يونس البستي لـ"المجلة": شكري فتح السرد العربي على المكبوتات

صدور الترجمة الإنكليزية لرواية "وجوه"

يونس البستي.

يونس البستي لـ"المجلة": شكري فتح السرد العربي على المكبوتات

يتزامن صدور الترجمة الإنكليزية لرواية "وجوه" للروائي والقاص المغربي الراحل محمد شكري (1935-2003) مع الذكرى الحادية والعشرين لرحيله، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني. "وجوه" هي الجزء الثالث من السيرة الذاتية الروائية للكاتب، والكتاب الثالث الذي صدر له ضمن مشروع ترجمة أعماله الكاملة الذي يتولاه المترجم والأكاديمي الأميركي المنحدر من أصل مغربي يونس البستي.

صدر أخيرا عن "مطبعة جامعة ييل" (سلسلة جمهورية مارسيلوس العالمية للآداب) كتاب "حكايات طنجة" (2023) الذي يحتوي على الأعمال القصصية الكاملة للكاتب المغربي محمد شكري، والتي صدرت في العربية في مجموعتين قصصيتين هما "مجنون الورد" و"الخيمة"، كما صدرت عن "مطبعة جامعة جورجتاون" نسخة الترجمة الإنكليزية لرواية ”وجوه".

محمد شكري غني عن التعريف عربيا، فهو روائي فتح أبواب السرد القصصي والروائي لأصوات المهمشين، و”المنحرفين“، وبائعي الجنس، وحوّل لغته إلى إيقاعات منطوقة على ألسنتهم، وألسنة الناس المسحوقين في المجتمع، وفي صلب سرده إدانة للسلطة، ولدورها في التجهيل والتفقير.

تكتسب ترجمة يونس البستي لأعمال شكري إلى الإنكليزية أهمية خاصة لأنها تجري في إطار مشروع لترجمة أعماله الكاملة، ويمنحها قيمة زائدة أن المترجم مغربي، ويعرف جيدا السياق الذي كتب فيه محمد شكري، وجوّ شخصياته الروائية، كما أن المشروع بدأ بترجمة الكتب غير المعروفة على نطاق واسع، وقدمها المستعرب والباحث والمترجم البارز روجر آلن.

حصل يونس البستي على وسام السعفة الأكاديمية الفرنسية، و"جائزة عائلة بورفو" لعام 2020 للتميز في التدريس في جامعة ييل. كما يدرّس في جامعة ييل "الأعمال القصصية والروائية" لمحمد شكري لطلاب الدراسات العليا والمرحلة الجامعية، وهو أول صف مخصص لمؤلف من العالم العربي. كما نظم يونس البستي أول مؤتمر في العالم الناطق بالإنكليزية (وربما الأول في الغرب) حول محمد شكري، عُقد في جامعة ييل في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.

رأى أبي ما كنت أحاول قراءته فأخذ الكتاب بلطف من بين يدي وقال: "لا تخبرْ أحدا على الإطلاق بأن لدي هذا الكتاب، وإلا فإن هذا سيسبب لنا المشاكل"

في هذا اللقاء الذي جمعنا في حرم جامعة ييل، تحدّث البستي عن ترجمته لأعمال شكري إلى الإنكليزية، وما يمكن أن تضيفه للقارئ في اللغة الإنكليزية، وما يمنحه فرادة أدبية، علاوة على وقائع المؤتمر الذي نظّمه في جامعة ييل.

شكري الخطر

  •  رواية "وجوه" هي الكتاب الثالث من أعمال شكري، التي تترجمها إلى الإنكليزية. ما الذي دفعك إلى ترجمة هذا الكاتب بالتحديد؟

