مصائب العراق الحالية هي آفات نزلت فجأة على رأس البلد من السماء، بلا أصل بشري أو سبب سياسي لها له علاقة بالسلطة يمنع أي إصلاح جدي فيها.

ليس المهم في خطاب المالكي محتواه المُكَرَر وغير المقنع، بل توقيته والأولويات التي يقترحها، وهو، في الأمرين، تعبير دقيق عن الطريقة التي تفكر بها النخبة السياسية الشيعية الحاكمة، خصوصا من أحزاب الاسلام السياسي التي قادت البلاد على مدى معظم العشرين عاما الماضية. وفي تمثل دقيق لطريقة تفكير هذه النخبة، يحاجج الخطاب بأن العراق يواجه خطرين متوازيين في حالة ضعف الدولة فيه وتفكك سلطاتها. الأول هو خطر عودة تنظيم "داعش" الإرهابي. والثاني، وهو موضوع المالكي المحبب وهوسه الدائم أيضا، هو خطر عودة "حزب البعث" واستيلائه على الحكم. وعبر إثارة هذين الخطرين المفترضين، يبدو طبيعيا أن المالكي يحاول أن يبعث رسائل محلية في أغلبها، وأخرى إقليمية ودولية، خصوصا للولايات المتحدة الأميركية في ظل قيادة ترمبية يقلق كثيرا منها الساسة الشيعة المتنفذون، بأننا نشترك معكم في الأعداء أنفسهم وفي ضرورة التصدي لهم. أي، بكلمات أخرى، نحن حلفاؤكم ولسنا خصومكم!

وبعيدا عن المغالطات الكثيرة في خطاب المالكي، فإنه يشي أيضا بسوء فهم عميق بخصوص ترتيب الأولويات العراقية، ناهيك عن سوء فهم أكثر عمقا للأولويات الأميركية والإقليمية العربية. لم يعد حزب "البعث" مصدر قلق للأميركيين وليس ثمة تصورٌ سياسي أميركي أن بإمكان هذا الحزب العودة للسلطة للعراق.

كان مثل هذا القلق والتصور موجودين في السنوات الأولى التي أعقبت إسقاط نظام صدام حسين في 2003، وقامت الولايات المتحدة حينها بالكثير لتفكيك الحزب وإضعافه وتمكين السلطة الجديدة التي أعقبته في حكم العراق. كان المالكي نفسه، وحزبه (حزب الدعوة)، من أكبر المستفيدين من الجهود الأميركية في هذا الصدد. لكن الآن، بعد أكثر من عشرين عاما على بدء تلك الجهود ونجاح معظمها، لم يعد حزب "البعث" على قائمة الأولويات الأميركية كخطر ينبغي التصدي له، إذ لم يعد له وجود محلي أو إقليمي مؤثر يستدعي القلق الأميركي منه.

منذ سنوات، تبدو الطبقة السياسية الحاكمة، خصوصا بأحزابها الشيعية القابضة على المفاصل الأهم في السلطة، منقطعة جدا عن الوقائع المحلية والإقليمية والعالمية

في الحقيقة، الوجود الوحيد المؤثر لحزب "البعث" في العراق اليوم هو في بعض الحنين الشعبي الخَطر له ولأيامه في الحكم، لأن "البعث"، بحسب المخيلة الشعبية الغاضبة التي تحركها المشاعر الحالية وليس الحقائق التاريخية، كان حزبا كفئا في الإدارة وبعيدا عن سرقة المال العام، ووطنيا صارما بلا اتباع لدولة أجنبية أو قوة خارجية، وقادرا على فرض هيبة الدولة على الجميع، حتى مع الإقرار العام بأنه كان حزبا ظالما أضاع موارد البلاد في مغامرات خارجية دموية وعقيمة. هذا التصور الشعبي لحزب "البعث"، المضلل في بعض جوانبه، هو رد فعل مباشر على السياسات الفاشلة للطبقة السياسية الشيعية الحاكمة، من ضمنها استشراء الفساد المالي والاقتصادي والتغول الحزبي على المال والمناصب العامة، باسم المحاصصة، وتعدد مراكز القرار السياسي وصراعها المستمر وبروز السلاح الميليشيوي الذي ينافس سلاح الدولة وقراراتها، وغياب الكفاءة المؤسساتية في الإدارة.

