عبد الله غُل يتحدث لـ"المجلة" عن أزمات الشرق الأوسط والعالمhttps://www.majalla.com/node/323053/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%BA%D9%8F%D9%84-%D9%8A%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%AB-%D9%84%D9%80%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D9%86-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85
إسطنبول - عبدالله غُل من الشخصيات السياسية النادرة في تركيا. عرف بلاده من الداخل ومن الخارج. درس فيها وخارجها. عمل فيها وخارجها. انخرط في السياسة، وانضم إلى نجم الدين أربكان في "حزب الرفاه"، ثم ساهم لاحقا في تأسيس "حزب العدالة والتنمية" مع رجب طيب أردوغان.
تنقل عبدالله غل بين مناصب عدة: وزير خارجية، ورئيس وزراء، ورئيس جمهورية. أقام في قصر تشانكايا الرئاسي بين 2007 و2014، لكنه لم يكن أسيرا له. ترك كرسي الرئاسة لصديقه رجب طيب أردوغان.
غل، الأكاديمي والسياسي والاقتصادي والدبلوماسي والرئيس السابق، عاصر مراحل مهمة في تاريخ تركيا، بينها الكثير من المنعطفات الحاسمة في الشرق الأوسط، فأثناء الغزو الأميركي للعراق عام 2003، كان السيد غل رئيسا للوزراء، ولعب دورا قياديا عندما قرر البرلمان التركي عدم السماح بتمركز القوات الأميركية في البلاد في حال اندلاع الحرب في العراق. كما كان رئيسا لتركيا خلال الحرب الإسرائيلية على غزة في 2008-2009، وفي فترة "الربيع العربي" عام 2011.
في مكتبه الذي يقع على تلة تشرف على غابة في إسطنبول، أجرت "المجلة" حديثا شاملا مع الرئيس السابق، الذي تحدث عن مجموعة واسعة من القضايا بدءا من الوضع السياسي والاقتصادي الداخلي في تركيا، وصولا إلى احتمالات اندلاع حرب إقليمية في الشرق الأوسط.
هنا نص الحوار:
* نبدأ بالحديث عن الشؤون التركية ثم الإقليمية والشؤون الدولية... في ما يتعلق بالشأن المحلي، خلال السنة الماضية جرت انتخابات رئاسية وانتخابات برلمانية، وهذه السنة جرى انتخاب إدارات محلية في تركيا. كيف تقرأون نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية والمحلية؟
- كما تعلمون، أعيد انتخاب الرئيس (رجب طيب أردوغان) في الانتخابات التي جرت العام الماضي، وعندما تم انتخابه كان هناك تحول في السياسة الخارجية وكذلك في القضايا الاقتصادية. فقد بدأ بتعيين بعض الوزراء الجدد في الحكومة ليواكبوا النظرة الواقعية التي بدأ يتبناها بعد الانتخابات، سواء في القضايا الخارجية أو في القضايا الاقتصادية.
أما بالنسبة للانتخابات المحلية، فقد حازت أحزاب المعارضة نسبة كبيرة من الأصوات، وخاصة بالنسبة إلى المدن الكبيرة التي فيها عدد كبير من المواطنين. وهذه النتيجة أدت إلى أن يكون هناك توازن قوى بين الحكومة والمعارضة.
* يبدو أن تنفيذ الرئيس أردوغان للإصلاحات الاقتصادية كلفه الكثير في الانتخابات المحلية، التي شهدت مكاسب للمعارضة. فهل يُعتبر الاقتصاد الهمّ الأكبر للناخبين في تركيا؟
- العامل الاقتصادي هو الأهم في حياة الشعوب، ومن هذا المنطلق أقول إن السنوات الخمس التي سبقت الانتخابات الأخيرة كانت سيئة من الناحية الاقتصادية ومن ناحية التعامل مع القضايا الاقتصادية للشعب.
في الفترة الأخيرة استقبلت تركيا من اللاجئين خلال سنتين مجموع ما استقبلته ألمانيا خلال ثلاثين عاما
ما حدث أن التضخم بدأ يرتفع إلى نسبة تقارب مئة في المئة، وفجوة توزيع الدخل والثروات أيضا بدأت تتضاعف بشكل كبير بين أفراد الشعب. وقد أدرك الرئيس أردوغان خطأ السياسات السابقة في هذا الموضوع، فلذلك أراد أن يتدارك هذا الموضوع بأن يبدأ في تغيير نوعي وواقعي في القضايا الاقتصادية. ومن أهم مؤشرات هذا الموضوع أنه استعان بوزير المالية الجديد ورئيس البنك المركزي وهما من أصحاب الكفاءات العالية.
