الذكاء الاصطناعي... هل يدير المصارف المركزية قريبا؟

سيزيد أخطار القطاع المالي لكن سيحسن توقعات التضخم والطلب على الأوراق النقدية وتنظيف البيانات

نيكولا فيراريس
نيكولا فيراريس

الذكاء الاصطناعي... هل يدير المصارف المركزية قريبا؟

دعا بنك التسويات الدولية (BIS) الذي يعتبر "مصرف المصارف المركزية"، لـ 63 دولة، في يونيو/حزيران المنصرم، إلى السعي للاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي لتطوير أدوات المصارف المركزية التحليلية من خلال تتبع البيانات في الوقت الفعلي. ومن شأن ذلك أن يعمق معالجتها لهذه البيانات ويحسن قدرتها على التنبؤ بتوجهات التضخم بشكل آني وأكثر دقة.

كان رصد المؤشرات الاقتصادية هذا، غير متاح في أعقاب جائحة "كوفيد - 19" والغزو الروسي لأوكرانيا، حيث فشل الاحتياطي الفيديرالي الأميركي والمصرف المركزي الأوروبي وغيرهما من المصارف المركزية الكبرى في فهم حجم ارتفاع التضخم على نطاق عالمي.

وقد أوضح الفصل الخاص من التقرير الاقتصادي السنوي لبنك التسويات الدولية لعام 2024 آثار التطبيقات الجديدة للذكاء الاصطناعي على المصارف المركزية، فأشار إلى توقعات بأن يؤثر الذكاء الاصطناعي على النظام المالي وأن يعيد تشكيل أسواق المال والعمل، وتاليا توجهات الإنتاج والنمو الاقتصادي بشكل جذري. وذكر أن اعتماد التكنولوجيا الحديثة على نطاق واسع، انعكس على قدرة الشركات على تعديل الأسعار بسرعة أكبر، استجابة للتغيرات في الاقتصاد الكلي، مما رتب تأثيرات على ديناميكيات التضخم.

سيزيد الذكاء الاصطناعي أخطار القطاع المالي، من أهمها اعتماد بيانات تتضمن تحيزات أو نماذج غير سليمة، والانكشاف على أنواع جديدة من الهجمات والجرائم السيبرانية أكثر تعقيدا

سيكون القطاع المالي من أكثر القطاعات استفادة من الذكاء الاصطناعي، إذ سيرفع الأخير كفاءة القطاع في الإقراض والوساطة المالية والتأمين وتوقع أوضاع السوق والتدفقات النقدية، وسيحقق إدارة أفضل للأصول والسيولة والمدفوعات والمهمات المتكررة. وسيقلل الذكاء الاصطناعي أيضا تكاليف النشاطات التي يقوم بها البشر تقليديا وتستغرق وقتا طويلا، وسيساهم في تقديم خدمات أفضل للعملاء ويعزز قدرة القطاع على كشف الاحتيال و"الامتثال" الدقيق للوائح التنظيمية، في مقدمها "معرفة العميل" (Know Your Customer – KYC) ومكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

ديانا استيفانيا روبيو

في المقابل، سيزيد الذكاء الاصطناعي أخطار القطاع المالي، أهمها أخطار اعتماد بيانات تتضمن تحيزات أو نماذج غير واضحة وغير سليمة، والانكشاف على أنواع جديدة من الهجمات والجرائم السيبرانية أكثر تعقيدا، والقيام بتصرفات من نمط القطيع، حيث سيفضي الذكاء الاصطناعي في حالات معينة إلى إثارة الأزمات أو إلى تفاقمها، وفقا لما صرح به غاري غينسلر، رئيس هيئة الأوراق المالية وعمليات البورصة الأميركية وأستاذ الاقتصاد والإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. من هذه الحالات، تلك التي تكون فيها أدوات الذكاء الاصطناعي مدربة على بيانات تأخر تحديثها في الوقت المطلوب، فتأتي التوقعات والقرارات المرتبطة بها مشوهة. كذلك يمكن للذكاء الاصطناعي أن يجعل الوظائف فائضة على الحاجة في القطاع المالي، لكنه قد يوفر فيه، في المقابل، وظائف جديدة، مع ما يحمل ذلك من أخطار تركيز التقنيات في أيدي عدد صغير من المتخصصين.

