أول مقهى في العالم كان بمكة المكرمةhttps://www.majalla.com/node/323061/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A3%D9%88%D9%84-%D9%85%D9%82%D9%87%D9%89-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D9%83%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D9%85%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%B1%D9%85%D8%A9
في مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول، من كل عام يحتفل الناس بالمشروب الشعبي الأكثر شهرة في العالم، وهو مشروب القهوة، حيث يصل معدل الاستهلاك السنوي لـ 400 مليار كوب سنوياً مما يجعله أكثر المشروبات شعبية على الإطلاق، حيث أصبح هذه المشروب الداكن جزءاً من الحياة اليومية لمعظم الناس، وارتبط بتراث الشعوب والأمم، واختلط مع عاداتهم وتقاليدهم، وطرقهم المتعددة في تحضيره، وطبخه، وتقديمه.
هذا المشروب العالمي وثيق الصلة بشكل كبير بالتراث العربي الإسلامي، بل إن كل ما يخص القهوة، أصلها، وجذورها، واسمها، وانتشارها، وطقوسها مرتبط بشكل عميق جدا بالثقافة العربية الإسلامية، حيث يشير تقرير في موقع "سي ان ان" إلى أن القهوة مشروب العالم الغربي اليوم هو في الأصل أحد اكتشافات الحضارة الإسلامية، مثله في ذلك الجامعات، والمستشفيات، والطب، ونظام الأرقام العشرية، وغيرها.
أما من ناحية أصل الكلمة، فإن اسم القهوة في جميع اللغات العالمية ليس إلا إعادة نطق للاسم العربي، فلفظ "القهوة" في أصلها عند العرب كان اسما من أسماء "الخمر" كما جاء في كتاب العين للفراهيدي "والقهوة: الخمر، سميت قهوة لأنها تقهي الإنسان. أي: تشبعه، وتذهب بشهوة الطعام". ويذكر أبو علي القالي في "البارع في اللغة" قول الأصمعي: "إنما سميت قهوة لأنها تقهي صاحبها عن الطعام. وأقهم إذا لم يشته. ورجل قهم إذا لم يشته الطعام".
اسم القهوة في جميع اللغات العالمية ليس إلا إعادة نطق للاسم العربي، فلفظ "القهوة" في أصلها عند العرب كان اسما من أسماء "الخمر"
الأصل العربي في كل لغات العالم
ومن أصلها العربي "قهوة" -التي أطلقت على شراب البن المغلي- شقت الكلمة طريقها إلى لغات العالم، ومنها وصلت لأول مرة إلى تركيا، التي أطلقت عليه باللغة التركية اللفظ العربي نفسه، فأصبحت الكلمة "kahve" ثم انتقلت إلى اللغة الألمانية، فأصبحت "kaffee"، ومنها إلى الإيطالية، تحولت الكلمة إلى "caffè"، ومنها دخلت إلى الفرنسية والإسبانية بنفس الشكل "café"، وفي الهولندية، أصبحت "koffie"، ومن الهولندية دخلت إلى اللغة الإنكليزية لتصبح "coffee". وكل هذه الألفاظ هي في الأصل نطق للكلمة العربية "قهوة".
ويشير نجم الدين الغزي في كتابه "الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة" إلى مكتشف القهوة الأول، وهو أبو بكر الشاذلي العيدروسي الذي توفي سنة 909هـ، "مبتكر القهوة المتخذة من البن من اليمن، وكان أصل اتخاذه لها أنه مر في سياحته بشجر البن على عادة الصالحين، فاقتات من ثمره حين رآه متروكا مع كثرته، فوجد فيه تجفيفا للدماغ، واجتلابا للسهر، وتنشيطا للعبادة، فاتخذه قوتا وطعاما وشرابا، وأرشد أتباعه إلى ذلك، ثم انتشرت في اليمن، ثم إلى بلاد الحجاز، ثم إلى الشام ومصر، ثم سائر البلاد، واختلف العلماء في أوائل القرن العاشر في القهوة وفي أمرها حتى ذهب إلى تحريمها جماعة ترجح عندهم أنها مضرة، وآخر من ذهب إليه بالشام والد شيخنا الشيخ شهاب الدين العيثاوي، ومن الحنفية بها القطب بن سلطان، وبمصر الشيخ أحمد بن أحمد بن عبد الحق السنباطي تبعا لأبيه، والأكثرون ذهبوا إلى أنها مباحة، وقد انعقد الإجماع بعد من ذكرناه على ذلك، وأما ما ينضم إليها من المحرمات فلا شبهة في تحريمه، ولا يتعدى تحريمه إلى تحريمها حيث هي مباحة في نفسها، وأما مبتكرها صاحب الترجمة، فإنه في حد ذاته من ساعات الأولياء، وأئمة العارفين".
