في السنوات الأخيرة، أصبح المشهد السياسي الأميركي أكثر استقطابًا وتباينًا بين التيارات السياسية المختلفة. ومع كل دورة انتخابية، تتجدد الحاجة لفهم أعمق للدوافع النفسية والسياسية التي تحمل الناخبين على دعم مرشحين معينين دون غيرهم.
من هذا المنطلق، أجرى مختبر علم النفس السياسي بجامعة كامبريدج بالتعاون مع مؤسسة "YouGov" دراسة حديثة تهدف إلى استكشاف الفروق النفسية والسياسية بين مؤيدي الشخصيات السياسية المختلفة في أميركا، وخاصةً بين مؤيدي الرئيس المنتخب دونالد ترمب ونائبة الرئيس السابقة كامالا هاريس.
كشفت هذه الدراسة عن توجهات وقلق متزايد بين مؤيدي ترمب في شأن مستقبل القيم والتقاليد الأميركية والاقتصاد، مقارنةً بمؤيدي هاريس الذين يظهرون مستوى أقل من هذا القلق.
أظهرت نتائج الدراسة أن مؤيدي الرئيس المنتخب دونالد ترمب يعبرون عن قلق متزايد في شأن الوضع الاقتصادي ومستقبل الازدهار في الولايات المتحدة، مما يعكس مخاوفهم من عدم استقرار السوق الوظيفي وتأثير ذلك على الأمان المالي والاجتماعي.
ووفقًا للدراسة، يرى 87% من مؤيدي ترمب أن الوظائف في الولايات المتحدة "غير آمنة، وأن مستقبل الازدهار الاقتصادي مهدد"، مقابل 39% فقط من مؤيدي نائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس.
التوجهات الاقتصادية
ويعكس هذا التفاوت في وجهات النظر شعورًا متزايدًا بالخطر لدى أنصار ترمب حيال التغيرات الاقتصادية التي شهدتها البلاد أخيرًا، وازدياد قلقهم من مستقبل اقتصادي يعانون فيه من عدم اليقين.
يؤكد هذا الشعور عدم الثقة المتزايدة بين مؤيدي ترمب في الاستقرار الاقتصادي، وربما يعكس اعتقادًا بأن سياسات الحكومة الحالية قد تؤثر سلبًا على الأمان الاقتصادي، خاصةً بالنسبة الى الطبقة العاملة.
كما تعكس النتائج أهمية التوجهات الاقتصادية في تشكيل الدوافع الانتخابية للناخبين، وتوضح كيف أن التغيرات الاقتصادية تؤدي إلى انقسامات عميقة في المجتمع. وبهذا؛ وحسب الدراسة، يمكن تفسير جزء كبير من توجهات مؤيدي ترمب في الانتخابات الأخيرة على أنه رغبة في تحقيق استقرار اقتصادي وتعزيز الأمان الوظيفي، وهي قضايا تلامس مخاوفهم العميقة من تأثير التغيرات الاقتصادية والاجتماعية على مستقبل البلاد.
أظهرت الدراسات أن غالبية كبيرة من مؤيدي ترمب وهاريس على حد سواء شعروا أن أسلوب حياتهم سيكون "مهددًا" في حال فوز المرشح المنافس
وتمثل التغيرات الاقتصادية عاملاً أساسيًا في تشكيل بنية المجتمع وتوجيه مواقف أفراده، إذ تؤدي غالبًا إلى انقسامات عميقة تؤثر في الروابط الاجتماعية والسياسية بين فئاته المختلفة. فعندما تتغير الأوضاع الاقتصادية، سواء كان ذلك من خلال الركود أو التضخم أو تحولات سوق العمل، تبدأ المخاوف بالتصاعد لدى الأفراد في شأن استقرار مستقبلهم المالي وقدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية. وتصبح قضايا الأمان الوظيفي، وتكلفة المعيشة، والفجوة بين الأغنياء والفقراء، محورية في تشكيل موقف الأفراد تجاه النظام الاجتماعي والاقتصادي.
وتظهر هذه الانقسامات بشكل واضح في الفجوات بين الطبقات الاجتماعية؛ حيث يعاني الأفراد ذوو الدخل المحدود من آثار التحولات الاقتصادية بصورة أكبر من الأغنياء، مما يؤدي إلى شعور متزايد بالظلم وعدم المساواة.
وعندما يشعر الناس بأن الوضع الاقتصادي لا يعمل في صالحهم، تبدأ ثقتهم في النظام بالتراجع، مما يؤدي إلى تعزيز الأفكار الانعزالية أو التوجه نحو دعم التيارات السياسية المتطرفة التي تعدهم بإعادة النظام القديم أو تحقيق تغييرات جذرية تحمي مصالحهم الاقتصادية.
