فنسنت فان غوغ بين الشعراء والعشاق

معرض شامل في "ناشيونال غاليري" بلندن

HENRY NICHOLLS - AFP
HENRY NICHOLLS - AFP
الجمهور يصطف لدخول معرض "فان غوخغ: الشعراء والعشاق".

فنسنت فان غوغ بين الشعراء والعشاق

يحتفل "ناشيونال غاليري" في لندن بالذكرى المئوية الثانية لتأسيسه من خلال إقامة معرض شبه شامل للرسام الهولندي فنسنت فان غوغ بعنوان "فان غوغ الشعراء والعشاق". عنوانٌ، كانت المختارات التي جُلبت من مختلف المتاحف العالمية والمجموعات الخاصة مخلصة له وهو ما يدعو إلى الثناء على دقة الرؤية ورهافتها وعمقها في الاختيار، على الرغم من أن المرء حين يغادر المعرض يشعر أن هناك أعمالا تدخل في صلب الموضوع شكّل غيابها نقصا قد لا يشعر به الكثير من عشاق فن فنسنت وهم من مختلف الأعمار.

تذكرت وأنا أتنقل بين القاعات المزدحمة، ذلك الطابور الطويل أمام متحف فان غوغ في أمستردام. لا أعتقد أن الأساطير التي حيكت حول حياة فنسنت وشخصيته هي السبب الوحيد الذي يجذب ذلك الجمهور الواسع إليه.

ربما لعبت رسائله إلى أخيه ثيو وتُرجمت إلى مختلف لغات العالم دورا مهما في التعبير عن شخصيته، لكنّ تأثير رسومه لا يزال قائما. وإذا ما كان فنسنت عانى في حياته من سخرية فناني باريس الذين اعتبروه فنانا صينيا، وهو ما دفع به إلى الهروب إلى آرل في الجنوب الفرنسي، فإن التقدير الذي حظي به فنه بعد سنوات قليلة من وفاته، صار يتسع مع الوقت حتى بلغ درجة صار الإقبال فيها على رؤية عدد من لوحاته لا يقل عن الإقبال على رؤية موناليزا دافنشي.

نستطيع القول على وجه اليقين إن فنسنت لو عرف بهذه الشهرة التي تحققت له، فإنه كان ليعتبرها نهاية كئيبة. ذلك لأنه لم يكن يفكر في الانتشار الشعبي عبر العشر سنوات التي مارس فيها الرسم.

نستطيع القول على وجه اليقين إن فنسنت لو عرف بهذه الشهرة التي تحققت له فإنه كان ليعتبرها نهاية كئيبة

غزل نادر بالطبيعة

يضمّ المعرض الحالي الذي يمكن اعتباره أكبر معرض يُقام لفنسنت 61 عملا (47 لوحة و14 رسمة) انتقاها المنظمون من بين أعماله التي نفذها في مدينتي آرل وسان ريمي سنتي 1988 و1889 وهما السنتان اللتان سبقتا وفاته منتحرا عام 1890. في السنتين المذكورتين رسم فنسنت (الاسم الذي كان يوقّع به لوحاته) أكثر من 200 لوحة، بالرغم من أنه كان يُصاب بإنهيارات عصبية متلاحقة.

HENRY NICHOLLS - AFP
لوحة "غرفة النوم" (1889) والبورتريه الذاتي لفنسنت فان غوغ.

في المعرض، محاولة لإزاحة تأثير حياته الشخصية التي تحولت إلى ما يشبه الأسطورة. وبالنسبة إلى رسام من نوع فان غوغ الذي حيكت حول عذاباته الحكايات المسلية بالرغم من أن الألم هو الخيط الذي يشكل العمود الفقري لتلك الحكايات، من الصعب عزل فنه عن حياته أو التقاط الجانب المشرق في تجربته فنانا بعيدا عن تأثير وقائع تعاسته التي ضٌخّمت بدءا من هروبه إلى آرل وانتهاء بقطع أذنه مرورا بمحاولته قتل صديقه الأعز بول غوغان.

يبدو هذا المعرض الذي أصرّ منظّموه على مقاومة الأسطرة الشعبية لفان غوغ، محاولة لصنع مسار تاريخي جديد يليق بعاطفته ولا يستلهم عاطفة الآخرين وإشفاقهم. فنسنت فنانا، هو الأهم بعد أكثر من مائة وثلاثين سنة على غياب فنسنت الإنسان. يحتفي الفنان بالطبيعة بطريقته الخاصة التي غالبا ما انطوت على معان رمزية. غير أن الطابع الاحتفالي الذي شكل دافعا رئيسا للرسم، لا يمكن التغاضي عنه لشدة تأثيره. لا يحتوي المعرض إلا على عدد قليل من الرسوم الشخصية، منها بورتريه شخصي يظهر فيه فنسنت عاشقا. أما باقي اللوحات فيمكن اعتبارها غزلا بالطبيعة وبالتفاصيل الصغيرة التي أحاطت به وكانت عالمه.

