كان لافتا خطاب رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي مؤخرا الذي تحدث فيه، على نحو عرضي، عن ضرورة احتكار الدولة للسلاح "المنفلت" في إشارة خجولة إلى نزع السلاح الميليشيوي، وذلك في سياق تحذير أوسع من التغيرات المقبلة في المنطقة، والاستعداد العراقي المفترض لها، في ضوء فوز دونالد ترمب بالرئاسة الأميركية والتوجهات الواضحة لإدارته التي هي في طور التشكل الآن بانتهاج سياسة شرق أوسطية متشددة ضد إيران وحلفائها وداعمة لإسرائيل في الوقت نفسه.
وقد جاء الخطاب في ظاهره "استجابة" لرسالة زعيم المرجعية الدينية الشيعية في النجف، السيد علي السيستاني، على أثر لقائه بالمبعوث الأممي، محمد الحسان، التي توقف فيها الزعيم الديني عند الإخفاق الحاصل في إدارة البلد، داعيا- لأجل تجاوزه- إلى اعتماد "مبدأ الكفاءة والنزاهة في تسنم مواقع المسؤولية، ومنع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها، وتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، ومكافحة الفساد على جميع المستويات."
لم يقل المالكي شيئا جديدا في خطابه، بل استخدم الإنشاء المعتاد الذي يقدم عبره حلولا مائعة، لن تجد طريقها للتنفيذ، لمشاكل صعبة تسببت فيها في الأصل سياسات الرجل وسواه من ساسة الطبقة السياسية الحاكمة. كرر الخطابُ مثلا الشكوى الروتينية من الوقائع السيئة (انتشار الفساد وهشاشة الدولة وعدم احترام سيادتها من دول أخرى والسلاح "المنفلت"، وفقدان ثقة المواطنين في الدولة، والتدخل الخارجي في الشأن العراقي... إلخ) من دون التوقف عند الأسباب التي قادت إلى هذه النتائج والمتلخصة في السياسات التي تبناها هؤلاء الساسة بقوة، وفي مقدمتهم المالكي نفسه، كالمحاصصة والسماح بالسلاح الميليشيوي بل والاستفادة منه، وتحصين الساسة وأحزابهم المتنفذة من المساءلة والعقاب وترسيخ الطائفية واستدعاء التدخل الخارجي عند الحاجة، وغيرها الكثير. وعلى نحو ما، يوحي خطاب المالكي بأن مصائب العراق الحالية هي آفات نزلت فجأة على رأس البلد من السماء، بلا أصل بشري أو سبب سياسي لها له علاقة بالسلطة يمنع أي إصلاح جدي فيها.
ليس المهم في خطاب المالكي محتواه المُكَرَر وغير المقنع، بل توقيته والأولويات التي يقترحها، وهو، في الأمرين، تعبير دقيق عن الطريقة التي تفكر بها النخبة السياسية الشيعية الحاكمة، خصوصا من أحزاب الاسلام السياسي التي قادت البلاد على مدى معظم العشرين عاما الماضية. وفي تمثل دقيق لطريقة تفكير هذه النخبة، يحاجج الخطاب بأن العراق يواجه خطرين متوازيين في حالة ضعف الدولة فيه وتفكك سلطاتها. الأول هو خطر عودة تنظيم "داعش" الإرهابي. والثاني، وهو موضوع المالكي المحبب وهوسه الدائم أيضا، هو خطر عودة "حزب البعث" واستيلائه على الحكم. وعبر إثارة هذين الخطرين المفترضين، يبدو طبيعيا أن المالكي يحاول أن يبعث رسائل محلية في أغلبها، وأخرى إقليمية ودولية، خصوصا للولايات المتحدة الأميركية في ظل قيادة ترمبية يقلق كثيرا منها الساسة الشيعة المتنفذون، بأننا نشترك معكم في الأعداء أنفسهم وفي ضرورة التصدي لهم. أي، بكلمات أخرى، نحن حلفاؤكم ولسنا خصومكم!
وبعيدا عن المغالطات الكثيرة في خطاب المالكي، فإنه يشي أيضا بسوء فهم عميق بخصوص ترتيب الأولويات العراقية، ناهيك عن سوء فهم أكثر عمقا للأولويات الأميركية والإقليمية العربية. لم يعد حزب "البعث" مصدر قلق للأميركيين وليس ثمة تصورٌ سياسي أميركي أن بإمكان هذا الحزب العودة للسلطة للعراق.
كان مثل هذا القلق والتصور موجودين في السنوات الأولى التي أعقبت إسقاط نظام صدام حسين في 2003، وقامت الولايات المتحدة حينها بالكثير لتفكيك الحزب وإضعافه وتمكين السلطة الجديدة التي أعقبته في حكم العراق. كان المالكي نفسه، وحزبه (حزب الدعوة)، من أكبر المستفيدين من الجهود الأميركية في هذا الصدد. لكن الآن، بعد أكثر من عشرين عاما على بدء تلك الجهود ونجاح معظمها، لم يعد حزب "البعث" على قائمة الأولويات الأميركية كخطر ينبغي التصدي له، إذ لم يعد له وجود محلي أو إقليمي مؤثر يستدعي القلق الأميركي منه.