المصارف المركزية وأدوات التعلم الآلي

تقف المصارف المركزية عند تقاطع النظامين النقدي والمالي والمصرفي. فباعتبارها راعية للاقتصاد من خلال تفويضها بالسياسة النقدية، فإن دورها محوري في الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي ونظام الدفع. كما يلعب العديد منها دورا في تنظيم المصارف التجارية وغيرها من المشاركين في النظام المالي، والاشراف عليها.

تعتبر البيانات المورد الرئيس للمصارف المركزية، ولم يعد السؤال المطروح هو ما إذا كان ينبغي استخدام الذكاء الاصطناعي، بل كيفية استخدامه بفاعلية ومسؤولية للتمكن من توفير البيانات في الوقت المناسب

تعتبر المصارف المركزية أيضا في مقدمة الجهات التي تجهزت بأدوات التعلم الآلي، وبسبب حصتها العالية من المهمات التي تتطلب مهارات معرفية تعتمد على البيانات المكثفة، هي في وضع مميز لجني فوائد أدوات الذكاء الاصطناعي في دعم مهماتها الرئيسة، من إرساء سياسات نقدية وإشراف ورقابة على أنظمة الدفع وعلى القطاعين المصرفي والمالي، وذلك من خلال جمع البيانات والمعلومات وتحليلها إحصائيا واقتصاديا بإطار كلي. 

تعتبر البيانات المورد الرئيس للمصارف المركزية، وزادت أهميتها مع بروز الذكاء الاصطناعي وقدرته على استخدام البيانات بمعدل هائل وغير مسبوق.  

نيكولا فيراريس

إذ لم يعد السؤال المطروح هو ما إذا كان ينبغي استخدام الذكاء الاصطناعي، بل كيفية استخدامه بفاعلية ومسؤولية للتمكن من توفير البيانات في الوقت المناسب، منظمة أكانت أم غير منظمة، ولهيكلتها بطريقة تؤدي إلى تقييمات وتنبؤات آنية وعالية الدقة يمكن تحديثها بسهولة بمجرد توفر البيانات الجديدة لحاجات السياسة النقدية، مثل نمو الناتج المحلي الإجمالي والتضخم والعمل والإنتاج، والعرض، والطلب وغيرها. 

حوكمة البيانات والشركات التجارية

وبما أن أي مؤشر لا يكفي وحده عادة لتتبع النشاط الاقتصادي بدقة في الوقت الفعلي، فإن نماذج التنبؤ الآني غالبا ما تعالج مجموعات من البيانات المتنوعة والمعقدة التي قد لا يتوفر بعضها على الدوام، مما يصعب التنبؤ الآني والدقيق أو تطوير مؤشرات إنذار مبكر تنبه المشرفين إلى نقاط الضغط الناشئة أو التي قد تنشأ وترتبط بأخطار قد تطال النظام بأكمله.

توجهت المصارف المركزية إلى اعتماد نظام المشتريات المشتركة، ومن الأمثلة على ذلك، منصة "بي. آي. إس. أوبن تك" التي تدعم التنسيق بين المصارف المركزية في تطوير المعايير المشتركة وتبادل البيانات

لا تقتصر التحديات التي تواجه المصارف المركزية على الحصول السريع والآني على البيانات، بل تتعلق أيضا بحوكمتها، أي إعادة صياغتها بنماذج مفيدة من خلال استخدام نماذج "خارجية جاهزة"، أو تطوير بنية لإعداد نماذج "داخلية ذاتية".

وقد يكون الخيار الأول، أي استخدام النماذج الخارجية، أكثر فاعلية من حيث التكلفة، لكنه يعرض المصارف المركزية للأخطار بسبب الاعتماد على عدد قليل من المزودين الخارجيين. ففي الوقت الراهن، باتت البيانات في غالبيتها بيد القطاع الخاص، وصارت الشركات التجارية التي تتعامل بالبيانات أكثر أهمية على نحو متزايد، وتلجأ المصارف المركزية إلى خدماتها على نطاق واسع. وقد زادت تكلفة هذه الخدمات والبيانات بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وفرض مزودوها شروط استخدام أكثر صرامة.