* هذه الإجراءات معروفة ومعلنة، لكن هل هذه الإجراءات كافية أم ترون أن هناك إجراءات أخرى يجب القيام بها بشكل سريع لمعالجة الوضع الاقتصادي؟
- أقول إن المسيرة التي بدأت مسيرة صحيحة، ولكن بما أن السياسات السابقة كانت خاطئة فلذلك يجب أن تكون هناك خطوات عملية جديدة ومهمة، ومنها تعزيز سيادة القانون والعدالة وكذلك التعامل مع الاقتصاد ومع مطالب الشعب بالشكل الصحيح.
* هل تعتقدون أن لا سيادة للقانون حاليا؟
- لـقــد تـركـت محاولة الانـقلاب الفـاشلة في أنـقـرة عام 2016 والعوامل السياسية والاقتصادية الخارجية المختلفة أثرا كبيرا على التقدم في هذا المجال. عندما غادرت الرئاسة عام 2014، كنا قد حققنا بالفعل تقدما كبيرا، ولكن منذ ذلك الحين، حدث تراجع بسبب عوامل مختلفة، ولا شك في أن العودة إلى السياسات الصحيحة والعقلانية أمر ضروري لمعالجة هذه الانتكاسات بشكل فعال، وهو ما يحدث الآن.
* لا شك أن الموضوع الاجتماعي مهم في تركيا وفي أي دولة أخرى. كيف ترون الوضع الاجتماعي في تركيا وما موقع اللاجئين ضمن الواقع الاجتماعي في الشأن التركي؟
- هذه المسائل كانت غريبة إلى حد بعيد في تركيا، ولكن في الفترة الأخيرة كما تعلمون استقبلت تركيا من اللاجئين خلال سنتين مجموع ما استقبلته ألمانيا خلال ثلاثين عاما. ولذلك أصبحت تركيا من أكثر الدول التي استقبلت اللاجئين وهذا طبعا أثّر على النسيج الاجتماعي بشكل عام.
* التقيت السنة الماضية خلال زيارة لي إلى تركيا أوميت أوزداغ، رئيس حزب "النصر". هل يشكل اللاجئون السوريون مشكلة حقيقية أم تستعمل هذه المسألة من قبل القوى السياسية في تركيا لأسباب سياسية؟
- أبدى الشعب التركي موقفا مهماً وموحداً في هذا الموضوع فلم تكن هناك مشاحنات كبيرة بالنسبة للاجئين، بل بعض الحوادث المعزولة. وعلى مدى السنوات العديدة الماضية، أجرت تركيا أكثر من خمسة انتخابات محلية ورئاسية وبرلمانية، ولم يستغل أي حزب سياسي قضية اللاجئين. وفي الانتخابات الأخيرة، برزت إلى حد ما في الانتخابات الأخيرة، لكن الشعب التركي أبدى إنسانية بشكل عام في تعامله مع هذه القضية.
في الواقع، أنا أثني على أحزاب المعارضة- لا سيما حزب المعارضة الرئيس- لعدم استخدام هذه القضية كسلاح خلال الانتخابات. لا يمكن قول الشيء نفسه في أوروبا، حيث تم تسييس قضية الهجرة بشكل كبير.
الأسد وأردوغان... واللاجئون
* في ما يتعلق بموضوع السوريين، يطرح موضوع إعادة السوريين إلى بلدهم. ما تصوركم لهذا الأمر؟ هل فعلا عودة جزء من السوريين تعتبر حلا؟
- سبق وتحدثت في هذا الموضوع في أكثر من مرة وقلت إن اللاجئين إلى أي بلد لا يشعرون بأنهم في وطنهم، طبعا هم يشتاقون إلى وطنهم، إلى منازلهم إلى حقولهم إلى مدارسهم، ولكن في الوقت ذاته في البلد المضيف أيضا يُستضاف هؤلاء الناس لفترة ثم تبدأ بعد ذلك مشاحنات اجتماعية، مثلا بالنسبة لموضوع منافسة بعض الأجانب لأبناء البلد، فلذلك يجب أن تكون عودة اللاجئين بشكل مناسب بحيث يشعرون بالراحة والأمان في هذا الموضوع.
