"جميلة هي الحرب" للمغربي يوسف العلمي: شعرية السرد

الأحياء والموتى في مقبرة واحدة

غلاف كتاب "جميلة هي الحرب".

"جميلة هي الحرب" للمغربي يوسف العلمي: شعرية السرد

هل الحرب جميلة إلى هذا الحد؟ أم إنّها قد تصبح كذلك إذا تحولت إلى مشاهد تصويرية في الكتابة، إلى لغة شعرية وأوصاف فاتنة يجيدها قلم فنّان؟ هذه تساؤلات تبدأ معك منذ أن تقرأ الفقرة الأولى من رواية "جميلة هي الحرب" للكاتب المغربي يوسف أمين العلمي، الصادرة ترجمتها أخيرا عن "دار الفنك" في الدار البيضاء.

يندهش السارد في أولى عباراته من المشهد الذي يراه: "يا الله كم تبدو الحربُ جميلة من السماء. يُلقي الواحدُ قنبلة فتتراءى للأبصار وهي تنشطر إلى شظايا من نور. أبدا لم تكن شجرة لتنمو بهذه السرعة، ولا سُعفها لتحظى بهذا الألق. بيد أنني، أنا، لم يسبق لي قط أن شاهدتُ الحرب من الأعلى". لكن هذا الاندهاش لرؤية الحرب من الأعلى بدا تبريرا للعنوان، إذ لا يعقبه تصوير بصري مغاير لما ألفناه، فنرى عيني السارد وقد انتقلتا إلى تذكر مشاهد الحرب الفظيعة التي تراهما من الأسفل، حيث "كانت كل شجرة نار، وكل سُعفة تنمو، تحمل في أعقابها أما، أو ابنا، أو زوجا، أو وجها، أو سيقانا، أو ذراعا. يحترقُ منزل، منزلان، ثلاثة منازل، وبعد حين تلتهم النار الحي بكامله. بلدٌ بين ألسنة النار. غاباتٌ، فُسحاتٌ بين الأشجار، حقولٌ، تلالٌ، جبالٌ، متنزهات، مدارس، دور سينما، مسارح، مساجد، كنائس، حدائق، شوارع، طرقات، قرى، ومدن. مدينتي".

فرجة بصرية

هكذا تبدو الحرب التي تحولت إلى فرجة بصرية تُشاهَد كلّ ليلة على التلفزيون، تتحول مع الكلمات إلى مشهدية مختلفة تحفز على التأمل والتفكير، بل والاكتشاف. إذ أن القارئ، وهو يتتبع إيقاع السرد يشعر أنه يكتشف جوانب من الحرب لم تستطع صور الكاميرا الخاطفة أن تبيّنها، أو أن تركبّها في الذاكرة على شكل أسئلة واستنتاجات. فصور الدم المسفوح والجثث والأشلاء والطائرات والمخابئ وتهدّم المنازل وموت الناس والحيوانات، تصبح في الكلمات مدعاة للتفكير. كما تصير الشعارات التي تهتف للوطن المقدّس الذي يُهدى له الدم، وتهتف للدكتور المنقذ من كل مرض "أثمة من هو أفضل من الدكتور ليبرينا من العِلل؟". وأن "واجب الأمة، فردا فردا، أن تشعر بالفخر والعزة لأنها تحظى بمثل هذا القائد".

هكذا تبدو الحرب التي تحولت إلى فرجة بصرية تُشاهَد كلّ ليلة على التلفزيون، تتحول مع الكلمات إلى مشهدية مختلفة تحفز على التأمل والتفكير

الدكتور هنا ليس معاينا أو مشخصا في بلد محدّد، لكنه، كما يبدو في الرواية، كل ديكتاتور يدمّر البلد ويقتل الشعب اللذين يحكمهما. وهنا نستذكر "خريف البطريرك" لغبريال غارثيا ماركيز، حيث نجد شخصية الدكتور/الديكتاتور متشظية في هذيان سردي، من خلال بناء إحدى فقرات الرواية دون ترقيم وبجمل متداخلة. على هذا النحو: "منذ بداية الحرب، تناسلت الإشاعات. قطَع الدكتور شرايينه والبلد يغرق في الدم، الدكتور الذي يتحدث في التلفاز ليس الدكتور ولكن أحد أشباهه الاثنين وعشرين، تمت خيانة الدكتور من المقربين منه وقد تم نفيه إلى بلد معاد، استشاط الدكتور غضبا لأنه لم يعد يجد عذراوات صغيرات في البلد، لم يعد الدكتور يأكل سوى الكافيار الروسي وصار نحيلا كما يبدو جليا للعيان، لم يعد الدكتور يحتسي سوى الفودكا ولم يعد يعرف شعبه، لدى الدكتور فائض من المشاعر الإنسانية يعاني من مرض الزهايمر ولم يعد يتذكر أنه هو الديكتاتور، يعاني الدكتور من انفصام الشخصية لهذا السبب فإن البلد مُقسم إلى قسمين بنى الدكتور مقابر على شكل مساكن وأمر بملئها على وجه السرعة الدكتور... الدكتور... نوم الإشاعة خفيفٌ، والقليل من الضوضاء يمكن أن يوقظها".