ديانا استيفانيا روبيو

لمعالجة هذه التحديات، توجهت المصارف المركزية إلى اعتماد نظام المشتريات المشتركة أو التعاون لتبادل الخبرات. ومن الأمثلة على ذلك، منصة "بي. آي. إس. أوبن تك" (BIS Open Tech) التي تدعم التنسيق بين المصارف المركزية في تطوير المعايير المشتركة وتبادل البيانات والنماذج والبرامج الإحصائية نفسها، ومشروع "رايفن" (Raven) لتعزيز المرونة السيبرانية، ومشروع "أورورا" (Aurora) لاكتشاف نشاطات غسيل الأموال وتمويل الارهاب عبر الحدود ومكافحتها.

استخدامات المصارف المركزية للذكاء الاصطناعي

إضافة إلى مشاريع أخرى مثل "غايا وإليبس" (Ellipse وGaia) و"سيمبيوزس" (Symbiosis) و"نيو" (Neo) و"سبكتروم" (Spectrum) و"إنسايت" (Insight)، وهي تغطي مجموعة واسعة من حالات الاستخدام، من جمع المعلومات وتجميع الإحصاءات ومراقبة المدفوعات والإشراف عليها وتحليل الاقتصاد الكلي والتحليل المالي، إلى تحليل السياسة النقدية وغيرها.

يستخدم المصرف الذكاء الاصطناعي من أجل توقعات التضخم والنشاط الاقتصادي والطلب على الأوراق النقدية، ومراقبة تطور مستوى الثقة في القطاعات الرئيسة للاقتصاد، وتنظيف البيانات والتحقق منها

حاكم البنك المركزي الكندي تيف ماكلم

تتيح تطبيقات الذكاء الاصطناعي للمصارف المركزية شريحة واسعة من الاستخدامات، من فهم أفضل للعوامل التي تساهم في التضخم وإجراء تحليل معمق للاستقرار المالي ودعم التنظيم الاحترازي الكلي وإعداد التوقعات الدقيقة في خصوص التضخم وأسواق العمل والإنتاج والنمو الاقتصادي، إلى إدارة المدفوعات والأخطار والتحوط منها، كما من الهجمات  السيبرانية.  

ففي ندوة عقدت في مركز الابتكار الذي يديره بنك التسويات الدولية، في تورونتو أخيرا، لتعزيز التعاون بين الجامعات والقطاع الخاص والمصارف المركزية لاستكشاف أحدث التقنيات، كشف حاكم البنك المركزي الكندي تيف ماكلم، أن المصرف يستخدم الذكاء الاصطناعي من أجل توقعات التضخم والنشاط الاقتصادي والطلب على الأوراق النقدية، ومراقبة تطور مستوى الثقة في القطاعات الرئيسة للاقتصاد، وتنظيف البيانات والتحقق منها، وتحسين كفاءة عمليات المصرف وتقليل الأخطار التي تتعرض لها. وأشار الى أنه يعتبر التعامل مع الذكاء الاصطناعي كالدخول إلى غرفة مظلمة، "مما يستدعي التقدم بحذر لتحديد الاشياء حولنا، وكلما تقدمنا باتت هناك حاجة مستمرة لمعلومات وأبحاث وتحليلات أفضل عن كيفية انتشار التكنولوجيا وفهم سلوك المستهلك والشركات وممارسات التسعير".

الاستعلام عن مهارات أعضاء مجلس الإدارة في المصارف

وخلص إلى ضرورة الأخذ في الاعتبار العواقب الأخلاقية. فليس من السهل إيجاد توازن بين التقدم وتشجيع الابتكار والتحوط في إطار تحمل المسؤوليات.

ولفت إلى أن المصرف يعتمد حاليا مبادئ توجه استخدامه للذكاء الاصطناعي، أهمها، اعتماد الشفافية عند استخدام الذكاء الاصطناعي لإنجاز مهمة ما ووضع الضمانات لإظهار القدر الكافي من التشكك في صحة البيانات عند استخدامه لإنشاء محتوى أو اجراء تحليلات.