أرحب بمقترح الرئيس أردوغان لعقد اجتماع مع الرئيس الأسد. المهم قبل كل شيء أن يسود السلام في المنطقة والبلد المعني
ولكن قد يبقى بعض هؤلاء اللاجئين في البلد الذي التجأوا إليه أو نزحوا إليه. هذا أمر اعتيادي ويُرى في أكثر من مرة. ولكن المهم كيف يرجع هؤلاء الناس إلى أوطانهم وإلى بيئتهم الأصلية الحقيقية التي يرتاحون فيها. أتمنى أن يكون الكل مرتاحين في أوطانهم وفي بلدانهم وبين أقاربهم، ومن هذا المنطلق يجب أن تكون هناك مبادرات مهمة ومشاريع مهمة لتحقيق مثل هذا الغرض بالشكل الذي يرضي جميع الأطراف المعنية.
* الرئيس أردوغان يقول في الفترة الأخيرة إنه مستعد للقاء الأسد، ومما يقال إن أحد الأسباب التي لأجلها يريد رؤية الأسد هو موضوع إعادة اللاجئين. ما رأيكم في هذه المقاربة؟
- بداية، أرحب بمقترح الرئيس أردوغان لعقد اجتماع مع الرئيس الأسد، ولكن المهم قبل كل شيء أن يسود السلام في المنطقة وفي البلد المعني. إذا ساد السلام وإذا ساد الوفاق الاجتماعي في هذا البلد فإن أكثر النازحين يودون طبعا أن يرجعوا إلى بلدانهم بصورة طوعية. ولكن إذا لم يكن هناك استقرار وسلم اجتماعي فهل يمكن أن يكون هذا الموضوع من الأولويات الموجودة؟ بطبيعة الحال لست في سدة المسؤولية حاليا لأقرر في هذا الموضوع.
* هل ترحبون بعقد لقاء بين الأسد وأردوغان، أم إن لديكم تحفظات؟
- إذا كان كلا الجانبين يرغبان بصدق في الاجتماع، فيجب إدارة الوضع بعناية. وإذا توفرت إرادة متبادلة للدخول في حوار، فيمكنهما تجاوز الخلافات السابقة وفتح صفحة جديدة في علاقتهما. ومع ذلك، لكي يكون الاجتماع مثمرا، فإن التحضير له بشكل شامل أمر ضروري. وقد يتطلب ذلك اجتماعات على مستويات مختلفة- دبلوماسية، وزارية، سياسية، وأمنية- لتهدئة التوترات أولا ووضع أساس لمناقشات مثمرة. بهذه الطريقة، عندما يلتقي الرئيسان، سيكونان قد أحرزا تقدما ملموسا في حل القضايا العالقة. أما إذا تم اللقاء دون هذه التحضيرات، فقد يؤدي اجتماع يناقش قضايا مبهمة إلى عرقلة العملية.
تركيا حريصةعلى وحدةالتراب السوري وقد ذكر هذا الموضوع أكثر من مرة ولا يوجد هناك أي تردد في هذا الموضوع
* كما نعرف حصلت اجتماعات علنية وسرية وكانت هناك اجتماعات سرية كبيرة بين رؤساء أجهزة الأمن وأعتقد أنها حتى الآن تحصل في بغداد وموسكو وعلى الحدود، وهناك أيضا اتصالات سياسية، معروف أن الأسد يقول إنه لن يلتقي بأردوغان قبل أن يعلن على الأقل مبدأ انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية. ما رأيكم في مطلب الأسد إعلان مبدأ الانسحاب من الأراضي السورية؟
- يجب أن نعلم قبل كل شيء أن تركيا حريصة على وحدة التراب السوري وقد ذكر هذا الموضوع أكثر من مرة، ولا يوجد هناك أي تردد في هذا الموضوع. لا مجال للحديث عن بعض الأقاويل التي نشأت حول "العثمانية الجديدة" وما إلى ذلك. تركيا تريد أن تكون سوريا حرة بسيادتها وبوحدتها الترابية والاجتماعية.
