في الحرب الجوية الطاحنة على لبنان، تحول مصطلح "الكلمة للميدان" جوابا وحيدا غير شافٍ، للمتحدثين المتبقين باسم "حزب الله" و"محور الممانعة". المقصود بذلك، هو اختبار قدرة اسرائيل العسكرية على الاحتلال البري الدائم للأرض، في مقابل منعها من تحقيق هذا الهدف واستمرار إطلاق الصواريخ. لكن تأثير إطلاق الصواريخ في "ميدان" كريات شمونة وحيفا لا يكاد يُذكر، مقارنةً بـ"الاحتلال الجوي" الاسرائيلي لكل لبنان، وما يلحقه من قتلى وجرحى ودمار ورعب على مدار الساعة وعلى مساحة الجمهورية اللبنانية.
وسط هذه الحرب الوحشية، صارت كلمة "الميدان"، من غزة الى لبنان، مبتذلة وعبثية، بل جريمة متمادية بكل المقاييس الانسانية والعسكرية والاقتصادية، في ظل التفوق العسكري الساحق الماحق، والأوامر المطاعة لأفيخاي أدرعي، والحصيلة المترتبة على الغارات اليومية للطيران الإسرائيلي على مساحة البلاد من ضحايا ودمار.
إنه لمشهد كارثي يعيشه اللبنانيون، الذين لا بدّ أن يستفيقوا على الطامة الكبرى التي ستتظهر أحمالها الثقيلة جدا على "ميادين" ما بعد الحرب، الإنسانية والصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي ستستمر تداعياتها لسنوات طويلة. وهي سنوات ستضاف الى الأعوام الخمسة للأزمة المالية والمصرفية، مما سيضع البلاد وعافيتها الاقتصادية، وغالبية اللبنانيين، أمام نحو عقد من المعاناة الاجتماعية والمعيشية، يضاف الى نصف قرن مضى على حروبٍ ومآسٍ متناسلة منذ عام 1975.
ستتظهر غدا الأحمال الثقيلة جدا على "ميادين" ما بعد الحرب، الإنسانية والصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي ستستمر تداعياتها لنحو عقد من المعاناة
تقول تجاربنا مع طائر الفينيق، إننا سنحتاج الى ما لا يقل عن 10 سنين للنهوض من رماد النكبة الراهنة، وللتحرر من أثقال النكبة المصرفية المالية العالقة منذ 2019. هذا إذا تم الاتفاق فعلا على تطبيق القرار 1701، الذي ترى وثيقة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب المسربة عن لبنان أن الأحداث تجاوزته. على أن يتوافر التمويل الجدي الفوري لاستعادة ما سيتبقى من لبنان، في محاولة العودة الى اقتصاد ما قبل "المشاغلة والمساندة".
ثمة دون تحقيق ذلك أيضًا، الافراج عن انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة جديدة من دون تأخير، على أن لا يُستقبَل العهد الجديد والحكومة الموعودة باعتصامات وعراقيل، كتلك التي شهدنا مثيلاتها في تجارب مخيمات "الميدان" في وسط بيروت، و"السردية العونية" ما بعد 2006. يضاف إلى ذلك، ما يعيق التوصل إلى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي من شروط وموجبات.
هذا كلّه، ما لم تندلع حربٌ أهلية مستجدة، من نوع إبداعي "فينيقي" أو "إلهي" جديد وغير مسبوق.
الدمار طاول أكثر من 100 ألف وحدة سكنية وتجارية حتى الآن... والخسائر الاقتصادية تتجه لتعادل كامل الناتج المحلي للبنان
الخسائر الاقتصادية قد يعوَّض بعضها مع الزمن، لكن الدماء التي أهدرت لا تعوَّض. مؤلمةٌ هي الحقائق والأرقام التي تسجَّل كل يوم، والتي بلغت عند كتابة هذا المقال 3445 قتيلا و14599 جريحاً، بينهم آلاف سيحملون إعاقات وحروقا دائمة، منذ بدء "حرب الإسناد"، ناهيك بأكثر من مليون شخص نزحوا من بيوتهم وقراهم، جزءٌ لا يستهان به منهم لن يتمكنوا من العودة إلى قراهم وبلداتهم. ولا بدّ أن تترتب على مرحلة الاندماج الدائم في المجتمعات التي نزحوا إليها، تحولات اجتماعية وديموغرافية واختلالات في الموازين الاقتصادية بين المناطق.