بات في الإمكان مع تطورات الذكاء الاصطناعي، تحليل كميات البيانات المصرفية بسرعة ودقة وتحسين اكتشاف الأخطار

عضو مجلس الإشراف المصرفي الأوروبي، إليزابيث ماكول

تبشر تطورات الذكاء الاصطناعي بنتائج واعدة في ما خص تطبيقات رقابة المصارف المركزية على القطاع المصرفي. في هذا الإطار، ذكر الأمين العام للجنة "بازل" نيل إيشو، "أن عمليات الرقابة لتحديد ما هو آمن وسليم والقدرة على التمييز بين الابتكار المسؤول والابتكار غير المسؤول، ستشهدان تحسنا بلا أدنى شك. ولا يزال هناك شوط يجب قطعه".

أما إليزابيث ماكول، عضو مجلس الإشراف المصرفي الأوروبي، فرأت أنه بات في الإمكان مع تطورات الذكاء الاصطناعي، تحليل كميات البيانات المصرفية بسرعة ودقة وتحسين اكتشاف الأخطار. وأشارت إلى أنه تم تجهيز المصرف  المركزي الأوروبي بالعديد من التطبيقات خلال السنوات الثلاث الماضية، منها الـ"سوب تك" (SupTech) للتعامل مع تعقيدات القطاع المصرفي، ونموذج المحادثة (chatbot) للاستعلام عن بيانات الرقابة والمنهجيات الاحترازية، و"أثينا" (Athena) لترجمة وتحليل  ودمج محتوى المستندات، و"غابي" (GABI)  لإجراء المقارنات، و"نافي" (NAVI) لتأمين نظرة شاملة وواضحة عن هياكل الملكية المعقدة للمصارف، و"همدال" (Heimdall) لتقييم سمعة ومهارات أعضاء مجلس الإدارة في المصارف، و"ميدوزا" (Medusa) لصياغة التقارير والتحقق من اتساقها مع عمليات التفتيش، و"أغورا" (Agora) للعثور على نقاط بيانات محددة.  

جدير بالذكر أن دور الإشراف المصرفي الذي يضطلع به المصرف المركزي الأوروبي يتلخص في الأساس بضمان سلامة ومتانة المؤسسات المالية التي يشرف عليها وليس إملاء نماذج وتكنولوجيا يتعين على الأخيرة أن تتبناها. فالخبرة البشرية ستظل ضرورية لضمان الحصول على نتيجة موثوق بها.

عدم السماح بأن يحل الذكاء الاصطناعي مكان البشر

خارج الدائرة الاوروبية، يشار إلى اعتماد البنك المركزي البرازيلي نموذجا أوليا لروبوت، بهدف معالجة شكاوى العملاء في شأن المؤسسات المالية وتصنيفها، واستعانة الاحتياطي الهندي بشركتي "ماكينزي" و"أكسنتشر" الاستشاريتين للمساعدة في تعميم استخدام الذكاء الاصطناعي وعمليات التحليل المرتبطة به في أعمال الرقابة التي ينفذها.

تبقى حوكمة البيانات أهم تحديات اعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المصارف المركزية، من خلال الحفاظ على سريتها والتأكد من موثوقيتها، والأخطار التشغيلية الجديدة

حذر هيون سونج شين، مدير الأبحاث وكبير المستشارين الاقتصاديين في بنك التسويات الدولية، من مغبة أن يعتبر صنّاع السياسات، الذكاء الاصطناعي "أمرا سحريا" بدلا من اعتباره ابتكارا يمكن أن يساعد في العثور على الإبرة في كومة القش، وفي تحديد نقاط الضعف في الأنظمة المالية. وشددت سيسيليا سكينغسلي، مديرة مركز الابتكار في البنك، على أهمية عدم السماح بأن يحل الذكاء الاصطناعي مكان البشر في أمور معينة، فينقلب إلى روبوت يحدد أسعارا حيوية كالفائدة، وغيرها من الأمور. فوجود عملية تدار بالكامل من طريق الذكاء الاصطناعي، تحمل في ثناياها أخطارا كبيرة قد تكون مدمرة.

تبقى حوكمة البيانات أهم تحديات اعتماد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المصارف المركزية، من خلال الحفاظ على سريتها والتأكد من موثوقيتها، والأخطار التشغيلية الجديدة وأخطار إدارة النماذج والمسؤولية من استخدام تطبيقاتها ومن استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل عام. والمسؤولية الأخيرة باتت واضحة ومحددة بعد اعتماد الاتحاد الاوروبي أخيرا أول قانون للذكاء الاصطناعي.

font change

مقالات ذات صلة