لا مجال للشك في هذا الموضوع. من هذا المنطلق يجب أن نبدأ بالنظر في هذا الموضوع لأن هذا الموضوع قد يسهل عملية اللقاء في وقت من الأوقات.
لماذا توجد وحدات من الجيش التركي؟ بطبيعة الحال حدث فراغ أمني وإرهابي، وتركيا لا تريد وليس في أجنداتها إطلاقا أن تضر بأمن سوريا أو أن تغير الخريطة الموجودة حاليا. هذا يجب أن يكون معلوما لدى الإخوة السوريين ولكل العالم.
لقد ذكر هذا الموضوع على لسان رئيس الجمهورية ووزير الخارجية وكذلك جميع المسؤولين المعنيين. أما متى تنسحب وحدات من الجيش التركي الموجودة في سوريا وبأية طريقة؟ فهذه مسألة يجب التباحث فيها. أنا لست في موقع المسؤولية لأعلم كيف سيتم هذا الموضوع، ولكن أتمنى أن يتم هذا الموضوع بسلاسة وبوضوح بالشكل الذي يرضي الأطراف.
هذا ينطبق على العراق أيضا، ربما هناك بعض العراقيين ينظرون إلى وجود أو غارات معينة مثلا، ولكن هذا الوجود سببه الفراغ الأمني الموجود لأنه لو استطاعات الحكومة العراقية أن تنهي هذا الموضوع لما دخلت وحدات من الجيش التركي، وهذا الأمر لسوريا أيضا.
الأكراد
* المقارنات بين العراق وسوريا جيدة، هناك قاعدة تركية في بعشيقة وهناك تفاوض مع حكومة محمد شياع السوداني ضد "حزب العمال الكردستاني". على الأقل في الموضوع السوري، هل تعتقدون أن هناك إمكانية للتعاون بين دمشق وأنقرة للقتال ضد الإرهابيين أو ضد الأكراد وتحديدا "حزب العمال الكردستاني" و"وحدات حماية الشعب" الكردية؟
- قبل كل شيء يجب أن نعترف بأن الأكراد مجموعة عرقية كبيرة في هذه المنطقة، في سوريا، العراق، إيران، تركيا. ولا بد– في رأيي– من أن يكونوا مواطنين متساوين في دولهم، يتمتعون بالحرية وجميع الحقوق التي يكفلها القانون. رغم التحديات في بعض البلدان، من المهم أن نتذكر أن بعض المجتمعات الكردية في سوريا كانت مهمشة تاريخيا، حيث إن الكثير منهم لم يكن لديهم حتى بطاقات هوية. ومع ذلك، يجب أن نميز بوضوح بين الشعب الكردي ككل و"حزب العمال الكردستاني" ككيان إرهابي.
وفي السبعينات والثمانينات، كان لـ"حزب العمال الكردستاني" وجود في سوريا، وكان عبدالله أوجلان ينشط من الأراضي السورية. واستمر الحزب في التمتع بالأمان والاستقرار حتى عام 1998، حين تم توقيع اتفاقية أضنة بين أنقرة ودمشق. فيما يتعلق بمسألة العمل المشترك أو التعاون بين تركيا وسوريا ضد الجماعات الإرهابية، فإن هذا ممكن وضروري في الوقت ذاته. ويمكن أن تشكل بنود اتفاقية أضنة أساسا لهذا التعاون. ولكن من الضروري التمييز بين الإرهابيين والمواطنين الأكراد الذين يعيشون في البلاد.
* سؤال آخر في الموضوع الكردي: في أواخر التسعينات، كانت تركيا منخرطة في التنسيق بين سوريا وتركيا والعراق لمنع إقامة كيان كردي شمال غربي العراق، وهو ما عُرف بـ"التنسيق الثلاثي". وعلى الرغم من التوتر الحالي بين تركيا وسوريا، هناك جهود مشتركة جارية لمنع تشكيل كيان كردي شمال شرقي سوريا. لقد ذكرتم وجود الأكراد في أربع دول: تركيا، سوريا، إيران، والعراق. هل تعتقدون أنه ينبغي أن يكون هناك تنسيق بين هذه الدول الأربع لمنع إقامة دولة كردية؟
- بطبيعة الحال يمكن التنسيق بين جميع هذه الدول لمكافحة الإرهاب والجماعات الإرهابية، مع ضرورة التمييز الواضح بين الإرهابيين والمواطنين الذين يعيشون في هذه الدول والذين يجب أن يتمتعوا بحقوقهم كاملةً وبالتساوي. ومع ذلك، إذا كانت هناك حركات انفصالية أو منظمات إرهابية تهدد الأمن الوطني لهذه الدول، فإن التنسيق بينها يصبح ضروريا، بالطبع.
