متاهة السردية الإعلامية المخادعة في السودان

عوامل استمرار الحرب وتفاقم الكارثة الإنسانية

AFP
AFP
محمد حمدان دقلو (حميدتي) شمال غرب الخرطوم في عام 2019

متاهة السردية الإعلامية المخادعة في السودان

منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وميليشيا "قوات الدعم السريع" في أبريل/نيسان 2023، يشهد السودان كارثة إنسانية غير مسبوقة تُعد من بين الأسوأ عالميًا في العقود الأخيرة.ولا تقتصر مسببات وطأة هذه الكارثة على الدمار الذي تسببت فيه الحرب فحسب، بل تساهم فيها طبيعتها الشاملة واتساع رقعتها الجغرافية، إذ تمتد عبر مساحة شاسعة من السودان الذي تبلغ مساحته 1,861,484 كيلومتراً مربعاً، مما يجعله ثالث أكبر دولة في أفريقيا بعد الجزائر وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ومن بين أكبر عشرين دولة في العالم من حيث المساحة.

ويساهم أيضا في زيادة حدة الأزمة، كثافة عدد سكان السودان الذين يبلغ تعدادهم حوالي 48.1 مليون نسمة، بات أكثر من نصفهم، حوالي 25.5 مليون نسمة، في حاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية جراء هذه الحرب، بالإضافة إلى 12.6 مليون نازح ولاجئ، اضطرتهم الحرب للنزوح بعيداً عن ديارهم ووطنهم. ورغم أن الصراع لم يتجاوز عامًا ونصف العام، فقد بلغت الكارثة الإنسانية مستوى غير مسبوق، متفوقًا على نزاعات مماثلة؛ ففي سوريا على سبيل المثال، وصل عدد النازحين في 2021 إلى 6.7 مليون شخص بعد عشر سنوات من الحرب، وبلغ المتضررون من انعدام الأمن الغذائي 12.1 مليونًا في 2023. أما في السودان، فيواجه نحو 26 مليون شخص خطر المجاعة، ما يمثل أكبر أزمة غذاء عالمية في نصف القرن الأخير. وقُدرت الوفيات بسبب الجوع بـ2.5 مليون شخص في أربعة أشهر (يونيو- أكتوبر 2024)، وهو ما يعادل ضعف ضحايا الجوع خلال حكم الخمير الحمر في كمبوديا على مدار أربع سنوات.

لا تقتصر أسباب تفاقم الكارثة الإنسانية واستطالة أمد الحرب في السودان على الطرفين المتحاربين فقط، بل تتداخل عوامل أخرى، أبرزها تقاعس المجتمع الدولي عن اتخاذ موقف جاد وموحد، والدور السلبي لبعض الأطراف السياسية المدنية.

وعلى مستوى المجتمع الدولي فقد بات واضحاً أن هناك قوى إقليمية، ودولا بعينها في المنطقة، تقدم دعماً غير مشروط لميليشيا "الدعم السريع"، رغم ارتكابها جرائم وانتهاكات جسيمة في أنحاء السودان، وآخرها تجريدة العنف الوحشية التي أشعلتها هذه الميليشيات في ولاية الجزيرة خلال الأسابيع الماضية. وتتمتع هذه القوى بنفوذ دولي وقدرة على التأثير على المشهد الدولي، بما يجعلها تسعى للعب دور الوسيط، بينما تواصل في الوقت ذاته دعم الميليشيا لمواصلة الحرب، وهو ما يساهم في تحويل جهود السلام الدولية والإقليمية إلى دائرة مفرغة لا تؤدي إلى أي تقدم ملموس.

ولا يقتصر ارتباط هذه القوى الإقليمية على تأجيج الحرب في السودان، بلإن هناكتقاريرعن العلاقة بين جهاز "الموساد" الإسرائيلي وميليشيا "الدعم السريع". فقد ظهرت بعض التقارير في الأسابيع الأخيرة عن شحنات ضخمة من الأسلحة ومعدات الدفاع الجوي في طريقها من إسرائيل إلى "الدعم السريع" عبر شمال غرب أفريقيا.

لا تقتصر أسباب تفاقم الكارثة الإنسانية واستطالة أمد الحرب في السودان على الطرفين المتحاربين فقط، بل تتداخل عوامل أخرى، أبرزها تقاعس المجتمع الدولي عن اتخاذ موقف جاد وموحد، والدور السلبي لبعض الأطراف السياسية المدنية.

إن هذه القوى الداعمة للحرب، التي استثمرت في دعم الميليشيات، لا تفعل ذلك عبثاً؛ بل تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة عبر هذه الحرب، مما يجعلها عازفة وغير متحمسة بصدق لإيقافها قبل ضمان تحقيق تلك المصالح. بل تعمل على تسخير نفوذها السياسي والإعلامي للترويج لروايات زائفة تسهم في إطالة أمد الصراع مع الاستثمار في دبلوماسية المساعدات الإنسانية لمحاولة إبعاد التهمة عنها وتجميل وجهها. فالسودان، بسواحله الممتدة على البحر الأحمر، ومساحاته الواسعة من الأراضي الزراعية الخصبة، وثرواته المعدنية، خاصة الذهب، وموقعه الجيو-استراتيجي الهام الذي يربط بين البحر الأحمر والقرن الأفريقي ومنطقة الساحل، يُعتبر مطمعاً للكثير من القوى الدولية والإقليمية الساعية للسيطرة عليه.