وعلى الصعيد السياسي، تحفز التغيرات الاقتصادية الأفراد على تبني مواقف أكثر تشددًا تجاه السياسات الحكومية، خاصةً إذا كانت السياسات تعزز عدم المساواة أو تُظهر انحيازًا لصالح الشركات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال. ويُمكن أن يؤدي ذلك إلى انقسام سياسي حاد، حيث يبدأ البعض بالدعوة إلى فرض سياسات اقتصادية تحمي الطبقات العاملة وتضمن توزيعًا عادلًا للثروات، في حين يدافع آخرون عن السوق الحرة والإصلاحات الهيكلية التي تؤدي في رأيهم إلى تعزيز النمو والازدهار على المدى الطويل.
في ظل هذه الانقسامات، يظهر دور الخطاب السياسي الذي يستغل هذه المخاوف الاقتصادية، حيث يسعى بعض القادة إلى استغلال تلك المخاوف لكسب دعم الفئات المتضررة عبر تقديم وعود تتعلق بتحسين الوضع الاقتصادي ومواجهة التهديدات الاقتصادية الواضحة. فالتغيرات الاقتصادية لا تترك أثرًا مباشرًا على مداخيل الأفراد فقط، بل تؤدي إلى إعادة تشكيل الهويات الاجتماعية والتوجهات السياسية، وتفتح الباب أمام انقسامات مجتمعية قد تصعب معالجتها في المستقبل.
مشاعر القلق
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن مشاعر القلق والتهديد تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل مواقف الناخبين في الانتخابات الأميركية.
فقد أظهرت الدراسات أن غالبية كبيرة من مؤيدي ترمب وهاريس على حد سواء شعروا أن أسلوب حياتهم سيكون "مهددًا" في حال فوز المرشح المنافس. فكانت نسبة 74% من مؤيدي ترمب و68% من مؤيدي هاريس يرون أن فوز الطرف الآخر يمثل تهديدًا لأسلوب حياتهم، مما يشير إلى وجود مستويات عالية من الشك المتبادل بين أنصار الطرفين.
وجد الباحثون أن مؤيدي ترمب يميلون إلى تسجيل درجات أعلى في السلطوية وتوجه الهيمنة الاجتماعية مقارنة بمؤيدي هاريس
لفهم هذه الظاهرة، لجأ فريق بحثي من جامعة كامبريدج إلى تحليل خصائص نفسية معينة للمشاركين، منها "السلطوية" و"توجه الهيمنة الاجتماعية". وتصف هذه الخصائص الشخصية بعضًا من العوامل التي قد تفسر ردود الفعل المختلفة تجاه التهديدات، سواء أكانت حقيقية أم متخيلة.
يركز الأشخاص ذوو الدرجات العالية في مقياس السلطوية على ضرورة الحفاظ على الأعراف الاجتماعية واحترام السلطة الشرعية. في حين يهتم من هم ذوو درجات عالية في مقياس توجه الهيمنة الاجتماعية بمكانة مجموعتهم مقارنة بالمجموعات الأخرى، إذ يرون العالم كمنافسة بين الفائزين والخاسرين، ويشعرون بالقلق عندما يعتقدون أن مجموعتهم تتراجع في السلم الاجتماعي أو الاقتصادي.
السلطوية والهيمنة الاجتماعية
وقد وجد الباحثون أن مؤيدي ترمب يميلون إلى تسجيل درجات أعلى في السلطوية وتوجه الهيمنة الاجتماعية مقارنة بمؤيدي هاريس، مما قد يساعد في تفسير استجابتهم القوية لشعار "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" الذي اشتهر في حملات ترمب. وبيّنت النتائج أن 97% من أنصار ترمب يوافقون على هذا الشعار، مقارنةً بـ 42% فقط من أنصار هاريس.
والسلطوية من السمات النفسية والسلوكية التي ترتبط بميل الأفراد لتأييد السلطة والتراتبية، والتزام القواعد والمعايير التي يضعها المجتمع أو الدولة.
لا تُعدّ هذه النزعة مجرد توجه عابر، بل تمثل سمة نفسية راسخة تؤثر في سلوك الأفراد ونظرتهم إلى العالم. وتظهر هذه السمة بوضوح في المواقف السياسية والاجتماعية، حيث يميل أصحاب النزعة الاستبدادية الى دعم الأنظمة الصارمة والمعايير الاجتماعية التي تعزز الاستقرار والانضباط.