* بما في ذلك التنسيق لمنع قيام كيان كردي؟
- يجب أن نعترف بأن جميع المواطنين في أي بلد يجب أن يتمتعوا بالأمن والحرية وجميع حقوقهم السيادية والقانونية. وينبغي أن تُمنح الحقوق الأساسية لجميع المواطنين، سواء كانوا من الأكراد أو سواهم، ولكن لا يمكن اعتبار الحركات الإرهابية أو الانفصالية مدافعين شرعيين عن حقوق الإنسان. فهذه الحركات تُستخدم أحيانا كأدوات من قبل قوى خارجية، مثل الروس والأميركيين. إضافة إلى ذلك، ستنظر إسرائيل إلى أي كيان كردي يُقام على أنه حليف محتمل لها. وبالتالي، لا بد من التعامل بحزم مع جميع الحركات الانفصالية والإرهابية التي تهدد الأمن الوطني للدول المعنية.
بقاء الأسد
* سأعود إلى موضوع إسرائيل لكنّ لدي سؤالين عن "الربيع العربي". السؤال الأول: هل فوجئتم بأن الأسد- وأعتقد أنه الرئيس الوحيد الذي بقي في الحكم بين الدول التي قام فيها "الربيع العربي"– هل فوجئتم بأن الأسد بقي في الحكم؟
- لن أقول إن ذلك كان مفاجئا؛ ولكنني أرى أن الدول في المنطقة التي شهدت "الربيع العربي" قد تغيّرت بطريقة أو بأخرى، سواء بشكل إيجابي أو سلبي.
* متى كان آخر اتصال بينكم وبين الأسد؟
- كان ذلك في عام 2011، مع بداية "الربيع العربي". آخر ما كنت أرغب في رؤيته في سوريا هو مواجهة بين الجيش السوري وفصيل مسلح من شعبه.
مع تطور الأحداث بحلول عام 2012، ومع انخراط روسيا وإيران لتحقيق مصالحهما الخاصة، بدأت أشك في إمكانية حدوث تغيير سريع للنظام في سوريا. فمن المعروف أن لروسيا سياسة تقليدية في البحر المتوسط، ولإيران أجندتها الخاصة لتحقيق مصالحها الوطنية. وكان واضحا أن روسيا وإيران ستواصلان دعم النظام، في حين أن الحركات المسلحة في سوريا لم تحظَ بالمستوى نفسه من الدعم القوي، مما أدى إلى حسابات غير متوازنة. كنت أشارك هذا الرأي مع حكومتي وأعبر عنه في المحافل الدولية، مؤكدا أن هذا الصراع لن يُحسم إلا بالاتجاه نحو حل دبلوماسي أو سياسي. توقعت أن الوضع سينتهي إلى ما نراه اليوم، حيث بقيت الأمور على حالها.
داخل فلسطين نفسها هناك انقسام على جبهتين، سواء في الضفة الغربية أو غزة هذا الانقسام أتاح لإسرائيل القدرة على التصرف كما تفعل
أتذكر أن آخر محاولة جادة جاءت من (الأمين العام السابق للأمم المتحدة) كوفي عنان، الذي تم تعيينه مبعوثا مشتركا للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى سوريا في عام 2012. في خطابي في المحافل الدولية، مثل قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في شيكاغو عام 2012، أكدت أن ذلك الجهد كان الفرصة الأخيرة لسوريا، وأملت أن تتبعه عملية سياسية. لقد أحزنني بعمق أن يصل الوضع إلى هذه النقطة المأساوية، مع أكثر من 400 ألف قتيل، مما يجعل الوضع مؤلما بحق.
