الشاعر السوداني هاشم صديق يدوّن آخر "جواب للبلد" ويرحل

"واقف أنا ودايس على الإبر المسممة بالكلام"

الشاعر السوداني الراحل هاشم صديق.

الشاعر السوداني هاشم صديق يدوّن آخر "جواب للبلد" ويرحل

رحل السبت الماضي الشاعر السوداني هاشم صديق (1950-2024) بعد صراع مع المرض ومعاناة شخصية تفاقمت مع وقوع بلده في أتون حرب لا تعرف لها نهاية، تاركا وراءه 12 مجموعة شعرية وعددا من الأعمال المسرحية والمسلسلات والبرامج التلفزيونية والإذاعية.

منفعلا بنجاح الثورة وطرد الديكتاتور من القصر الرئاسي، دوّن الشاب اليافع حينها، هاشم صديق "ملحمة أكتوبر" كاملة وسماها "قصة ثورة"، وروى فيها شعرا كل الأحداث، تلك التي صاحبت الثورة وفجرتها وأدت إلى نجاحها، وغيرها التي يختزنها الشعب في صدره آمالا وأمنيات وأحلاما، ثم كتبت القصيدة بين طياتها الدقيقة برؤيوية الشعر مآلات البلاد المؤجلة في البعيد البعيد القادم.

في مشهد كأنه مقتطع من التصور النمطي لخواتيم حيوات الشعراء المخلدين في الزمن، ارتحل هاشم صديق، ابن آمنة بنت محمد طاهر، المولود في أمدرمان في العام 1950، الدرامي والأكاديمي والمسرحي الذي زعزع بمواقفه المبدئية الكثير من الأمور المسكوت عنها في أرض بلده السودان.

قضى الشاعر هاشم سبعة أشهر بعد اندلاع الحرب الأخيرة وهو طريح الفراش، وكان قبل الحرب وربما لسنوات ليست بالقصيرة، اعتزل الحياة العامة، لم يعد يظهر في الوسائط الإعلامية، اختفت مقالاته النقدية المنشورة في الصحف الورقية، ندرت قصائده التي لم تكن تترك حدثا أو مناسبة كبيرة إلا واتخذتها مدخلا لنقد "الديكتاتور" وحكمه وزبانيته المنتشرين في كل مفاصل الدولة.

قضى الشاعر هاشم سبعة أشهر بعد اندلاع الحرب الأخيرة وهو طريح الفراش، وكان قبل الحرب وربما لسنوات ليست بالقصيرة اعتزل الحياة العامة

وحين حاصرته المعارك العنيفة في مقر سكنه في مدينته الأثيرة إلى نفسه أمدرمان، كان لا بد من الخروج، بحثا عن الأمان والدواء. وكان خروجا مفارقا ساخرا ومشحونا بـ"القدرية الشعرية"... شاعر الحلم والثورة الستينية المبشرة بالحداثة والارتقاء، محمولا على ظهر "عربة كارو" يجرها حصان - في عصر الألفية الثالثة – يمضي صوب خلوده.

نبتة حبيبتي

في تسعينات القرن الماضي أحكمت حكومة الإنقاذ قبضتها، وتمكن المهووسون من الإسلامويين من تجاوز العقلاء والصعود إلى ذروة الأشياء. الفن حرام، صوت المرأة عورة وشعرها خصلة من نار جهنم، قصقصوا مقاطع البوح في الأغنيات الخالدات، حاصروا الشعراء والفنانين وأغلقوا في لحظة واحدة كل دور السينما في السودان، لينشأ جيل كامل لا يدري شيئا عن شكل "الشاشة"، ولم يجرب قط النظر إلى الأفلام داخل أروقة دور السينما، والأفدح يجهل تماما ما السينما، وما صورتها وكيف ترى وتشاهد وتفهم. في هذا الوقت خرج هاشم صديق بابتسامته الرقيقة ليقدم برنامجه التلفزيوني "دراما 90". كيف وصل، كيف تجاوز مطبات الحرام؟ لا أحد يدري، لكنه في حلقات معدودات، قرّب كثيرا معنى الصورة وفسر مرموزات الأفلام، وأعاد الناس إلى المشاهدة، قبل أن يكتشف حراس الفضيلة أن ابتسامته الرقيقة تحمل معنى ساخرا، غير مريح، ربما يستبطن دعوة "كافرة" لدك الدولة، فأوقفوا البرنامج وعزلوا الشاعر، وأزاحوه بعيدا.   

الشاعر السوداني الراحل هاشم صديق.

قبل ذلك بسنوات بعيدة، قدم هاشم في شبابه مسرحية "نبتة حبيبتي"، وقتها كان نظام الديكتاتور جعفر نميري بوليسيا تلصصيا متشككا في كل شيء ومتوجسا من كل التفاتة أو إشارة. في "نبتة حبيبتي"، التي يحيل عنوانها إلى زمان نوبي موغل في التاريخ، يمجد الحضارة السودانية وإنسانها، قدم هاشم صديق نقدا ذكيا للنظام وشكل الدولة وإدارتها وفق نسق فني بديع. أوقفت المسرحية واستدعي الشاعر - الكاتب للتحقيق وقيل إن السيد الرئيس بنفسه دخل متنكرا ليشاهد أحد العروض حتى يقبض بيديه القويتين على ريح الخيانة.

