"طرق الموت"... فلسطينيون يصفون النزوح من شمال قطاع غزة

هناك من صمد في الشمال رغم القتل والدمار

أ.ف.ب
أ.ف.ب
فلسطينيون يحملون أمتعتهم أثناء فرارهم من المناطق الواقعة شمال مدينة غزة، 12 أكتوبر

"طرق الموت"... فلسطينيون يصفون النزوح من شمال قطاع غزة

بعد أكثر من شهر على انطلاق العملية العسكرية البرية الإسرائيلية على محافظة شمال قطاع غزة، والتي تتكون من ثلاث بلدات رئيسة "جباليا، بيت لاهيا، بيت حانون"، أصبحت المحافظة مفصولة تماما عن مدينة غزة التي فصلها الجيش الإسرائيلي عن وسط وجنوب القطاع قبل قرابة عام ماضي، حينما أنشأ محور نتساريم جنوب مدينة غزة وبموازاة وادي غزة من الشرق وحتى أقصى الجنوب.

بدأت العملية العسكرية الإسرائيلية على شمال القطاع، في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حينما تعرضت المناطق الشمالية وبالتحديد مخيم جباليا، إلى قصف مدفعي وحربي كثيف بهدف تهجير أكبر قدر ممكن من السكان والنازحين من المخيم، واستخدمه الجيش كغطاء لتقدم دباباته وآلياته العسكرية المصحوبة بمئات الجنود لمحاصرة المخيم وملاحقة فصائل المقاومة الفلسطينية والقضاء عليها، بحسب ما أعلن الجيش حينها في بيان رسمي.

ويقول محمد عويص (33 عاما) وهو من سكان جباليا النزلة بالقرب من دوار أبو شرخ، إن القصف الإسرائيلي صاحبه تقدم للجيش من المناطق الشرقية والغربية والشمالية لمخيم جباليا، وتزامن مع ذلك توغل بري في مناطق السلاطين والعطاطرة والتوام في بيت لاهيا غربا، صاحبه إلقاء الجيش الإسرائيلي لأوامر إخلاء في منشورات ألقتها طائرات دون طيار على مخيم جباليا تطالب السكان بالإخلاء الفوري تحت النار.

ويضيف: "الناس أُجبرت على النزوح بسبب الخوف والرعب على أطفالهم ونسائهم من القصف الإسرائيلي الذي استهدف وقتل عشرات العائلات داخل منازلهم خلال الأيام الأولى من الاجتياح والتوغل البري"، مشيرا إلى أن عددا من السكان نزحوا باتجاه مناطق قريبة على المخيم، إلى أحياء الشيخ رضوان وشارع الجلاء شمال مدينة غزة، وذلك عن طريق دوار أبو شرخ الذي أصبح ممرهم للنزوح والقريب من منزل عائلته، فيما نزح عشرات آخرون إلى داخل المناطق الشمالية، وبالتحديد إلى بلدة بيت لاهيا.

وكان مخيم جباليا قبل العملية البرية المستمرة حتى نشر هذا التقرير، يعج بالسكان والنازحين من مختلف المناطق: المنازل مأهولة بالسكان، والمدارس جميعها تحولت إلى مراكز إيواء لآلاف العائلات التي فقدت منازلها واضطرت للنزوح خلال أشهر الحرب الماضية بسبب عمليات برية عسكرية سابقة على مناطق سكناهم، وقصف أحيائهم السكنية بالأحزمة النارية المكثفة سابقا "ما في أرض فاضية بالمخيم إلا والناس عملت عليها خياما وأقامت فيها، على الأرصفة والطرقات ومحيط المدارس والمستشفيات، ما كان في وسع الواحد يمشي في شوارع المخيم بسبب الكثافة السكانية من النازحين"، حسب ما يقول عويص لـ"المجلة".