أقدم مخطوطة في تاريخ القهوة ... كتبها فقيه حنبلي
ومن اليمن إلى الحجاز بدأت القهوة تشق طريقها نحو العالم، يصاحبها الجدل المعتاد حول كل جديد غريب، ما بين محلل، ومحرّم، ومتوقف، خاصة أن مشروب القهوة حين جاء لأول مرة إلى الحجاز، ارتبط في بداياته بالصوفية ومجالس العارفين، حيت يساعد المشروب على السهر، والنشاط، وأداء العبادة، ثم تطور الأمر إلى أن أصبحت القهوة مشروبا تصاحبه أنشطة اجتماعية مختلفة، مثل لعب الشطرنج والنرد، والنقاشات السياسية والأحاديث، مما جعل الجدل حوله يأخذ أبعادا كثيرة، فالخلاف الفقهي حول القهوة حينها لم يكن محصورا حول الشراب بحد ذاته، بل التغيّرات الاجتماعية التي أحدثها هذا المشروب في حياة الناس هو ما أثار ذلك الاختلاف.
ويصف عبدالقادر الأنصاري الجزيري الحنبلي (ت 977هـ) في مخطوطة "عمدة الصفوة في حل القهوة" مثل هذه الأجواء فيقول: "وقد ألف فيها من أهل العصر بمكة والقاهرة وغيرها مؤلفات منهم من سلك منهج الصواب المجرد من الهوى، وأطنب الشعراء في مدحها وحلها نظما على اختلاف القوافي والروى".
ارتبط مشروب القهوة حين جاء لأول مرة إلى الحجاز، بالصوفية ومجالس العارفين، حيت يساعد المشروب على السهر والنشاط وأداء العبادة
ومخطوطة الأنصاري الحنبلي "عمدة الصفوة في حل القهوة" التي تعود إلى منتصف القرن العاشر الهجري تعد أقدم مخطوطة معروفة في العالم حول القهوة، وإن كان قد ورد ذكر لمصنفات حول القهوة قبل هذا الكتاب، إلا أن هذه المخطوطة تعد أقدم مصنف متوفر بين أيدينا اليوم حول مشروب القهوة في التاريخ (وفقا لكتاب ألف اختراع واختراع، مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة).
كما كشفت مكتبة الملك عبد العزيز العامة في العاصمة السعودية الرياض عن مخطوطة نادرة عن القهوة كُتبت قبل أكثر من 400 عام، بعنوان "تلخيص عمدة الصفوة في حِلّ القهوة"، كتبها الشيخ العلامة مدين بن عبد الرحمن القوصوني (969-1044هـ) وتلخّص المخطوطة كتاب عبد القادر الجزيري "عمدة الصفوة"، الملخص أيضا من كتاب الشيخ العلامة أحمد شهاب الدين بن عبد الغفار نزيل طيبة المالكي، المرتّب على عدة أبواب، حيث يبدأ الباب الأول بعنوان "في معنى القهوة"، ويندرج في مجال الفقه، متضمنا تساؤلات حول احتساء شراب القهوة بين الحِل والتحريم.
وفي محافظة قنا المصرية، كشف أحد الباحثين عن مخطوط هو عبارة عن جزء من كتاب مفقود لأحد فقهاء المذهب الحنبلي، وهو موسى المحاوي الحنبلي، بعنوان "السر المكنون في مدح القهوة والبنون"، حيث كان المحاوي الحنبلي يعيش بمكة في العصر العثماني، فشاهد حالات الشغب من قبل الرافضين لصدور فتوى بتحريم شربها في المقاهي، الأمر الذي جعله ينكب على كتابة هذا المخطوط بصيغة سؤال وجواب، مدافعا ومنافحا ومادحا لمشروب القهوة.