على صعيد آخر، ومنذ بداية الحرب، تبنت كيانات سياسية خطابًا متناقضًا يدعو لوقف الحرب إعلاميًا، بينما يسعى لخدمة الأجندة السياسية لميليشيا "الدعم السريع" بعد فشل انقلابها في 15 أبريل 2023، والذي أدى إلى إشعال الحرب. واستخدمت تلك الكيانات شعارات الثورة الشعبية التي أسقطت عمر البشير في 2019 لتبرير حرب الميليشيا، زاعمًا أنها تحارب فلول النظام القديم من أجل الديمقراطية والحكم المدني.

لكن سرعان ما كشفت الجرائم الوحشية التي ارتكبتها الميليشيا من قتل ونهب واغتصاب بحق المواطنين عن زيف هذا الخطاب. وفي مؤتمر صحافي بالقاهرة في يوليو 2023، صرح أعضاءفي "تحالف الحرية والتغيير-المجلس المركزي"، بعد أول اجتماع له عقب الحرب بضرورة إبعاد الجيش عن السياسة، مع الإبقاء على "الدعم السريع" لأنها "تمثل قواعد اجتماعية"، وهو الخطاب نفسه الذي استخدمته الميليشيا للتجنيد الاثني للمقاتلين في صفوفها وأدى إلى دمار وتمزق النسيج الاجتماعي السوداني بشكل غير مسبوق. هذا الخطاب الدعائي يتجاهل الصراع السياسي الذي اندلع قبل الحرب، بل وطبيعة الميليشيا نفسها التي أسسها البشير خلال حكمه كأداة قمعية لممارسة الانتهاكات ضد سكان الهامش، وفق ما وثقته التقارير الحقوقية من جرائمها منذ نشأتها عام 2013، ويحاول إعادة تقديمها كفاعل سياسي طبيعي في المشهد.

ولم تقتصر جهود تلك الكيانات على نشر السرديات السياسية البديلة، بل امتدت لتبرير انتهاكات "قوات الدعم السريع" ومحاولة تبرئتها. وقد بدأت هذه التنظيمات بمقاربة جرائم "الدعم السريع" الحالية في تاريخ الإسلاميين الدموي كتبرير غير مباشر لهذه الجرائم. ثم لجأت إلى تزوير الحقائق، كما حدث في بيان أصدرته الجبهة المدنية في مايو/أيار 2023، حين نسبت حالات اغتصاب ارتكبتها ميليشيا "قوات الدعم السريع" إلى الجيش السوداني ، قبل أن تضطر لاحقاً لسحب البيان والاعتذار عنه بعد موجة انتقادات واسعة، بل إن بعض أبرز تلك الكيانات السياسية نشرت تقارير عن "أمان الأوضاع" في المناطق التي يسيطر عليها "الدعم السريع" بل ومضى إلى حد تبرير عدم تنفيذ "الدعم السريع" اتفاق جدة لحماية المدنيين باعتباره مجرد "إعلان مبادئ غير ملزم".وكأن ذلك مبرر لاستمرار الانتهاكات والجرائم التي لم تتوقف عنها الميليشيا. بل بررت احتلال الميليشيا لمنازل المدنيين بذريعة حماية جنود الميليشيا من قصف الطيران، متجاهلة بذلك أن استخدام المرافق المدنية والمدنيين كدروع بشرية هو جريمة في القانون الدولي بحسب المادة 8 من نظام روما الأساسي للقانون الجنائي الدولي.

وتستمر تلك الكيانات حاليا في التمسك باتفاق حمدوك–حميدتي الموقع في يناير/كانون الثاني 2024 على الرغم من الجرائم التي ارتكبتها "قوات الدعم السريع" في الأشهر التالية.

ليس هذا مجرد خطأ سياسي، بل هو مشاركة في استمرار الحرب. فكما أشارت عضوة الكونغرس الأميركي سارة جاكوب فإن أسرع طريق لوقف حرب السودان هو الضغط على هذه الكيانات السياسية لوقف دعمها لـ"الدعم السريع".

مصداقية مقترح "حماية المدنيين"

فيأكتوبر/تشرين الأول الماضي،تناول أعضاء تحالف "تقدم" ومن بينهم رئيسها دكتور حمدوك في ندوته خلال أكتوبر الماضي في "تشاتام هاوس" طرحهم لحماية المدنيين المتمثلة بإنشاء مناطق آمنة للمدنيين، وحظر الطيران، وقوات دولية على الأرض لحماية المدنيين. فيما أضاف بكري الجاك المتحدث الرسمي باسم "تقدم" الدعوة لإنشاء ثلاثة معسكرات على الحدود مع جنوب السودان ومصر وتشاد لحماية المدنيين، وهو طرح غير واقعي بحيث لا يستحق مناقشته بشأن البحث عن حلول عملية لحماية المدنيين.