أ.ف.ب
المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني خلال اجتماع مع الممثل الجديد للأمين العام للأمم المتحدة في العراق محمد الحسان في مدينة النجف في 4 نوفمبر 2024

أما تنظيم "داعش"، فهو لا يزال على قائمة التهديدات الأميركية التي تستدعي التصدي له، لكنه تهديد مسيطر عليه، عبر تحالف إقليمي ودولي واسع تقوده الولايات المتحدة ضده، إذ ضعفَ التنظيم كثيرا وما تزال أميركا تتعقبه بأدواتها الكثيرة، العسكرية والمالية والقانونية، وفي مناطق مختلفة في العالم. وهي لا تحتاج كثيرا شراكة الحكومة العراقية لها في جهد التعقب هذا خصوصا بعد موافقتها على الانسحاب من الأراضي العراقية، بحسب الإعلان الحكومي العراقي، بحلول سبتمبر/أيلول 2026. كان هذا الانسحاب بطلب وضغط من النخبة السياسية الشيعية الحاكمة، خصوصا في جانبها المتحالف مع إيران.

شدة الوهم السياسي وعواقبه

منذ سنوات، تبدو الطبقة السياسية الحاكمة، خصوصا بأحزابها الشيعية القابضة على المفاصل الأهم في السلطة، منقطعة جدا عن الوقائع المحلية والإقليمية والعالمية. على الجانب المحلي، هي لا تدرك مقدار السخط الشعبي الداخلي ضدها ولا عمق فشلها المؤسساتي في كل ما تقوم به تقريبا بما يتعلق بالوظائف التقليدية للدولة التي تقودها هي (فساد مستشر، وخدمات بائسة، وفرص اقتصادية شحيحة جدا وصراع سياسي مستمر، وحكم قانون ضعيف وانتقائي). أما على الجانبين الإقليمي والعالمي، فتغوص هذه الطبقة السياسية في وهم مقولاتها وتتصرف معها  كحقائق كما في اعتقادها بأهمية العراق الكبرى في المنطقة وأخذ قوى العالم المؤثرة كدول أوروبا الغربية والولايات المتحدة له في الاعتبار.

كان اليأس العربي من قدرة العراق على أن يتعافى سياسيا ومؤسساتيا وبقائه ضعيفا وتابعا في إطار النفوذ الإيراني، أحد الأسباب غير المعلنة التي دفعت دولا عربية للاستثمار في إسرائيل كرادع للنفوذ الإيراني

وفي واقع الأمر، يُنظر للعراق إقليميا ودوليا على نحو سلبي كمصدر للقلق بسبب هشاشته كدولة يمكن أن تتحول عبئا على الآخرين وخضوعه للنفوذ الإيراني سواء عبر "محور المقاومة" بفرعه العراقي المتمثل بالفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران أو عبر السطوة الإيرانية القوية داخل الأحزاب العراقية، الشيعية والسنية والكردية، وهي السطوة التي تتحول تأثيرا كبيرا داخل الدولة لخدمة المصالح الإيرانية المتنوعة والعميقة في العراق (يكفي القول هنا إن إيران لعبت دورا لافتا في تشكيل كل الحكومات العراقية بعد 2003، وأنها حاضرة بقوة في ترتيب التحالفات السياسية والبرلمانية العراقية بعد كل انتخابات برلمانية، وصولا إلى وضعها فيتو على ساسة عراقيين يختلفون معها أو قد يهددون مصالحها).

حتى العالم العربي بدأ يتعايش في السنوات الأخيرة مع فكرة عراق هش وتابع لإيران، خصوصا دول الخليج، التي استثمرت على مدى سنوات بعد الإطاحة الأميركية بنظام صدام في 2003، في تنشيط القوى السياسية العراقية التي يمكن أن تصنع توازنا محليا يقلل من النفوذ الإيراني المتصاعد، كتحالف القائمة الوطنية العراقية بزعامة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، وحركات سياسية سنية وشيعية مختلفة، لكن من دون جدوى، في آخر المطاف.

أ.ف.ب
وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الإيراني عباس عراقجي في بغداد في 13 أكتوبر 2024

ويَقلق العالم العربي، على نحو مفهوم، من تمدد النفوذ الإيراني فيه، وكان يطمح في أن يكون العراق "الجديد" القوي والمتماسك- وليس العدواني والحربي كما في عهد صدام- مصدرا لهذا النفوذ وجزءا فعالا من العالم العربي، إلا أن العراق في آخر المطاف تحول إلى جسر لهذا النفوذ، وأحيانا، أحد أدواته، كما في شن فصائل مسلحة عراقية عمليات مسلحة داخل دول عربية كالأردن وبعض دول الخليج، وتهديد هذه الفصائل بشن المزيد منها عند الحاجة، فضلا عن إعلان هذه الفصائل عداءها المعلن والدائم لهذه الدول، من دون أن تستطيع الحكومة العراقية أن تفعل شيئا إزاء كل هذا.