في 21 أكتوبر الماضي، حاصر الجيش مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا والمنازل ومراكز الإيواء المحيطة به، حيث طالبهم بالخروج من المنطقة تحت التهديد والترهيب

وقد تصاعدت العملية العسكرية مع تكثيف القصف والاستهدافات الإسرائيلية وتوغل الجيش، وتحول الحديث في الإعلام الإسرائيلي بأن الهدف من العملية البرية هو تفريغ شمال القطاع من السكان، ضمن ما عُرف بـ"خطة الجنرالات" الهادفة إلى تفريغ السكان وإنشاء المستوطنات، وهو ما نفاه الجيش والحكومة الإسرائيلية باستمرار، متمسكين بالتصريح حول الهدف الأساسي وهو ملاحقة فصائل المقاومة الفلسطينية والقضاء عليهم، وعلى رأسهم حركة "حماس" وأفراد جناحها العسكري "كتائب القسام".

أُجبر عويص وأسرته على النزوح من منزلهم في اليوم الرابع للتوغل البري، وبعد ليلة من الرعب قضوها بسبب إطلاق طائرة "كواد كابتر" النار على ألواح الخلايا الشمسية فوق سطح المنزل، وهبوطها قبالة شبابيك الطوابق السكنية، تبعها إطلاق قذيفتين من الدبابات على الطابق العلوي الخالي من السكان، "ما قدرنا نطلع من البيت بالليل، عتمة وقصف وخوف، ومش عارفين وين بدنا نروح".

كانت الدبابات قد تقدمت وصولا إلى دوار أبو شرخ وأصبح المرور عبر "دوار الموت" كما سماه صعبا، حيث أصبحت الدبابات تستهدف كل من يتحرك على أبو شرخ بالرصاص والقذائف المدفعية... "في ناس كتير قتلت على الدوار وتركت جثامينها لأيام بدون ما حد يقدر يوصلهم وينتشلهم"، ليطرح وأسرته النزوح إلى منزل أقاربهم والذي تحيطه مدارس تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) ويبعد عن منزلهم قرابة 300 متر باتجاه الشرق، معتقدين أن الحالة لن تطول، ويومان أو ثلاثة وسيعودون لمنزلهم، لكن الأمر لم يجرِ وفق المتوقع.

 

فاستمر الجيش في عمليات النسف للمربعات السكنية والتقدم إلى العمق بشكل أكبر، حيث كان منزلهم ومربعهم السكني ضمن المربعات التي تعرضت للتفجير بالروبوتات المتفجرة كما أخبر "المجلة"، ومع تقدم الجيش واقترابهم من منزل النزوح، اضطر للنزوح إلى منزل ثانٍ لأقاربهم بالقرب من مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا، حيث أصبح بعيدا عن منزله ومسقط رأسه الذي ولد ونشأ فيه.

ولم يكن عويص وعائلته وحدهم من نزح إلى بيت لاهيا، بل إن مئات العائلات اضطرت للنزوح خاصة بعد استهداف المدارس التي كانت قد تحولت إلى مراكز إيواء، وهُجر آلاف العائلات التي كانت قد سبق ونزحت بشكل داخلي عدة مرات في أوقات سابقة "احنا طول الوقت بنفكر وبنحاول أن نستمر ونصمد أطول فترة ممكنة داخل الشمال، طول الوقت عنا أمل تتوقف وتنتهي العملية العسكرية ونقدر نرجع لبيوتنا حتى لو تعرضت للتدمير الكلي"، بحسب ما يصف عويص مشاعرهم وأفكارهم.

أما الجيش، فقد انشغل بتوسيع العملية العسكرية، حيث نسف وجرف مئات المنازل والأراضي الزراعية، والتي سهلت عليه عملية فصل محافظة شمال القطاع عن مدينة غزة، كما هاجم المستشفيات وطواقم الدفاع المدني حتى إنه أخرجهم عن الخدمة ومنع طواقم الإسعاف والدفاع المدني من ممارسة عملهم الخدماتي الإنساني منذ الأسبوع الثالث للعملية العسكرية، كما حاصر وقصف النازحين في مراكز الإيواء، ليقتل أكثر من 1300 مواطن أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى عشرات المصابين والجرحى والمفقودين، إما بسبب عدم القدرة على انتشالهم من تحت الأنقاض أو بسبب القتل أو الاعتقال في الشوارع دون قدرة أسرهم على معرفة مصير أبنائهم بحسب ما قال مصدر في وزارة الصحة بغزة لـ"المجلة".