قصة أول مقهى في العالم
وفقا لأقدم النصوص التي لدينا حول تاريخ القهوة، فإننا نستطيع القول إن أول مقهى في العالم كان في مكة المكرمة، وذلك قبل أن تنتقل القهوة إلى بلاد الشام، وقبل أن يفتتح أول المقاهي في إسطنبول، فالدلائل التي تشير إلى ريادة مكة المكرمة في تأسيس أول المقاهي في العالم واضحة وكثيرة، وتتسق مع تاريخ اكتشاف القهوة وانتشارها في العالم.
ولعل حادثة محضر خاير بك ناظر الحسبة في مكة، المعين من قبل السلطان قانصوه الغوري، في عام 917هـ/1511م، أشهر ما في هذا الباب، حيث ورد فيها "أنه في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة سبع عشرة وتسعمائة طاف بالكعبة الشريفة، ثم شرب من ماء زمزم ثم توجه إلى بيته، فرأى في طريقه ناسا مجتمعين في ناحية من نواحي المسجد الحرام، قد جمعهم السيفي قرقماس الناصري، يزعم أنه قد عمل مولدا للنبي، فقبل وصوله إليهم أطفأوا الفوانيس التي كانت موقدة فاتهمهم في ذلك وأرسل إليهم، فوجد بينهم شيئا يتعاطونه على هيئة تعاطى الشراب المسكر، ومعهم كأس يديرونه بينهم وقرقماس هو الساقي لهم، فأنكر خاير ذلك، سيما وموضوع وظيفة الحسبة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عنده.
الدلائل التي تشير إلى ريادة مكة المكرمة في تأسيس أول المقاهي في العالم واضحة وكثيرة، وتتسق مع تاريخ اكتشاف القهوة وانتشارها في العالم
وسأل عن هذا الشراب فقيل له: إنه شراب اتخذ في هذا الزمان يسمى القهوة، يطبخ من قشر حب يأتي من بلاد اليمن يقال له: البن وأنه قد كثر وفشا بمكة وصار يباع في أماكن على هيئة الخمارات، ويجتمع عليه الرجال والنساء بدف ورباب وغير ذلك، ويجتمع في تلك الأماكن من يلعب بالشطرنج والمنقلة ونحوها..." إلى آخر ذلك، حيث انتهى المطاف بأن أصدر "أمير خاير بيك المحتسب عدم حلها، وأشهر النداء بمكة بمسعاها ونواحيها بالمنع من تعاطى القهوة" (انظر: الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، علي باشا مبارك).
إلا أن نص هذا المحضر الشهير الذي تردّد صداه في البلاد العربية، وانقسم الفقهاء بسبب ذلك بين محلل ومحرم، يكشف عن جانب آخر، وهو أنه في عام 917هـ/1511م كانت توجد في مكة المكرمة أماكن ومحلات خاصة لبيع وشرب القهوة، أو ما تسمى "بيوت القهوة" يجتمع فيها الناس، يشربون فيها القهوة، وتتوفر أدوات التسلية كالشطرنج ونحوها، وهو مفهوم "المقهى" نفسه الذي نعرفه اليوم.
فحادثة خاير بك تكشف لنا أن أقدم مقهى في العالم وفق المفهوم الحديث كان في مكة المكرمة، في حين أن أقدم الإشارات لأول مقهى بإسطنبول تذكر أنه افتتح بعد ذلك بعقود في منتصف القرن السادس عشر الميلادي في عهد السلطان سليمان القانوني على يد اثنين من تجار دمشق (وقيل إنهما كانا يمنيين).
أما في بلاد الشام فيُشار إلى أن أقدم مقهى تأسس في دمشق كان في عام 1572م حين قام الوالي درويش باشا ببناء "بيت للقهوة" في جوار السوق الذي أنشأه قرب الجامع الأموي، وذلك في إطار وقفه الضخم الذي اشتمل على حمام وقيسارية وجامع.
في الختام، أذكر هنا واحدا من أقدم أبيات الشعر في القهوة للعالم المكي ابن ابي كثير (ت 950هـ) نقلها عنه ابن العماد الحنبلي في "شذرات الذهب في أخبار من ذهب"، يقول: