قبل اتفاق أوسلو بأربع سنوات، تم افتتاح السفارة الفلسطينية في عمان، وبموافقة أردنية رسمية. كان الخبر لافتا، لكن نكتة طريفة تم تداولها أيامها كانت تحمل في طياتها مفارقات التعقيد في العلاقة الأردنية– الفلسطينية من وجهة نظر الدولة والمواطنة والوحدة، وفك الارتباط والهوية "الوطنية" وكل ما تداعى بعد ذلك.تقول النكتة: "إن الطاقم الفلسطيني كلف خطاطا من العاصمة لكتابة اسم السفارة فوق بوابتها، وبينما كان الخطاط المسكين يكتب (سفارة دولة فلسطين) حانت منه التفاتة خلفه ليجد بين الناس التي تراقب المشهد بعض عناصر الأمن الأردني، فعاد إلى اللافتة الرخامية وأكمل كتابته مجتهدا: (لصاحبها جلالة الملك الحسين بن طلال)".
قبل اتفاق أوسلو الذي وقع في العام 1993، كانت النكتة تحمل طرافتها بين ضفتي النهر، فالدولة الفلسطينية لم تكن قامت بعد على أي جزء من الجغرافيا الفلسطينية المحتلة، والضفة الغربية قبل الاحتلال وبعده كانت دوما تحت الإدارة الأردنية ضمن مشروع وحدة "يراه بعض الفلسطينيين مشروع ضم" تمت صياغة الدستور الأردني لعام 1952 عليه. وهو الدستور القائم حتى اليوم بعد تعديلات عديدة أجريت عليه إلا تعديل "دسترة فك الارتباط". و "فك الارتباط" هذا قرار فردي من طرف واحد، أعلنه الملك الراحل حسين بن طلال عام 1988، وينص على فك الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية.
بعد اتفاقية أوسلو معطوفا عليها اتفاقية وادي عربة بين إسرائيل والأردن، جرت مياه كثيرة في موضوع القضية الفلسطينية والنزاع العربي- الإسرائيلي الذي جعلته "أوسلو" تحديدا نزاعا فلسطينيا– إسرائيليا، وانتهينا اليوم بحرب غزة المدمرة لا للقطاع وحسب بمنهجية عدوانية متوحشة، بل هي دفنت "أوسلو" بكل معطياتها، وفتحت الأبواب المغلقة لكل الاحتمالات الممكنة، التي لم يتم وضع صياغاتها النهائية بعد، لكنها ستكون بلا شك متأثرة، كما هي مؤثرة في تركيب الإقليم الشرق أوسطي الجديد، وهي في منتصف المجال الحيوي الأردني بكل ارتداداتها وتأثيراتها.
مع كل تلك الاحتمالات التي تحاول بلورة ذاتها لتتطور إلى سيناريوهات على الطاولة، فإن الأردن "وهو الأكثر استهدافا" لا يزال غامضا بشأن خياراته، ومحجما عن المبادرة المبتكرة خارج الطرح المعلن "حل الدولتين"، ويبدو مما نقرأ ونسمع، فإن محيط صناعة القرار بكل شخوصه "ومواقعهم المتقدمة في الدولة" مشغولون بين مدارات المناكفات الداخلية والانكفاءات التي ترسم لهم حدود أمانهم الشخصي.
التصعيد في الخطاب نحو تداعيات غزة، يميل أحيانا إلى الانزياح نحو الشعبوية، بل ربما كان يغذيها دون قصد
الأردن، الذي أخذ قراره الصحيح بالاستمرار– كدولة– في عملية التحديث السياسي، والاقتصادي حسب الممكن، والإداري الضروري لإعادة المرونة في مفاصل المؤسسات، يدرك أن المتغيرات الإقليمية تؤثر عليه، وموجة ضغط الشارع الذي يملك حساسية عالية تجاه ما يحدث في غزة والضفة الغربية، لها تداعياتها التي تجلت بوضوح على شكل مخرجات في الانتخابات النيابية الأخيرة.
وحسب قراءات رقمية لمراكز استطلاع أردنية، فإن النتائج تشير إلى انزياح كبير نحو التيار الإسلامي، الذي يتقن خطاب الشعبوية، لا عن قناعة ببرامج سياسية أو برامج إدارة حكم يتقدم بها التيار الإسلامي، بقدر ما هو انزياح نحو الشعارات التي تحاول الدفع نحو الحافة في اتخاذ القرارات غير المعقولة وغير الممكنة في كل موضوع القضية الفلسطينية.
هذا الانزياح كان من تجلياته، الحراك المتظاهر حول مبنى السفارة الإسرائيلية المهجور في حي الرابية في عمان، والذي أرسل إشارات عميقة، تتطلب مراجعات عميقة، تتجاوز المقاربات الأمنية السطحية، إلى مقاربات أكثر عمقا حول مفهوم الوعي بالدولة والمواطنة، وإعادة فتح ملف "الهوية الجامعة" التي تعرضت للشرخ عند أول منعطف جماهيري. يقابل كل ذلك خطاب رسمي غير واثق بكامل ارتباكه، لا لأن الدولة لا تملك روايتها، بل لأن من يحملون الرواية يتأرجحون على حبل مشدود من المحاذير "الوهمية"، فكان التصعيد في الخطاب نحو تداعيات غزة، يميل أحيانا إلى الانزياح نحو الشعبوية، بل ربما كان يغذيها دون قصد، مما خلق خطابا مقابلا من لدن السلطة نفسها يميل إلى الشعبوية اليمينية ويغذيها.
التسريبات– وهي كثيرة ويومية في عمان- تتحدث بصوت مرتفع أكثر هذه المرة عن تغييرات في قادة بعض المؤسسات
كل هذا التأرجح كانت مساراته في لعبة تنافسات داخلية بين قوى وأركان الدولة ومن حول صاحب القرار، رأس الدولة – الملك، والذي يقدم حتى اليوم الخطاب الأكثر تماسكا وقدرة على مخاطبة المجتمع الدولي، والتأثير عليه بنجاح ملموس منذ بدايات ما بعد السابع من أكتوبر.
التسريبات– وهي كثيرة ويومية في عمان- تتحدث بصوت مرتفع أكثر هذه المرة عن تغييرات يحملها العاهل الأردني بعد زيارة لندن السريعة، ومشاركته في قمة الرياض العربية - الإسلامية.
لن نخوض في تفاصيل التغييرات التي تنسجها صالونات عمان حسب الرغبات والأمنيات، لكن المؤكد حسب الحسابات السياسية الراهنة، أن التغييرات في الطابق الأول من نخب صناعة القرار، وواجهات مؤسسات الدولة صار استحقاقا ضروريا، لإعادة ترتيب البيت الداخلي وتنسيق الخطاب والسردية، وهي مفردة عميقة ومهمة يستسخفها بعض المسؤولين في الدولة، ليتماهى الشأن الداخلي، ويتكيف مع المتغيرات الإقليمية المتسارعة، والتي قد تحتاج عدة خطاطين ولافتات أكثر في المنطقة كلها.