في "نبتة حبيبتي"، التي يحيل عنوانها إلى زمان نوبي موغل في التاريخ، يمجد الحضارة السودانية وإنسانها، قدم هاشم صديق نقدا ذكيا للنظام وشكل الدولة وإدارتها

على قلق دائم

كأنما يستعيد في سيرته شيئا من سيرة أبي الطيب المتنبي، كأنما مواقفه تقول إن الشاعر أبدا "على قلقٍ" لا تحده حدود ولا يوقفه طموح، معتدا بنفسه وبشعره وعلمه، أدار معاركه في كل الاتجاهات، ترك التدريس في أكثر الأماكن محبة إلى قلبه "كلية الموسيقى والدراما" إثر صدام بينه وبين مدير الكلية حينها، الذي رآه الشاعر والمسرحي متواطئا مع النظام وطرائقه الملتوية في قتل الفنون.

أعلن الشاعر منع ترديد أشعاره المغناة بحناجر كبار الفنانين مثل نضير الأزهار على أبسطة العشب الأخضر. أدار معاركه الحقوقية في الملكية الفكرية جنبا إلى جنب معارك السياسة التي كان يترافع فيها شعرا لاذعا هادما لكل بناء كاذب ومخادع. ثبت الشاعر المبدئي منذها وإلى الآن "مبدأ الحق" ونسف إلى الأبد أبنية المجاملات والاستخفاف والاستحقار بالفنان المبدع.

AFP
صبي يرعى أغنامه في أم درمان وسط دمار الحرب.

جواب مسجل للبلد

ربما لم يكتب الشاعر والمسرحي هاشم صديق شيئا خارج إطار محبته لوطنه، السودان الكبير بناسه وشعوبه وأنهره وغاباته ومآسيه المتكررة. كان يحلم بالغد الذي تتحطم فيه القيود، وكان يكتب أشعاره وكأنها جميعها رسائل بريد مرسلة الى البلد. أنتج في حياته القصيرة بعمر السنين المخلدة بمواقفه المبدئية 12 مجموعة شعرية، ولخص في قصيدة "جواب مسجل للبلد" سيرته في الحياة والشعر وعشقه للبلد:

يا بلد

اسمعيني وهاك كل البيعة كاملة

اسمي هاشم أمي آمنة

أبوي ميت وكان خضرجي

ومرة صاحب قهوه في ركن الوزارة

بيتنا طين واقع مشرم ولما حال الطين يحنن

نشقى شان يلقى الزبالة

خلي ألقاب الجرايد

من ممثل ولا شاعر

ولا كاتب ولا ناقد

كلو زي يفط الدكاكين والمطاعم

كلو زينة وما هو شاهد

تلقى مكتوب ترزي أحلام العرايس

وجوه فستان مرمي واحد

أو مطعم الجنة الفريدة

وجوه قدرة فول وحلة

ومويه للعطشان في قلة

وزي كلام شاعر بقدر

في بلدنا الحالة واحدة

المطار يا هو المحطة

والكوميت يوم تبقي كارو

والزمن بيروح أونطة

يا بلد

بتلك البساطة عاش هاشم، وبالبساطة ذاتها رحل إلى حيث الأبد.

كان يحلم بالغد الذي تتحطم فيه القيود، وكان يكتب أشعاره وكأنها جميها رسائل بريد مرسلة الى البلد

الولد الشاعر

ما الذي فعله ذلك الولد الشاعر حين كتب ملحمته الخالدة "قصة ثورة"؟ كيف استطاع أن يلخص كل ذلك الانفعال الثوري المفعم بالأمل في هذه الكلمات الحادة المباشرة، والرقيقة والموحية في الوقت ذاته؟ كيف تسنى له ذلك إن لم تكن هي العبقرية الشعرية المصاحبة لأفذاذ الشعراء والفنانين منذ فجر الكلمة الأول! تلقف العبقري الآخر الموسيقار والمغني محمد الأمين، كلمات الأغنية وصاغ منها ذاك النشيد الخالد:

يا أكتوبر

نحنا العشنا ليالي زمان

في قيود ومظالم وويل وهوان

كان في صدورنا غضب وبركان

وكنا بنقسم بالأوطان

نسطر اسمك يا سودان

بدمانا السالت راوية الساحة

حلفنا نسير ما نضوق الراحة

شهرنا سيوف عصيانا المدني

وكانت وحدة صف يا وطني

ايد في ايد حلفنا نقاوم

ما بنتراجع وما بنساوم

REUTERS
أطفال نازحون من الجزيرة ينتظرون الإفطار في مركز نزوح بنيو حلفا، السودان.

لم يتراجع الشاعر قط، ولم يتراجع الشعب، سارا معا، وثارا ضد الظلم مجددا، ودوما ولا هدن، في أكتوبر/ تشرين الأول وفي أبريل/ نيسان وفي ثورة ديسمبر/ كانون الأول المجيدة، والشاعر المحمول على ظهر "عربة كارو" أخذته إلى درب خلوده المحتوم ظل كما هو شامخا، وحالما، ومتيقنا من تحقق التغيير الآتي بلا ريب:

وهزمنا الليل

والنور في الآخر طل الدار

وهزمنا الليل

والعزة اتهادت للأحرار.

font change

مقالات ذات صلة