في أجواء كهذه، يسرد الراوي بضمير الأنا كيف يُلقّن الأطفال أن "شرف الرجل الأسمى يكمن في الموت في ساحة المعركة وأن العار كل العار أن يقضي بسلام في فراشه الوثير، شأنه شأن أي عجوز خرف"، وهو يرى أن القتلة قد يكونون وسيمين. ويصف ما تلحقه الحرب من خراب ودمار وقتل "عقب كل غارة، كان الكثير من الأشخاص يتحلقون حول الأنقاض، وكان الجميع يبحثون عن الجثث. مع توالي البحث، يرتطم المرء أحيانا بجثة جارةٍ، أو صديق الطفولة، أو خباز الحي، أو قد يتمكن من التعرف على ابنه عن طريق قصّة الشعر، أو علامة الولادة، أو سنه المكسور أو قميصه الموشى بالزهور". وهذا الوصف ينطبق على أي حرب تستهدف كل كائن حي، من ناس وحيوانات وأشجار، بل وتستهدف البيوت التي عمرت بالذكريات والحياة وصار لكل حجر، أو شيء، فيها معنى.

كأي حرب أخرى

درس السارد فن التمثيل وكان يؤدي أدوارا على المسرح الذي صار في حالة خراب. أتقن خلق الوهم لدى المشاهد في وقت وجيز وبدا "بارعا في فن الكذب" وفي وسعه أن يتقمص أية شخصية، ومنها شخصية القاتل الذي يحمل سكينا مضرجا بالدماء. لكن العرض أصبح في الشوارع "الدم في كل مكان، ولا واحد يرغب في الذهاب إلى المسرح".

الحرب قد تكون جميلة إلى حد ما، حين تصير مكتوبة من زاوية شعرية تُختبر خلالها تجربة إنسانية مهما بلغت قسوتها وفظاعتها

حين يرحل متتبعا خطى الآخرين عبر البحر هربا من كل هذا الخراب، يجد نفسه مع أناس يصارعون كل المعوقات للوصول إلى الضفة الأخرى وكأنهم في حرب، أيضا "مسلحين بالبسالة والصبر". فنرى السارد/ الممثل يصف لنا بشكل فاتن ظروف الرحيل، بين تقلبات القارب والأمواج، مع الشخوص الذين صاروا يعرفون "أن الحرب توجد في كلّ مكان" وليس خلفهم فحسب، كما "أن السلام مُفتقد في كلّ مكان".

إصلاح الموتى

بعد أن يصل الهاربون إلى الشاطئ استعدادا لحياة جديدة، تتكشف المفارقات بين عالمين، خاصة عند أولئك الأطفال الذين لا يعرفون كيف يلعبون دون الحاجة لاستعمال الأسلحة وإراقة الدماء "هم ولدوا، وشبوا خلال الحرب وكانوا يجهلون أن في وسع المرء الحياة دون القتال". وفي تجمعات اللاجئين يتحتم عليهم مواجهة محققين يسألونهم عشرات الأسئلة ومنها: ما هو كتابك المفضل؟ وما هي أجمل سورة قرآنية بالنسبة اليك؟ وماذا تعني لك امرأة مغطاة بحجاب؟ وهل يمكن أن تحلق شعر لحيتك من أجل امرأة؟ وأسئلة أخرى عن الديمقراطية والموسيقى ولحم الخنزير. وبالنسبة الى الممثل فقد فضّل أن يهرب من صفة الممثل المهرّج، وقال إنه يستطيع "إصلاح الأحياء"، ولكي لا يظنوه مخبولا بقوله هذا والمرادف لإحياء الموتى، راح يشرح أن باستطاعته تقمص أدوار الغائبين عند النساء اللواتي فقدن ابنا أو أخا أو زوجا أو عشيقا. فهن "بحاجة لشخص يُصغي لهن، وهن يبثنه شكاويهن".

Facebook
الكاتب المغربي يوسف أمين العلمي.

تحقق ما أراده الممثل وصار يتنقل من امرأة إلى أخرى، على امتداد 56 صفحة، هي خاتمة الرواية، وقد بدا لي، أن الكاتب كان بإمكانه تضمين هذه الفكرة، "إصلاح الأحياء"، في الرواية كلّها، أو الاشتغال عليها في رواية أخرى لما تمنحه من إمكانات سردية لحيوات عديدة.

في النهاية ، يبقى السؤال، إلى أي حد قد تكون الحرب جميلة؟ وهو سؤال مجازي، فالحرب قد تكون جميلة إلى حد ما، حين تصير مكتوبة من زاوية شعرية تُختبر خلالها تجربة إنسانية مهما بلغت قسوتها وفظاعتها. أمّا ما عدا ذلك فهي قرينة الموت، متوحشة وموحشة، مضادة للحياة ولكل ما هو جميل وإنساني.

تبدو أهوال الحرب، في هذه الرواية، وكأننا لم نعرفها أو نشهدها من قبل. لذا، أظن أنها من أجمل الروايات التي كُتبت عن الحروب والنزوح واللجوء والمنافي خلال العقد الأخير. ليس لأنها أضافت الكثير في تفاصيلها، بل لأنها سردت الحرب وآثارها من زاوية شعرية قل أن تجد مثيلا لها. وذلك في ترجمة من الفرنسية (أنجزها توفيق سخان) حافظت على إيقاع السرد في 178 صفحة.

font change

مقالات ذات صلة