يقودني سؤالك هذا إلى عوالم طفولتي، وإلى علاقتي مع أبي، وفضول الطفل الذي يبقى متقدا، ويؤثر في تكوينه، ويجعله يتخذ القرارات في فترات لاحقة من عمره. لقد نشأتُ في المغرب، وفي بيتنا كانت لدى أبي مكتبة، معظم الكتب التي على رفوفها بالعربية والإسبانية، علاوة على بعض الكتب بالفرنسية. وكنت دوما أرى أبي يتسلل إلى غرفته الخاصة مع الكتب، ويُغلق الباب خلفه. ولم يكن في وسعي، أنا وأخواي، الدخول إلى تلك الغرفة. لكن في أحد الأيام عدتُ من المدرسة، وكنت وقتها في السابع الإعدادي، فوجدتُ باب الغرفة الممنوعة مفتوحا. وحين دخلتها قلتُ لنفسي إنني يجب أن أحفظ التفاصيل كي أنقلها إلى أخويّ بما أن تجربة كهذه يمكن ألا تتكرر. على الطاولة رأيتُ كتابا مفتوحا وثمة قلم رصاص فوقه. كان مكتوبا بالعربية، وثمة صورة شخص على الغلاف. قرأتُ العنوان وكان "الخبز الحافي". ذكرني بجدتي التي كانت تصيح بنا حين تشاهدنا نأكل الخبز: "هذا مجرد خبز حافّ، ضعوا شيئا فيه".  تفحّصْتُ الكتاب فلم أجد فيه صورا، أو أي شيء يجذب فتى في الثانية عشرة من عمره. كان مثل أي كتاب آخر. فجأة وأنا أتصفّح الكتاب دخل أبي. لا أتذكر رد فعله بشكل كامل لكنني كنت خائفا قليلا من أنه أُلقي عليّ القبض متلبسا في مكان لم يكن مسموحا لي بدخوله، وأنني كنت منتهكا لحدوده. رأى أبي ما كنت أحاول قراءته فأخذ الكتاب بلطف من بين يدي وقال: "لا تخبرْ أحدا على الإطلاق بأن لدي هذا الكتاب، وإلا فإن هذا سيسبب لنا المشاكل". حيّرني كلامه، ولم أفهم بشكل كامل لماذا سنواجه المشاكل من مجرد اقتناء هذا الكتاب. كانت هذه أول حادثة شدتني إلى كتابات محمد شكري، وقد تطور الأمر لاحقا، بعد دراستي الأكاديمية وتدريسي في جامعة ييل، إلى قرار اتخذته بترجمة أعماله إلى الإنكليزية، ربما بدافع غامض من تلك القصة التي فتحت لي عوالمه في ما بعد، وأيضا بسبب أهميته ككاتب، والدور الذي لعبه في فتح فن السرد العربي على المكبوتات، والعوالم السفلية المهمشة في مجتمعنا المغربي.

غلاف الترجمة الإنكليزية لرواية "وجوه".

  •  لماذا بدأت بترجمة قصص محمد شكري القصيرة، وما أهمية ترجمتها إلى الإنكليزية؟

بدأتُ بترجمة قصص محمد شكري نظرا لأهميتها في تجربته الأدبية، فهو يجمع بين بؤس الحياة ونعمة المخيلة، وعاش حياة وفرت له مدخلا قصصيا فريدا. ومكّنتْهُ موهبته العالية من تصوير الشخصيات الهامشية والفقيرة والمنحرفة واستكناه دواخلها، وكانت أجواؤها بمثابة كتاب مفتوح اغترف منه التفاصيل التي أرادها لصياغة قصص وعوالم روائية تقود القارئ إلى الانغماس في تجارب غير مألوفة من خلال أعين شخصيات محلية، غير عادية. تدور قصصه حول موضوعات البؤس والدعارة والعنف والإجرام إلا أن هذه الموضوعات تعكس تأملات في الطبيعة البشرية والحب والتواضع واللطف.  لقد وُلد شكري في منطقة الريف، وهي منطقة جبلية في المغرب لها تاريخ طويل ومشرّف في الاستقلال ومقاومة الاستعمار الإسباني. وحين كان فتى هربت أسرته إلى طنجة، وهذه هي الخلفية المدينية التي أحدثت تأثيرا عميقا في حياته ونصوصه الأدبية.

سيخترق القارئ الغربي قشرة الصورة المروجة لطنجة كملاذ وأفق سياحي، ويدخل إلى حقيقتها، وواقعها البائس من خلال قصص شكري

تفتح ترجمة قصص وروايات شكري إلى الإنكليزية بابا جديدا على أمكنة الآخر، فهنا سيرى القارئ الأميركي أن مدينة طنجة، التي شكلت ملاذا حالما للسياح والمنفيين الأميركيين والأوروبيين، لم تنه معاناة طفولة شكري. فمنذ أن لامست قدماه أسفلت شوارع المدينة كان واعيا لهذا الفاصل، للفجوة بين من يملكون ولا يملكون. رأى موقعه بين أولئك المحرومين، وجاءت قصصه تعبيرا عن بؤسهم ومشاكلهم. بالتالي سيخترق القارئ الغربي قشرة الصورة المروجة لطنجة كملاذ وأفق سياحي، ويدخل إلى حقيقتها، وواقعها البائس من خلال قصص شكري.