40 قرية مسحت من خريطة الجنوب
رصد تقرير للبنك الدولي صدر قبل يومين تدمير 100 ألف وحدة سكنية كليا أو جزئيا، مقدّرا الخسائر الاقتصادية بنحو 8,5 مليارات دولار، أي ما يوازي تقديرات نصف الناتج المحلي المتدهور حاليا، علما أن التقرير يغطي الفترة حتى 27 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم. واعتمد البنك على مصادر بيانات وتحليلات لتقييم الأضرار والخسائر الاقتصادية عن بعد، في سبعة قطاعات رئيسة، وقدّر التراجع في الناتج المحلي بنسبة 6,6 في المئة، تضاف إلى 34 في المئة تراجعا منذ بداية الأزمة المالية عام 2019.
في المقابل، تحدثت مراكز دراسات محلية عن تدمير مقومات العيش في أكثر من 40 قرية وبلدة ومدينة، ومسحها بالكامل من خريطة الجنوب، وتسوية عشرات الأحياء السكنية بالأرض في ضاحية بيروت الجنوبية. وقدرت تلك الدراسات أن يطاول الدمار أكثر من 150 ألف وحدة سكنية وتجارية حتى الآن، وأن لا تقل الخسائر المباشرة وغير المباشرة عن 12 مليار دولار، فضلا عن فقدان نحو 280 ألف شخص عملهم ووظائفهم.
لن تقل الخسائر المباشرة وغير المباشرة عن 12 مليار دولار، فضلا عن فقدان نحو 280 ألف شخص عملهم ووظائفهم، وأحراق مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وبساتين الزيتون
في القطاع الزراعي أحرقت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وبساتين أشجار الزيتون المعمرة، مع تسجيل غياب أي تقديرات جدية للخسائر من مناطق البقاع وبعلبك المستهدفة بالغارات يوميا.
نحو "ميادين" البيت الواحد وجبهاته
بعيدا من المقارنة مع حرب تموز 2006 التي استمرت شهرا واحدا، وكانت أخف وطأة لجهة الضحايا والدمار، والآثار الاجتماعية والاقتصادية التي أسفرت عنها، فإن احتمال استمرار "النتائج الباهرة" لـ"الميدان" لشهرين آخرين، حتى تسلم الرئيس المنتخب ترمب مهماته، قد يوصل عدد الوحدات السكنية المدمرة إلى 200 ألف، أي ما يوازي تقريبا تلك التي دمرها زلزال تركيا في بداية عام 2023، ويرفع الخسائر الاقتصادية إلى 17 مليار دولار، أي ما يوازي كل الناتج المحلي الاجمالي اللبناني المتدهور بنسبة إضافية قد تصل الى ما بين 35 و 50 في المئة في الشهر الأخير من السنة.
في المقابل، من المفيد التذكير هنا أن الناتج المحلي الإسرائيلي يبلغ 528 مليارات دولار، واحتياط العملات الأجنبية لديها يبلغ 216 مليار دولار في نهاية أكتوبر/تشرين الأول المنصرم.
الاختناق المالي والاجتماعي المكلل بـ"اللائحة الرمادية" قد يفضي إلى فتح ميادين وجبهات نزاع بين أفراد البيت الواحد بما يفوق كوارث "الميدان" الجنوبي خطورة ورعبا
بحسابات الأرقام، التي لا تعرف الرحمة، ماذا يعني هذا كله، في ظل مالية الدولة العاجزة عن إغاثة 200 ألف نازح وإطعامهم في مراكز الإيواء فقط، يعني مزيدا من الاختناق المالي والاجتماعي المكلل بـ"اللائحة الرمادية"، الأمر الذي سيؤجج صراعات داخلية ومعيشية فور التوصل الى وقف لإطلاق النار، أو ربما قبله إن لم يحصل قريبا، وقد يفضي أيضا إلى فتح ميادين وجبهات نزاع بين أفراد البيت الواحد بما يفوق كوارث الميدان الجنوبي خطورة ورعبا...