"الربيع العربي"
* سؤال عن "الربيع العربي" ثم ننتقل إلى غزة ولبنان. ما رأيكم بعد 13 سنة على "الربيع العربي" الذي حصل في عدد من الدول العربية؟ كيف تقيّمون هذه التجربة، وهل كان فعلا "ربيعا عربيا" أم كان "خريفا" أم "شتاء مظلما"؟
- كنت أرى مطالب الشباب والشعوب العربية بالتأكيد مشروعة. رأيت فيها حركة نبيلة من قبل الشباب والمواطنين الساعين إلى حياة كريمة، والمطالبين بحوكمة جيدة. بعض الدول، بما في ذلك المَلَكيات، تمكنت من إدارة الأزمة من خلال محاولة تلبية الكثير من المطالب المشروعة لمواطنيها، فيما فشل "الديكتاتوريون المنتخبون" في التعامل مع الوضع بشكل صحيح.
* هل تعتقدون أن "الربيع العربي" فشل؟
- عندما أرى أن الموضوع بدأ من تونس وأرى ما وصلت إليه تونس حاليا، بحيث كانت نسبة المشاركة في الانتخابات التونسية الأخيرة حوالي 27 في المئة. فكيف يكون الأمر جيدا؟ راشد الغنوشي عمره 83 سنة وسبق أن شارك في الانتخاب، هذا الرجل في السجن حاليا.
* هل شكّل "الربيع العربي" خيبة أمل لكم، فخامة الرئيس؟
- ليست خيبة أمل، ولكنني أشعر بالأسف لما وصلت إليه الأمور، لأن الشعوب العربية لها آمالها وطموحاتها في العيش بشكل جيد من الناحية الاقتصادية والاجتماعية وكانت تريد أن تكون هناك مساءلة للحكومات. أليس للشعوب العربية حق في أن تعيش مثلما يعيش الألمان أو الفرنسيون أو البريطانيون أو غيرهم، بشكل يضمن لهم حقوقهم في القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وما إلى ذلك؟ أما وصول الأمور إلى هذا الحد، فإن ذلك يجعلنا نشعر بالأسى.
قصف إسرائيلي
* ننتقل إلى الموضوع الإقليمي.طائرات إسرائيلية قصفت دمشق، وهي تقصف بيروت حاليا وقصفت الحديدة في اليمن وتقصف في غزة وكذلك قصفت في الضفة الغربية، وتقصف في العراق وتقصف في إيران. كيف ترون هذا المشهد؟
- أشعر بالأسى العميق لذلك. فالدول الإسلامية في المنطقة ليست موحدة؛ بل هي منقسمة بعمق. حتى داخل فلسطين نفسها، هناك انقسام على جبهتين، سواء في الضفة الغربية أو غزة. هذا الانقسام أتاح لإسرائيل القدرة على التصرف كما تفعل. إن غياب الوحدة والتماسك بين دول المنطقة منح إسرائيل، في الأساس، فرصة تاريخية للتصرف بهذا الشكل.
* حلّت الذكرى السنوية الأولى لـهجوم "حماس" في 7 أكتوبر. كيف ترون 7 أكتوبر؟
- أنا لا أؤيد بأي شكل من الأشكال الهجمات على المدنيين العزل وغير المسلحين. ولكن ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في هذا السياق مهم للغاية لفهم الأمور: هذه الهجمات لم تحدث من فراغ.
جميع السياسات الإسرائيلية متوجهة إلى أن تلغي مسألة الانسحاب إلى حدود 1967. حكومة إسرائيل بكل أفعالها تريد أن تنهي هذا الموضوع
لقد احتلت إسرائيل أراضي الفلسطينيين بشكل غير قانوني وظالم لعقود. وفوق ذلك، تنفذ إسرائيل سياسة استيطانية وحشية في الضفة الغربية على الرغم من قرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
وقد أجبرت السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم بطريقة منهجية ومستمرة. ومع كل هذه الاضطهادات، عندما يُحرم الناس باستمرار من كرامتهم وحقوقهم الأساسية، فقد يقولون لأنفسهم: "لنمُت معًا؛ فنحن نسير نحو النهاية على أي حال". وعندما تُسلب حقوق الناس أو لا يُعاملون كبشر، فمن الطبيعي أن تنشأ حركات مقاومة. وهذا ما حدث بالفعل.