من الصعب عزل فنه عن حياته أو التقاط الجانب المشرق في تجربته فنانا بعيدا عن تأثير وقائع تعاسته

اللوحة التي عشقها الشعراء

"ليلة مرصعة بالنجوم"، لوحته التي يعود تاريخ رسمها إلى عام 1888 والمستعارة من متحف "أورسيه" بباريس، عُرضت في القاعة الأولى بعد صورة صديقه العاشق. تلك لوحة حظيت باهتمام الشعراء بمختلف اللغات ومنهم شعراء عرب لم يرها بعضهم مباشرة بل تأثروا بصورها الفوتوغرافية. النظر المباشر إلى تلك اللوحة، يُلهم مشاعر وأفكارا لا يمكن ضبطها في منطقة مزاجية بعينها. ذلك لأن فنسنت لم يرسم كل ما نراه في اللوحة. كان الأمر بالنسبة إليه عبارة عن ضربات فرشاة. لم يكن المشهد الذي صوّره فنسنت بدقة ومهارة بكل ما انطوى عليه من تأثير عاطفي مصدره شعرية اللحظة، سوى عدد من الضربات التي ظلت تتفاعل مع خيال المشاهدين من طريق الإيحاء.

HENRY NICHOLLS - AFP
لوحة "ليلة النجوم فوق نهر الرون" للرسام الهولندي فنسنت فان غوغ.

كان ذلك عملا مدهشا استحق أن يكون مقدمة لذلك الفيض الشعري الذي تميز به عالم فان غوغ. ما فعله الرسام في تلك اللوحة، انطوى على رسالة مبطنة إلى الرسامين الانطباعيين الذين لم يحتصنوه في باريس. وكما يبدو واضحا، فإن فنسنت أفسد بلوحته تلك الكثير من أحلامهم التقنية. "ليلة مرصعة بالنجوم"، نفذها فنسنت برؤية فنان حالم تمكن من القفز على الوصف الخارجي لكي يرينا مشهد السماء كأنه فكرة شعرية. ضربة هنا وضربة هناك ولا شيء يُرسم. فالمشهد يمكن تخيله كأنه مرسوم. ذلك جزء مما يمكن أن يفعله الشعر. الفرشاة كانت تتخيل عالما سنراه مثاليا في ما بعد.

رسّام أشبه باللغز

من بين الـ 200 لوحة التي رسمها فنسنت بين آرل حيث أقام منزله الأصفر وسان ريمي (هناك يقع المستشفى الذي كان يُعالح فيه)، اختار المنظمون اللوحات التي صور فيها فنسنت الحدائق ومفرداتها. ومن أجل استكمال الموضوع الشعري، عرضت أربعة بورتريهات، واحد له وثلاث صور أخرى هي جزء من سيرته الشخصية. المنزل الأصفر وغرفته في آرل وكرسيه الشهير.

يليق بأكبر المتاحف الفنية ببريطانيا أن ينهي مئويته الثانية بمعرض لرسام لا يزال أشبه باللغز

ولكن كيف رسم فنسنت الطبيعة؟ هنا بالضبط يكمن درسه العظيم. وهو درس يمتد بجذوره إلى تربيته البصرية التي شكّل إعجابه بالمحفورات اليابانية جانبها الأهم. كما قلت في السابق، كان فنسنت تحرّر من تقنيات الرسم الأوروبي حين اهتدى إلى ضربة الفرشاة وأثرها السحري. كان الصينيون يعرّفون الرسّام بأنه الرجل الذي يعرف متى يرفع يده عن اللوحة. فنسنت كان كذلك.

HENRY NICHOLLS - AFP
ثلاث لوحات لفنسنت فان غوغ: "زهور دوار الشمس" (1888)، "تهويدة: مدام أوغستين رولين تهز المهد" (1889)، و"زهور دوار الشمس" (1889).

فضيلة هذا المعرض أنه أزاح اسطورة فنسنت لنجد أنفسنا أمام فنسنت الرسام. ذلك ما ساعد في اكتشاف مهاراته التي ساعدته في الإحاطة بتفاصيل المشهد المرسوم كلها. لم يترك تفصيلا في حديقة مستشفى سان ريمي أو في المشاهد الخلوية إلا ورسمه، ولكن ليس كما هو في الواقع بل بضربات فرشاة سريعة. ذلك ما لا يمكن ملاحظته من بعيد حيث يبدو المشهد المرسوم إعجازيا في تشبهه بالواقع. الاقتراب من لوحاته على مسافة نصف متر أو أقل بسبب صغر حجمها، يعيننا على التعرف الى عبقرية الرسام التي غطت عليها الحكايات التي نُسجت حول حياته المأسوية.

فنسنت فان كوغ الذي عاش نحو 37 سنة (1835 ــ 1890) ولم يتفرّغ للرسم سوى في العشر سنوات الأخيرة من حياته، كان غزير الإنتاج إذ رسم أكثر من 800 لوحة. وبالرغم من أن أخاه ثيو كان يعمل في تسويق الأعمال الفنية، فإنه لم ينجح إلا في بيع لوحة واحدة من لوحات أخيه التي صار اليوم بعضها لا يُقدر بثمن. يليق بأكبر المتاحف الفنية ببريطانيا أن ينهي مئويته الثانية بمعرض لرسام لا يزال أشبه باللغز الذي كلما مضى الزمن تكشّف جزء جديد من أسراره.              

font change

مقالات ذات صلة