كان هذا اليأس العربي من قدرة العراق على أن يتعافى سياسيا ومؤسساتيا وبقائه ضعيفا وتابعا في إطار النفوذ الإيراني، أحد الأسباب غير المعلنة التي دفعت دولا عربية للاستثمار في إسرائيل كرادع للنفوذ الإيراني. وعلى الجانب الآخر، واصل الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، الاستثمارَ في مواجهة النفوذ الإيراني في العراق، لكن بقي هذا الاستثمار انتقائيا في الغالب ومحدودا في جدواه الإصلاحية (إصلاحات مصرفية لمنع تهريب الدولار إلى إيران وسوريا، في مخالفة صريحة للعقوبات الأميركية ضد هذين البلدين، و"استقلال الطاقة" أي اعتماد العراق على تطوير موارده النفطية دون الحاجة إلى استيراد مشتقات نفطية من إيران لتشغيل محطاته الكهربائية أو شراء الطاقة الكهربائية منها).

لم يعد وجود النفوذ الإيراني في العراق وتأثيره السلبي العميق على البلد موضع خلاف بين الأغلبية الساحقة من العراقيين

ومع تسلم ترمب الزعامة في البيت الأبيض، وفي ضوء أولويات إدارته المقبلة، ستجد النخبة السياسية الشيعية المهيمنة نفسَها إزاء ضغط شديد يبدو أنها ليست مستعدة للتعاطي معه: بروز إيران كخصم أميركي ينبغي مواجهته على نحو حاسم، وليس احتواؤه كما كان الحال مع الإدارات الديمقراطية السابقة. حيث تنظر هذه الإدارة، كما يبدو من تعيينات فريق السياسة الخارجية والأمن القومي فيها- فضلا عن توجهها الأيديولوجي المعروف- للعراق كدولة فاشلة وناكرة للجميل الأميركي عليها وتابعة لإيران، وأن فشلها هو نتيجة لتبعيتها لها. وفي ظل نظرة كهذه، سيكون العراق في مرمى الاستهداف الأميركي، من خلال أدوات القوة  الكثيرة المتاحة لإدارة يقودها صقور لا تتردد في استخدام هذه الأدوات عند حاجتها إليها.

الأوقات الصعبة مفيدة أحيانا في دفع ساسة مترددين أو خائفين لاتخاذ قرارات جريئة لها طابع الحسم، وذلك حفاظا على مصالح هؤلاء الساسة في البقاء في مواقع السلطة والنفوذ وتجنب حصول الأسوأ لهم، وليس بالضرورة للدفاع عن المصلحة العامة.

أ.ف.ب
أعضاء من "كتائب حزب الله" يشاركون في تشييع جثمان مقاتل كان أيضا جزءا من "المقاومة الإسلامية في العراق"، في بغداد في 21 نوفمبر 2023

لم يعد وجود النفوذ الإيراني في العراق وتأثيره السلبي العميق على البلد موضع خلاف بين الغالبية الساحقة من العراقيين (بل إن الإشارة وردت على نحو مضمر لهذا النفوذ في رسالة السيد السيستاني وخطاب المالكي).

هناك مصلحة وطنية عراقية مشروعة في تفكيك هذا النفوذ، أو على الأقل البدء الجدي في عملية التفكيك هذه. فقط النخبة السياسية الشيعية مجتمعة، في حال اتحادها على هذا الهدف، تستطيع تفكيك هذا النفوذ، ومن ثم الذهاب نحو علاقات متوازنة مع الجمهورية الإسلامية قائمة على التكافؤ بعيدا عن العداء، وخدمة المصالح المشتركة وليس على الهيمنة والتبعية كما هو الحال الآن. بخلاف هذا، تواجه هذه النخبة احتمالات مستقبلية متجهمة. تتلخص هذه الاحتمالات في اجتماع ضغوط هائلة عليها في الوقت نفسه، ويمكن أن يتغذى أحدها على الآخر من دون تنسيق أو اتفاق. تتلخص هذه الضغوط في ضغط إدارة أميركية "صقرية" يمكن أن تتصرف بتهور غاضب كما يدل سجلها السابق، وضغط جمهور عراقي واسع متبرم من فشل الدولة وفساد السياسة يمكن أن يلجأ إلى الاحتجاج والاعتراض، وضغط انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية وهو الانخفاض الذي يؤكد مختصون كثيرون أنه قادم.

الخيار الآخر هو قابلية الإنكار السهلة ولوم الآخرين للتنصل من المسؤولية، التي يجيدها الساسة العراقيون وقد مارسوها في ملفات كثيرة على مدى السنوات إلى أن وصل البلد إلى وضعه الرث الحالي. لكن ثمن سوء التقدير هذه المرة قد يكون فادحا ومؤلما ونهائيا.

font change

مقالات ذات صلة