في "حكايات طنجة" 31 قصة قصيرة، وهذه أول ترجمة لقصص شكري الكاملة إلى الإنكليزية. حاولتُ أن أنقل نثره ضمن خصوصية اللغة الإنكليزية، وأن أفيه حقه، ذلك أن نثره كان دقيقا وحيويا ومليئا بالحوار. شكري يفضل شخصيات معينة مثل المجانين والمغامرين والعاهرات والخدم، وتظهر الجثث بشكل متكرر في قصصه. أنماط هذه الشخصيات تساعد شكري في مهمته في تصوير الأمراض الاجتماعية كالبطالة، وتعاطي المخدرات، والأمراض المنقولة جنسيا والعنف. وكان الهدف الماثل أمامي هو أن أنقل خصوصية هذه الأجواء. وما دفعني إلى البدء بقصصه، هو أنها لم تكن معروفة بالإنكليزية، وحتى أنها لم تكن منتشرة على نطاق واسع في العربية.

Schiffer-Fuchs / ullstein bild - Getty Images
محمد شكري.

شكري الإنسان والكاتب

  •  ماذا عن "وجوه"، وظروف ترجمته وصدوره في اللغة الإنكليزية؟

رواية "وجوه" هي الجزء الثالث من سيرة شكري الذاتية الروائية، ونُشرت في العربية قبل ثلاث سنوات من وفاته. طغت شهرة "الخبز الحافي" على أعمال شكري الأخرى فلم يُسلَّط عليها الضوء مثلها، ولم تلفت انتباه النقاد، وهذا ما جعل هذه الرواية تنتظر 24 عاما للظهور في اللغة الإنكليزية. صدرت الترجمة الإسبانية في 2014، والترجمة الألمانية في 2015.

إن توفر الرواية في اللغة الإنكليزية سيتيح للقارئ التعرف الى أسلوب شكري الروائي في أوجه الفني، أي بعد ثلاثة عقود من الكتابة، بعد أن دخل في مرحلة النضج، وتدرّج فنيا إلى مرحلة أعلى. نرى هنا شكري وقد شحذ مهاراته الكتابية، وجسّد الصنعة السردية الفنية. ونستطيع أن نرى كيف وصلت كتابته إلى اكتمالها الفني، وكيف تطورت شخصياته وتقنياته السردية. حاولتُ في الترجمة أن أعكس هذا البعد قدر الإمكان.

غلاف مجموعة القصص القصيرة "حكايات طنجة"

  •  ما الذي سيكتشفه قارئ اللغة الإنكليزية في أعمال شكري من خلال هذه الترجمات؟

لا شك أن ترجمة شكري إلى الإنكليزية ستوفر للقراء إمكان التعرف الى عمق العلاقة بين كتابته وحياته الشخصية، بمدها وجزرها. يمزج شكري جماليا بين اللغة الخام والصور، ويخلق مفارقة قوية من أجل التقاط تعقيد شخصياته ومحيطها. إن أسلوبه البسيط والمباشر يعبّر، من خلال عباراته القصيرة، وجمله الحادة، عن توتر شخصياته، وظروفها الصعبة. بالتالي، فإن هذا سينقل القارئ إلى الواقع الحقيقي الموجود خلف الستارة التي تسدلها السلطة والثقافة الموروثة لحجب حقيقة المشهد الاجتماعي المغربي.

في "وجوه" نستطيع أن نرى كيف وصلت كتابة شكري إلى اكتمالها الفني وكيف تطورت شخصياته وتقنياته السردية

  •  هل واجهتَ أية تحديات أثناء ترجمة شكري إلى الإنكليزية؟

هناك دوما التحدي المتعلق بالخلفية الثقافية لسرد محمد شكري بالرغم من بساطة أسلوبه ومباشريته في اللغة العربية. قد لا يشكل هذا مشكلة بالنسبة الى القارئ العربي الذي من المحتمل أنه يعرف الظروف التي يتحدث عنها شكري ولو بأسلوبه وصوته الخاصين. ولكن حين يتعلق الأمر بترجمة كاتب إلى لغة أخرى، تواجهك دوما تحديات تتعلق بالخلفية الثقافية التي جاء منها، والسياق الذي يتحرك فيه على مستوى السرد القصصي والروائي وكيف تجعل هذا السياق مفهوما للقارئ الأجنبي. حاولتُ من خلال الترجمة أن أتناغم مع صوت شكري السردي، وعكفتُ على ضمان الوضوح، وتدفق السرد بالنسبة الى قراء يجهلون السياق الألسني، والثقافي والسياسي، والاجتماعي.

Shutterstock
الجامع الكبير في طنجة.