ويرتبط مفهوم السلطوية ارتباطًا وثيقًا بالسياسة، حيث يميل أصحاب هذه السمة الى تأييد الأحزاب أو القادة الذين يقدمون وعودًا بحماية النظام والاستقرار.
ويميل هؤلاء الى الالتفاف حول الشخصيات التي تتبنى خطابًا يركز على الأمن والهوية القومية، ويؤيدون السياسات التي تفرض قوانين صارمة وتحدّ من الفوضى. وغالبًا ما يستغل القادة ذوو النزعات الاستبدادية مشاعر الخوف من التغيير والفوضى في كسب دعم الجماهير، ويميل الأفراد ذوو النزعة الاستبدادية إلى رفض الحركات السياسية التي تدعو الى الحرية الفردية الواسعة أو التي تسعى إلى تغيير النظم التقليدية بشكل كبير.
وتقول الدراسة إن السلطوية يمكن أن تؤثر في الحياة الاجتماعية من خلال خلق نمط من السلوك الجماعي الذي يلتزم التقاليد والقوانين ويميل الى مقاومة التغيير.
الشعارات التي يرفعها ترمب، مثل "أجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، أثارت استجابة إيجابية قوية بين مؤيديه، حيث وافق 97% منهم على هذا الشعار، مقارنةً بـ 42% فقط من مؤيدي هاريس
على سبيل المثل، قد يظهر أصحاب هذه السمة عدم التسامح مع الفئات التي تخالف المعايير السائدة أو مع الأقليات، حيث يعتبرون أن بعض الفئات تهدد الاستقرار الاجتماعي. كما يفضلون المجتمعات المتجانسة ويشعرون بالراحة في البيئات التي يكون فيها الجميع ملتزمًا القيم نفسها، مما قد يؤدي إلى تعميق الانقسامات بين الفئات المختلفة في المجتمع.
ويقول المؤلف الرئيس للدراسة لي دي ويت، رئيس مختبر علم النفس السياسي بجامعة كامبريدج، إن هذه النتائج تتماشى مع الدراسات السابقة، التي ترى أن الشعور بالتهديد يزيد الميل نحو السلطوية، مما يؤدي إلى تعزيز أهمية التمسك بالأعراف الاجتماعية، ومعاقبة من يخرج عليها، والتوجه نحو قيادة قوية.
وتلعب الثقافة دورًا محوريًا في تشكيل النزعة الاستبدادية. فالأفراد الذين ينشأون في مجتمعات تسود فيها قيم الاحترام الشديد للسلطة والتراتبية الاجتماعية يميلون أكثر الى تبني النزعة الاستبدادية. وقد تكون هذه النزعة نتيجة التنشئة التي يتعرض لها الفرد منذ الصغر، حيث يتعلم الانضباط والطاعة ويتربى على احترام القواعد ورفض التجاوزات. في المقابل، المجتمعات التي تشجع على حرية التعبير وتعزز الاستقلالية الفردية، غالبًا ما تنتج أفرادًا أقل استبدادية، يتمتعون بقدرة أكبر على تقبل الاختلافات والتنوع.
ورغم أن النزعة الاستبدادية قد تساهم في الحفاظ على النظام الاجتماعي والاستقرار، إلا أنها تشكّل أيضًا تحديات كبيرة، خاصة عندما تتحول إلى تطرف سياسي أو اجتماعي. إذ يميل أصحاب هذه النزعة إلى دعم القيود الصارمة التي تحد من الحريات الفردية، مما قد يؤدي إلى خلق بيئة تعادي التغيير وتحدّ من الإبداع والابتكار. كما قد يؤدي انتشار هذه النزعة إلى دعم توجهات معادية للديمقراطية، حيث يشعر الأفراد بأن السلطة الصارمة ضرورية لتحقيق الاستقرار، حتى وإن كانت على حساب حقوق الإنسان أو الحريات الشخصية.
شعار ترمب
"أجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، أحد الشعارات السياسية الأكثر شهرةً وإثارةً للجدال في تاريخ الولايات المتحدة الحديث. استخدم هذا الشعار للمرة الأولى، الرئيس رونالد ريغان في حملته الانتخابية عام 1980، حيث كان يهدف إلى استحضار مشاعر الوطنية والتفاؤل، في وقت كان فيه الاقتصاد الأميركي يعاني من الركود التضخمي.
وكان الشعار بمثابة دعوة الى تجديد الاقتصاد الأميركي واستعادة الأمل، خاصة في المجتمعات التي كانت تعاني اقتصاديًا، بما في ذلك المناطق الحضرية الداخلية. وكان الهدف من الشعار أن تعود أميركا إلى عظمتها السابقة من خلال إنعاش صناعاتها، وتوفير فرص العمل، واستعادة مكانتها العالمية.
