باريس- لا يشبه خريف باريس خريف الشرق الأوسط. خريف باريس هادئ وقصير، رذاذ المطر الخفيف يغرق المدينة في شبه عزلة عن العالم، كأنه يدعو الناس إلى ترك كل شيء والانصراف إلى الشعر والموسيقى في الأزقة القديمة الضيقة التي هجرتها الحروب والأزمات الكبرى منذ أكثر من نصف قرن فانصرفت إلى "الحياة العادية". خريف الشرق الأوسط عاصف ومديد كأنه لا ينتهي، حتى إنه ما عاد يسع الناس النظر إلى السماء إلا لملاحقة الطائرات المغيرة، وتتبع الصواريخ العابرة للحدود، فيغدو الرعد والبرق علامة على أنّ الحياة يمكن أن تكون عادية... ولو بعد حين.
لكن على الرغم من ذلك، فإن الشرق الأوسط قريب من العاصمة الفرنسية، ارتدادات أزماته تأبى أصلا إلا أن تطال العالم من أقصاه إلى أقصاه، فكيف بباريس المدينة التي زارت الشرق مرات ومرات ولا تزال. المدينة التي يخيّل إليك أن الفكرة الأولى والجدل الأول ولدا فيها قبل أثينا وروما، وكأن الأفكار تخرج من الجامعات والمكتبات إلى الشارع وإلى البرلمان وإلى الحكومة، بين الشارع والحكومة، بين الشارع والشارع. ولذلك فإن صراعا تاريخيا و"وجوديا" كالذي يجري الآن في الشرق الأوسط، لا يفوت باريس أن تنقسم حوله، وأن تنقّب فيه وأن تخلق له نقاشا خاصا، وسردية فريدة، وانقساما من نوع آخر.
في ذاك الخريف الباريسي الذي هو بين خريفي الشرق والغرب التقت "المجلة" المؤرخ الفرنسي هنري لورنس الذي هو أيضا بين الشرق والغرب، الغرب الذي اكتسب أدواته المعرفية، والشرق الذي شغلته قضاياه ولا تزال، بدءا بحملة نابليون بونابرت إلى مصر نهاية القرن الثامن عشر وصولا إلى "مسألة فلسطين"، التي خصص لها خمسة كتب مرجعية، الشرق الذي خبره عن قريب بين الكويت ودمشق القاهرة وبيروت.
كان لا بدّ مع هنري لورنس أن نطلّ من نافذة الـ"كوليج دو فرانس"، حيث يشغل كرسي أستاذ التاريخ المعاصر للعالم العربي، على المنطقة وتحديدا على الأراضي الفلسطينية ولبنان، لاستعادة جذور الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ومحاولة تلمس مستقبله، بعقل المؤرخ لا السياسي. ولكن عندما سألناه لاحقا عن رأيه في انتخاب دونالد ترمب وتأثيراته على المنطقة، أجاب باختصار: "أنا مهتم باستنطاق الماضي لا المستقبل"، وهذا أبلغ جواب سياسي يمكن أن يصدر عن مؤرخ.
وفي الآتي نص الحوار:
* أود أن أبدأ برؤيتك كمؤرخ، تقول إن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني يجد أصوله في نهاية القرن الثامن عشر. إلى أي أحداث تشير؟
- دعنا نقل إن الأساس هو الثورة الفرنسية وفكر التنوير، والذي يتضمن، على وجه التحديد، تعريفا للمساواة. يولد الرجال أحرارا ومتساوين في القانون، وهذا يعني التحرر للأشخاص الذين ليسوا متساوين في الحقوق، وعلى وجه الخصوص يهود أوروبا. من ناحية أخرى، منذ اللحظة التي تفرض فيها المساواة في الحقوق، فإنك تشكل في الوقت نفسه مجموعة جديدة هي الأمة. وبالتالي، هذا أيضا مصدر للقومية. في القرن التاسع عشر، كان الحديث بالأحرى عن مبدأ الوطنية، ثم بدأ الحديث عن القومية، وهذا ألهم يهود أوروبا.
* أليست هناك أية أصول شرق أوسطية أو مشرقية لهذا الصراع؟
- في الشرق الأوسط، الأمر نفسه، مع فارق زمني وتزامن في التطور. كان المجتمع العثماني، مثل المجتمعات الأوروبية، مجتمع نظم غير متساوية. وتحديث المجتمع العثماني أدى إلى تدمير الأجسام الاجتماعية غير المتساوية، وليس فقط لناحية إعلان المساواة في الحقوق بين المسلمين وغير المسلمين، بل أيضا لناحية ظهور الحركات الوطنية والقومية.