* ماذا تريد إسرائيل في لبنان حاليا؟ قتلت قيادات من "حزب الله" وتقصف في لبنان؟
- جميع السياسات الإسرائيلية متوجهة إلى أن تلغي مسألة الانسحاب إلى حدود 1967، بكل أفعالها تريد أن تنهي هذا الموضوع، ولذلك تريد كسر جميع القيود الموجودة أمام هذا الأمر.
وفي 2006 عندما تم إصدار القرار 1701 وأن تنسحب إسرائيل ويتم نزع سلاح "حزب الله". ولكن عندما لم ينته الاحتلال بدأ النضال والمقاومة فهذا الموضوع مرتبط بالآخر.
* إذن الحل هو 1701؟
- ليس 1701 فقط، ولكن لأنه كان الأحدث في هذا الموضوع، غير أن الأساس هو حدود 1967 (القرار 242). أنا ذكرت 1701 بالنسبة للموضوع اللبناني فقط.
* ما تعليقكم على التصريحات التركية الأخيرة بأن إسرائيل تريد "الأرض الموعودة"، وكما نعرف عقدت أخيرا جلسة للبرلمان التركي على أن إسرائيل لديها خطة لـ"الأرض الموعودة" وهناك تهديد على تركيا. ما رأيكم في هذا الخطاب ككل؟
- لا أُولي أهمية لهذه الادعاءات الأيديولوجية أو الأسطورية، فهي أحلام عفّى عليها الزمن. لا يمكن لإسرائيل أن تجرؤ على إظهار سلوك عدائي ضد تركيا.
إيران وإسرائيل... والشرق الأوسط
* سابقا كانت هناك "حرب الظل" بين إسرائيل وإيران. كانتا تتحاربان عبر الوكلاء والحلفاء، في الأشهر الأخيرة وفي أبريل/نيسان انتقلنا إلى مرحلة جديدة وهي الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران، وأخيرا إيران ضربت إسرائيل التي ردت بقصف إيران. هل أنتم قلقون من حدوث حرب إقليمية ومواجهة إيرانية- إسرائيلية؟
- كما ذكرت قبل قليل، المنطقة ليست موحدة. للأسف، هناك انقسام داخل العالم الإسلامي في الشرق الأوسط. لقد غيّرت السياسات المتشددة لإيران تصورات مصادر التهديد في المنطقة؛ فبينما كانت الدول العربية تقليديا ترى في إسرائيل التهديد الأساسي، حلت إيران محلها في هذا الدور. وقد أدى ذلك إلى إقامة بعض الدول العربية علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل، وهو ما كانت إسرائيل ترغب فيه وها هي ذي تحقق طموحاتها مستغلة هذا الانقسام. لقد أثر هذا الوضع على المنطقة وتماسكها بشكل عام.
التطور الإيجابي الوحيد في الآونة الأخيرة هو استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران بوساطة الصين، وعادت الخطوة بالنفععلى المنطقة
أعتقد أن التطور الإيجابي الوحيد في الآونة الأخيرة هو استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، بوساطة الصين، وقد عادت هذه الخطوة بالنفع على المنطقة.
أما الخطاب العدائي والشعارات الإيرانية بشأن محو إسرائيل من الخريطة وإنهاء الدولة الإسرائيلية، فقد صب في صالح تل أبيب، واستخدم كذريعة لتبرير الدعم العسكري غير المحدود من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
وتسعى إسرائيل إلى توسيع نطاق الحرب في المنطقة، لأنها ترى أن ذلك يصب في مصلحتها، ولتحقيق هذا الغرض، نراها تعمل على استفزاز الأطراف الإقليمية، وخاصة إيران.
* تحدثتم عن الاتفاق السعودي– الإيراني برعاية صينية، وأيضا كانت هناك مقاربة جديدة من الرئيس أردوغان وحصل تحسن في العلاقة مع مصر ومع السعودية ومع الإمارات. كيف تنظرون إلى المقاربة الجديدة للرئيس التركي على الأقل إقليميا؟
- أؤيد تماما هذه الخطوات وأشعر بالأسف لخسارة عقد من الزمن في علاقاتنا مع هذه الدول الشقيقة. أؤيد هذا التوجه بكل إخلاص، إذ إن التضامن بين تركيا وهذه الدول سيترك آثارا إيجابية على أمن وازدهار المنطقة.