مع مرور الزمن، أحيا دونالد ترمب هذا الشعار واستخدمه بشكل بارز خلال حملته الانتخابية الناجحة عام 2016، ليصبح ذلك الشعار حجر الزاوية لهوية ترمب السياسية، حيث كان يظهر بوضوح على القبعات، واللافتات، ومواد الحملة الانتخابية.
أشارت الدراسة إلى أن الشعارات التي يرفعها ترمب، مثل "أجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، أثارت استجابة إيجابية قوية بين مؤيديه، حيث وافق 97% منهم على هذا الشعار، مقارنةً بـ 42% فقط من مؤيدي هاريس.
وقد لاقى الشعار صدى لدى جزء كبير من الناخبين، لا سيما أولئك الذين شعروا بأنهم مهمشون من التغيرات الاقتصادية، والعولمة، والتحولات الاجتماعية. فبالنسبة الى الكثيرين، كان الشعار يمثل العودة إلى زمن كان فيه الاقتصاد الأميركي والنسيج الاجتماعي أكثر استقرارًا، رغم أن الفترة التي كان يشير إليها الشعار كانت غير محددة بوضوح.
لكن بعض النقاد اعتبروا أن الشعار يحمل دلالات عنصرية، إذ يُستغل كأداة سياسية مشفرة تحفز مشاعر الحنين إلى فترة كانت فيها الهياكل العرقية والجندرية أكثر تماسكًا. وقد وصفه العديد من الأكاديميين والصحافيين بأنه "سياسة صفارة الكلاب"، أي أنه يستهدف شريحة معينة من المجتمع الأميركي تتوق الى العودة إلى زمن كانت فيه الأقليات العرقية والنساء والمهاجرون في وضعية هامشية.
إلى جانب تأثيره السياسي، تسلل شعار "أجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" إلى الثقافة الشعبية، حيث أصبح يستخدم في الفن، والترفيه، وفي العديد من النكات والانتقادات. استمر الشعار في أن يكون رمزًا للكثيرين من مؤيدي ترمب ومعارضيه على حد سواء، وبذلك أصبح يمثل أكثر من مجرد شعار انتخابي، ليصبح جزءًا من هوية سياسية وثقافية متجذرة في المجتمع الأميركي.
وتوضح الدراسة أن هذه الشعارات تستغل مشاعر الحنين إلى الماضي وتعبّر عن فقدان المكانة الذي يشعر به البعض، مما يساهم في تعزيز شعبية ترمب بين الناخبين الذين يرون في هذا الشعار تعبيرًا عن رغبتهم في استعادة مجد أميركا، ويعتبر خطاب ترمب المباشر تجاه مؤيديه عاملاً رئيسا في تعميق هذا الشعور وإبراز قلقهم تجاه المستقبل.
ورغم أن مؤيدي ترمب وهاريس يختلفون في استجابتهم لشعارات ترمب، إلا أن هناك شعارات تجمع الطرفين وتلقى قبولًا واسعًا، مثل شعار "لدينا ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا"، الذي حصل على تأييد 80% من مؤيدي ترمب و86% من مؤيدي هاريس.
ويرى الباحثون أن هذه الشعارات تعكس رغبة مشتركة في الوحدة والتضامن، وتخفف حدة الاستقطاب، حيث يبرز هذا التجاوب مع شعارات الوحدة رغبةً قوية بين الشعب الأميركي في الحفاظ على وحدة البلاد، بغض النظر عن الاختلافات السياسية.
ويقول دي ويت، إن جزءًا من جاذبية ترمب يكمن في قدرته على التعبير عن القيم التي تشعر فئة كبيرة من الناخبين بأنها مهددة. وأشار إلى أن هجمات الحزب الديمقراطي على مؤيدي ترمب، مثل وصف هيلاري كلينتون لهم بأنهم "البائسون"، أو تعليق بايدن الذي وصفهم بـ"القمامة"، عززت هذا الشعور لدى مؤيدي ترمب بأن قيم بلادهم واقتصادها في خطر.
التحليل التقليدي
لطالما اعتُبر التحليل السياسي التقليدي القائم على التقسيم الثنائي بين اليمين واليسار أداة رئيسة لفهم سلوك الناخبين وتوجهاتهم السياسية. كان هذا النموذج يسهل تصنيف الأحزاب السياسية، والشخصيات العامة، ومواقف الأفراد بناءً على مواقفهم من القضايا الاقتصادية والاجتماعية.