إن إنشاء مناطق آمنة هو ما ظلت تنادي به منظمات العمل الإنساني ومراكز الأبحاث المهتمة بالشأن السوداني منذ فترة. وبطبيعة الحال، فإن هذه المناطق الآمنة هي آمنة من القتال على الأرض ومن الطيران في الوقت نفسه، فالمغزى منها أنها مناطق آمنة من كافة أشكال القتال بحيث تسمح باستمرار شكل من أشكال الحياة الطبيعية في السودان للمدنيين في كافة مناطق البلاد.

وقد تم تداول هذا المقترح وتفصيله بشكل يجعله قابلاً للتنفيذ، ولكن "تقدم" تصر على ربطه بمطلب ذي طابع سياسي وعسكري واضح وهو حظر الطيران بما يعقد الوضع كله ويعقد المطالبة بحماية المدنيين وآليات تنفيذها بجعلها عرضة للاستقطاب السياسي.

تم تداول مقترح إنشاء مناطق آمنة بشكل يجعله قابلاً للتنفيذ، ولكن "تقدم" تصر على ربطه بمطلب ذي طابع سياسي وعسكري واضح وهو حظر الطيران بما يعقد الوضع كله

وكما أن هناك حظر طيران بالفعل مفروضا على مناطق في دارفور، وبالإضافة إلى حظر لتوريد السلاح وهو ما ظلت تنتهكهما الدول الداعمة لميليشيا "قوات الدعم السريع" بشكل موثق وفاضح منذ بداية الحرب.

ولكن مع تطاول أمد الحرب، أصبحت هذه الدول تسعى إلى تقليل التكلفة المتزايدة لإيصال الأسلحة والتشوين والعتاد لميليشيا "الدعم السريع" عبر تشاد والدول الأخرى. وقد حاولت استعمال مطار الجنينة ونيالا داخل السودان في الأسابيع الماضية، ولكن تعذر عليها ذلك بسبب استعمال الجيش السوداني للطيران الحربي لمنع وصول طائرات التموين. كما أن استعمال الدول المجاورة لإيصال الدعم للميليشيا ساهم في فضح التورط الخارجي لهذه الدول في حرب السودان، وهو ما وضعها في موقف محرج دوليًا وإقليميًا.

ليس من الممكن أن تحدد آليات لحماية المدنيين دون أن تحدد على الأرض ممن ومن ماذا تريد حمايتهم. وهذه ليست أسئلة يتم التحايل عليهابسرديةإعلاميةمضللة. بل يتم البحث عن إجاباتها في تفاصيل ما يحدث على الأرض. إذا كان الأمر متعلقًا بحماية المدنيين، فإن المناطق الآمنة كفيلة بذلك، خصوصًا مع إنشاء آليات فعالة لمراقبتها وحمايتها من هجمات الطرفين.

قد يكون مطلب حظر الطيران معقولاً في الأشهر الأولى من الحرب للحد من توسعها ومنع الطرفين من استخدام الأسلحة التدميرية، لكنه بعد كل ما ظهر في ثنايا هذه الحرب، أصبح الآن يدخل في سياق تعديل موازين القوى العسكرية بين الطرفين، وتحديد أساليب المواجهة بينهما. علاوة على أنه يخدم أجندات الجهات الخارجية الداعمة لـ"الدعم السريع"، مما يشكك في حيادية المقترح وأصحابه وغاياته، وهو أمر بات واضحًا للجميع.ولكن محاولة استخدام خطاب حماية المدنيين والعمل الإنساني لا ينبغي التشويش بإقحام الأجندات السياسية والحسابات العسكرية لكلا الطرفين.

ومن نافلة القول إنت لك التنظيمات  والقوى السياسية حرة في اتخاذ مواقفها، سواء كانت في صف ميليشيات "الدعم السريع"، أو الجيش، أو في الحياد، حسب برامجها ورؤاها السياسية وطموحاتها في السلطة، وللناس حق الحكم على تلك المواقف اتفاقاً ونقداً واختلافاً. إلا أن ما يفتح باب النقد الشديد والموقف الحاد ضدها هو سعيها لاستغلال خطاب وقف الحرب، وهو الهدف الذي يتطلع إليه جميع السودانيين في الوقت الحالي، واستغلال طموحات الشعب السوداني العريضة التي قادته إلى ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 المجيدة للخلاص من ديكتاتورية الإسلاميين وتحقيق نظام حكم مدني ديمقراطي، ومحاولة تسخير القضايا الإنسانية كحماية المدنيين ودرء الانتهاكات عنهم وكل هذه القضايا والأهداف النبيلة لدعم وتحقيق أجندات ميليشيات "الدعم السريع" والقوى الخارجية الداعمة لها وهو ما يعدّ استغلالا لهذه الطموحات المشروعة والمطالب الضرورية للشعب السوداني لصالح أجندة التقتيل والعنف والدمار.

font change

مقالات ذات صلة