وعودة إلى القضية الفلسطينية، أود أن ألفت انتباهكم إلى وجود ضعف كبير في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وهو الانقسام بين الفلسطينيين أنفسهم. لقد بُذلت جهود كثيرة لإنهاء هذا الانقسام، وعلى رأسهما مبادرات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز.
وبدوري قمت بمبادرات لتقريب وجهات النظر بين الفلسطينيين في مناسبات سابقة في شتى المسؤوليات التي تحملتها. هذا الانقسام يضعف قوة القضية، فغزة والضفة الغربية لا تتشكلان من شعبين مختلفين؛ بل هم جميعا فلسطينيون محرومون من حقوقهم. ومع كل هذه المعاناة، حان وقت الوحدة.
علينا أيضا أن ندرك أن مبادرة السلام العربية، التي قدمها الملك عبد الله في بيروت عام 2002 وحظيت بتأييد منظمة التعاون الإسلامي، التي تضمّ إيران أيضا، تبقى جهدا محوريا لحل فعال ومؤثر للقضية الفلسطينية. ودون إيجاد حل دائم لهذه القضية يستند إلى صيغة الدولتين، سيكون من الصعب تحقيق السلام والأمن الإقليميين في الشرق الأوسط.
* سؤال أخير، تركيا لها وزن دولي وهي جزء من "مجموعة العشرين". هناك مخاض إقليمي واضح لكن في الوقت ذاته هناك مخاض دولي يحدث، هناك صعود الصين وهناك روسيا في أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وربما يضعف دور أميركا. كيف تتصورون النظام الإقليمي الجديد؟ والأهم كيف ترون النظام الدولي الجديد خلال السنوات المقبلة؟
- في ظل الظروف الحالية، تُداس القيم والمعايير العالمية التي يدّعي الغرب أنه يدافع عنها بشدة، مثل حقوق الإنسان وسيادة القانون والديمقراطية، على يد الغربيين أنفسهم، الذين يرفضون تطبيق المعايير نفسها، عندما يتعلق الأمر باحتلال إسرائيل لفلسطين وعدوانها على الفلسطينيين.
إن الصراع الحالي بين الولايات المتحدة والصين لا سيما حول القضايا الاقتصادية ومجالات النفوذ سيقود بلا شك إلى حقبة جديدة من الاستقطاب
وفي غزة، ظهر فشل النظام الدولي تجاه المعاناة الهائلة التي تجري هناك. ويختلف موقف الفاعلين الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، من الحرب في غزة عن مواقفهم من الحرب الروسية-الأوكرانية.
هذا النفاق يقلل من مصداقيتهم وقوة إقناعهم. وللأسف، فإن هذا التمييز قد يدفع بعض الدول إلى الانجذاب نحو الأنظمة السلطوية، سواء في الصين أو غيرها، لمواجهة هذا الانحياز الواضح من الغرب.
إن الصراع الحالي بين الولايات المتحدة والصين، لا سيما حول القضايا الاقتصادية ومجالات النفوذ، سيقود بلا شك إلى حقبة جديدة من الاستقطاب في العالم على مدار السنوات العشر القادمة، مما سيحمل تحديات كبيرة للشرق الأوسط وما وراءه.
لذلك، ينبغي للعالم الغربي أن يراجع سلوكه وممارساته وأن يعود إلى اتباع سياسات عادلة وتشاركية وشفافة مبنية على الحوار والصدق، وتحترم متطلبات القانون الدولي والمبادئ العالمية، وعندها يمكنهم أن يستعيدوا الثقة التي فقدوها وأن يسترجعوا ثقة شعوب العالم العربي والمنطقة الأوسع، من آسيا إلى أميركا اللاتينية.
هذا الفهم يمكن أن يجعل من العالم الغربي ومؤسساته مصدر إلهام مرة أخرى، فإن لم يفعلوا، فستستمر خيبة الأمل فيهم.
فإذا قام الغرب بهذه النقلة، فستسهم، بالتضافر مع ازدياد الوعي، في تشجيع الكثير من الدول، سواء في الغرب أم الشرق، إلى التركيز على الداخل وإعادة التفكير في سياساتها الاجتماعية والاقتصادية وتطبيق نهج قائم على الحوكمة الرشيدة.