مع ذلك، في العقود الأخيرة، أصبح هذا التحليل التقليدي غير كافٍ للتعامل مع تعقيدات المشهد السياسي الحالي، لا سيما في سياق الحركات الشعبية والأيديولوجيات الناشئة التي تتجاوز الحدود التقليدية للسياسة اليسارية واليمينية.
أصبحت قضية الهجرة نقطة الانقسام الرئيسة بين اليمين واليسار، لكن موقف الأفراد من هذه القضية قد لا يتوافق دائمًا مع التصنيفات التقليدية
في الماضي، كانت الأحزاب السياسية الكبرى تمثل بوضوح الجوانب الاقتصادية والاجتماعية المحددة. على سبيل المثل، كان اليمين يتبنى مواقف تدعم السوق الحرة، وتقليل الضرائب، وتأكيد القيم التقليدية، بينما كان اليسار يروج لسياسات الرعاية الاجتماعية، والمساواة الاقتصادية، والحقوق المدنية. لكن في العصر الحديث، ظهرت تغييرات جذرية في تفضيلات الناخبين، خاصة في المجتمعات الديمقراطية الغربية، مما جعل التحليل التقليدي غير كافٍ لفهم الدوافع العميقة لهم.
وتقول الدراسة إن أحد الأسباب التي تجعل التصنيف التقليدي بين اليمين واليسار غير كافٍ، هو ظهور قضايا جديدة تتعلق بالهوية، والثقافة، والهجرة، والتغير المناخي، والمساواة الاجتماعية. فقد تجاوزت هذه القضايا الفجوات الاقتصادية التي كانت تؤطر التصنيفات السياسية القديمة.
على سبيل المثل، أصبحت قضية الهجرة نقطة الانقسام الرئيسة بين اليمين واليسار، لكن موقف الأفراد من هذه القضية قد لا يتوافق دائمًا مع التصنيفات التقليدية. فبعض الأشخاص الذين يُعتَبرون من اليسار قد يتبنون مواقف متشددة ضد الهجرة بسبب اعتبارات ثقافية أو اقتصادية، بينما قد يدعم بعض الناخبين من اليمين سياسات أكثر ليبيرالية في شأن الهجرة، بناءً على اعتبارات إنسانية.
وشعار "أجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" مثال كيف أن السياسة المعاصرة تتجاوز الحدود التقليدية. فرغم أن التيار اليميني يستخدم عادة هذا الشعار، فإنه يلقى قبولًا لدى فئات واسعة من الناخبين الذين لا يتفقون بالضرورة مع باقي السياسات الاقتصادية والاجتماعية لليمين التقليدي.
بل إن الشعار يشير إلى رغبة لدى قطاعات واسعة من المجتمع الأميركي في استعادة ماضٍ يرونه أكثر استقرارًا، وهو ما يتجاوز الانقسامات التقليدية بين اليمين واليسار. في هذا السياق، يمكن أن يُعتبر هذا الشعار بمثابة رمز لمشاعر من الإحباط والخوف من التغيرات الثقافية والاقتصادية، وليس مجرد موقف سياسي تقليدي.
وبحسب الدراسة؛ فمن أجل فهم الدوافع العميقة للناخبين في العصر الحالي، بات من الضروري تبني أساليب تحليلية أكثر شمولًا تتضمن دراسة العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية التي تؤثر في قرارات التصويت.
على سبيل المثل، يمكن أن تؤثر مشاعر الانتماء والهوية العرقية، والجغرافيا الاجتماعية، والمخاوف الاقتصادية على الناخبين بشكل أكبر من الانتماء الحزبي التقليدي. كما تُظهر الدراسات أن القيم الثقافية، مثل المواقف تجاه العائلة، والدين، والعولمة، يمكن أن تشكل خيارات الناخبين بشكل أكبر من القضايا الاقتصادية التي كانت تشكل سابقًا جوهر التصنيف السياسي.
ويقول دو-ويت إن التحليل التقليدي على أسس اليمين واليسار لم يعد كافيًا لفهم سلوك الناخبين في العصر الحديث، خاصة في ظل ظهور قضايا جديدة تتعلق بالهوية، والثقافة، والهجرة، بالإضافة إلى تأثير الحركات السياسية والشعارات القوية.
لذا؛ أصبح من الضروري تبني مقاربات تحليلية متعددة الأبعاد تجمع بين المعطيات الاقتصادية، النفسية، والاجتماعية لتقديم صورة أكثر دقة عن دوافع الناخبين ويتيح للباحثين والمحللين السياسيين تطوير استراتيجيات أكثر فعالية للتواصل مع الجمهور في ظل الواقع السياسي المعقد والمتغير.