إضافة

  •   ما الذي يمكن أن تضيفه ترجمة محمد شكري إلى الإنكليزية؟

تلعب الترجمة دورا كبيرا في فتح منافذ التأثير المتبادل بين الآداب والثقافات، ولا شك أن أسلوب محمد شكري في الكتابة يساعده في التنقل بسهولة بين اللغات. فهو يكتب بنبرة مباشرة بعيدة عن التعالي الثقافي، واللغة البلاغية الجوفاء، ذلك أن لغته ترصد إيقاع الواقع وعتمته، وتضع النقاط على حروف الواقع. هذا الخيار الأسلوبي يجعل من السهل بالنسبة الى قراء الإنكليزية فهم نثر محمد شكري. تتحرّك شخصياته في عالم واقعي تتجرد فيه من إنسانيتها، مما يقود إلى فقدان القيم، وإنكار حقوق الإنسان. إن التجرد من الإنسانية يحصل في مجتمعات ديستوبية يسود فيها الحكم القمعي والبروباغندا والسيطرة على العقول والبؤس واللامساواة الاجتماعية وتقييد الحريات. يقوم سرد شكري بكشف الواقع المريع الذي تواجهه شخصياته، بالتالي هذا الكشف لا ينفصل عن متعة السرد لديه، ولا شك أنه ستنفتح لقراء اللغة الإنكليزية نافذة تطل على المجتمع المغربي، وسيجدون مدخلا إلى واقع ربما تشبه شخصياته شخصيات في واقعهم صوّرها كتّاب تيار الواقعية في أميركا.

ستنفتح ترجمة شكري لقراء اللغة الإنكليزية نافذة تطل على المجتمع المغربي وسيجدون مدخلا إلى واقع ربما تشبه شخصياته شخصيات في واقعهم

  •  صدر كتابٌ عن محمد شكري بالإنكليزية هذا العام، قمت بتحريره أنت وروجر آلن بعنوان "قراءة الأعمال القصصية والروائية لمحمد شكري: جوع في الفردوس"، يتعلق بمؤتمر حول محمد شكري عُقد في جامعة ييل. ماذا جرى في المؤتمر، وما الذي يحتوي عليه الكتاب؟

نظّمْتُ مؤتمرا في جامعة ييل ضمّ مجموعة من خيرة الباحثين والأكاديميين المتخصصين في تدريس الأدب العربي في جامعات الولايات المتحدة تم فيه تبادل الآراء ووجهات النظر حول تجربة محمد شكري كقاص وروائي وكاتب للسيرة الذاتية الروائية. صدرتْ أبحاث المؤتمر لاحقا في الكتاب الذي ذكرته في سؤالك، واحتوى على الأبحاث التي قُدمت فيه، وصدر عن "دار روتليدج" عام 2024. تسلط مقالات الكتاب الضوء على تجربة محمد شكري الأدبية وتطرّقه في قصصه ورواياته لموضوعات عُدّت غير أخلاقية في المجتمع المحافظ في المغرب. في مقالتي التي شاركتُ بها في الكتاب، الموسومة  "مجموعتا محمد شكري القصصيتان: مجنون الورد والخيمة"، تحدثتُ عن بدايات شكري، وكيف نُشرت له قصّة قصيرة بعنوان "العنف على الشاطئ" في مجلّة "الآداب" اللبنانية في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1966، بعد أن أُعجب بها الروائي اللبناني ورئيس التحرير سهيل إدريس. وكانت هذه بداية انطلاقة شكري ككاتب جريء ومتمرّد، خاصّة أنّ القصّة تصف ممارسة للجنس تمّت علنا في وضح النهار، ولم يكن هذا مألوفا في القصص العربية آنذاك. يضم الكتاب أيضا مقالة لروجر آلن بعنوان  "التاريخ الأدبي المغربي ومحمد شكري"، حاول فيها أن يموضع أعمال محمد شكري في سياق أوسع قائلا إن ثلاثية شكري، وخاصّة "الخبز الحافي"، حقّقت له شهرة كبيرة في العالم العربي، وفي العالم الغربي إلى حدّ ما، إلا أن مُنجزه السردي لم يُدرَج على نحو كامل وفعّال في المتن الأوسع للأدب العربي الحديث، الأمر الذي أدّى إلى إغفال مجموعتيه القصصيّتين "مجنون الورد" و"الخيمة". يضمّ الكتاب مقالات أُخرى تُلقي الضوء على جوانب مختلفة من تجربة محمد شكري القصصية والروائية، وعلى ترجمته إلى اللغة الإنكليزية. وقد جاءت هذه المقالات بتوقيع كلّ من قصي العتابي، حنان بنودي، إيان كامبل، أنور اليونسي، توريا خنوس، ناتالي غزال، مبارك صريفي، ومصطفى زوار، وتطرّقت كل واحدة منها إلى شكري من منظار مختلف، فجاء الكتاب قراءة غنية متعددة الأوجه لكاتبنا الكبير.

font change

مقالات ذات صلة