بعد أربع سنوات من نشر باكورتها الروائية الأولى "الأرخبيل" (1981)، التي لاقت نجاحا معقولا، بدت الكتابة، في العام 1985، كل ما تملكه الكاتبة الإسبانية أديلايدا غارثيا موراليس (1945-2014) مع اقترابها من بلوغ الأربعين. سن الأربعين محورية في تاريخ الكتابة الروائية إذ يرى كتّاب عديدون أنها السن المناسبة للبدء بمشروع روائي جدي، سواء كانت نُشرت لهم أعمال قبل ذلك أم لا، بل إن جميع الأعمال الروائية الكبرى لكبار الكتّاب لم تُكتَب إلا عند سن الأربعين وما بعدها.
معظم "الحرب والسلم"، و"آنا كارينينا" لتولستوي، جميع أعمال دوستويفسكي وفرجينيا وولف الكبرى، "عوليس" لجيمس جويس، و"بحثا عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، "ثلاثية" نجيب محفوظ وما تلاها، وكل أعمال عبد الرحمن منيف. لعل تشارلز ديكنز ووليم فوكنر استثناء هنا، غير أن أعمالهم اللاحقة – بعد الأربعين – ليست محض إثبات حضور، بل نجد فيها ما قد لا نجده في الأعمال الأولى. كانت أعمالا تغوص في الذاكرة بقدر غوصها في الواقع، لتهبنا تعتق التجربة والمشاعر والأفكار والوعي.
كان العام 1985 عاما جوهريا في مسيرة غارثيا موراليس إذ نشرت أعظم عملين لها، كتاب يضم روايتين قصيرتين: "الجنوب" و"بينيه"، وروايتها الأعظم والأشهر "صمت السرينات".
لم تُترجَم "صمت السرينات" إلى العربية بعد، غير أننا محظوظون لأن مارك جمال نبش الكتاب الأول وترجم لنا هاتين النوفيلتين البديعتين، حيث صدرت الترجمة في كتابين مستقلين عن "منشورات تكوين" في الكويت. لعل الأفضل كان ترك العملين على حالهما، نوفيلتين في كتاب واحد، إذ هما ليستا مستقلتين كما يبدو للوهلة الأولى رغم اختلاف عالمهما الظاهري، عدا أن غارثيا موراليس تعمدت نشرهما معا، إذ كانتا – في معنى من المعاني – موشورين أو مرآتين لثيمة واحدة هي الفقد والهجران، وتلمّس ندوب الذاكرة على لسان أنثى تكتب حياتها بقدر ما تكتب حياة من مروا في حياتها، بل إن حجمهما يكاد يكون متطابقا في النسخة الإسبانية الأصل: "الجنوب" 52 صفحة، "بينيه" 58 صفحة.
الذات والآخر
حكايتان عن الذات وعن الآخر، وعن كيفية كتابة الذات عبر استعادة حياة الآخر بهدف إدراك معنى حياة الذات، وكأن غارثيا موراليس تومئ إلينا أننا عاجزون عن كتابة ذواتنا حتى لو افترضنا استقلاليتها، وعاجزون عن تدوين ذاكرتنا حتى لو ادعينا امتلاك جميع مفاتيحها، وعاجزون حتى عن فعل التذكر والاستعادة حتى لو ظننا أننا سنسدد حسابنا حيال الماضي بحيث ينتهي الحساب مع النقطة الأخيرة التي تُنهي النص. ثمة ذاكرة أخرى، وحضور آخر، وحيوات أخرى لا تنفع معها النقاط الختامية، إذ تبقى معنا بل وتعرف جوهر وجودنا، سواء كانت نيتنا تذكر أنفسنا أم الاخرين، كتابة ذواتنا أو كتابة الآخر، إذ هما الجوهر ذاته في عالم غارثيا موراليس السديمي المغوي.