وبعد أن هيأ الجيش الإسرائيلي المناطق الجغرافية بحسب ما يريدها، وتسبب في إحداث دمار واسع، ركز هجماته على المناطق الأكثر كثافة سكانية، وبالتحديد تجمعات مراكز الإيواء، سواء في مخيم جباليا، أو في بيت لاهيا التي كانت ملاذ النازحين من المخيم تحت القصف، حيث اضطر آلاف الغزيين على النزوح بعد عمليات محاصرة وتهديد، وإجبار المدنيين على النزوح إلى مدينة غزة جنوبا وبحسب طريق حدده الجيش ووضع خلاله حواجز تفتيش أمنية مركزية في ثلاث مناطق، بجوار "نادي جباليا والإدارة المدنية بمخيم جباليا، والمستشفى الإندونيسي في بيت لاهيا".

 أ ب
آلية إسرائيلية قرب حدود قطاع غزة في 31 أكتوبر 2023

وفي 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حاصر الجيش مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا والمنازل ومراكز الإيواء المحيطة به، حيث طالبهم بالخروج من المنطقة تحت التهديد والترهيب. عويص وأسرته كانوا نازحين في منزل مجاور للمستشفى، يقول: "صار الجيش ينادي علينا عن طريق طائرات (كواد كابتر) وطالبنا بإخلاء المنطقة وهددنا بالقصف، بعدين الطيارات ألقت علينا مناشير مرسوم عليه خريطة طريق الإخلاء عن طريق حاجز الجيش بجوار المستشفى الإندونيسي، وطبعا الناس ما انصاعت للأوامر من أول لحظة".

وقد خرجت بعض العائلات، فيما بقي المئات الآخرون، ليلاحقهم الجيش طوال الأيام التالية ويقتل أي مظاهر للحياة، على سبيل المثال، كانت هناك نقطة لتعبئة المياه الصالحة للشرب والاستخدام الآدمي قريبة منهم، استهدفها الجيش أكثر من مرة وقتل عدد من المواطنين خلال تعبئتهم جالونات المياه لاستخدامها... "الناس كان بتم تجويعها وتعطيشها لإجبارهم على النزوح، يعني الهدف الأساسي هو إخلاء الشمال ومنعنا من العودة"، يقول عويص الذي أطر للخروج وأسرته في اليوم التالي.

كان يقطن في محافظة شمال قطاع غزة قبل الحرب الحالية، أكثر من 160 ألف غزي بحسب الإحصائيات الرسمية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني

خرجت العائلات مجتمعة أسرابا أسرابا بحسب ما وصف عويص، اتجهوا إلى الطريق الشرقي المؤدي إلى المستشفى الإندونيسي بحسب الخارطة، وهناك على الحاجز، فصل الجيش النساء والأطفال عن الشباب والرجال، حيث طلب منهم التوجه إلى مدرسة الكويت القريبة من المكان، وأمر النساء والأطفال السير باتجاه الشرق نحو شارع صلاح الدين الرئيس والذي يربط مدن القطاع بعضها ببعض ليكملوا طريقهم إلى غزة.

وبعد ساعتين أو أكثر قليلا من الانتظار، بدأ الجيش يطلب من الرجال والشباب الخروج باتجاه الحاجز كل 5 أشخاص مع بعضهم البعض، والحاجز عبارة عن منطقة مفتوحة ومكشوفة لجنود يعتلون أبراجا مقابلة للمكان للمراقبة والتحكم، حيث توجد كاميرات لمسح بصمة العين، وهناك إما أن يسمحوا لهم بالمرور أو يطلب من بعضهم التوجه نحو الجيش تمهيدا للاعتقال والتحقيق الميداني، الأولى... "في ناس بعد التحقيق الميداني بطلقوا سراحهم وفي ناس تانية بتم اعتقالهم ونقلهم للسجون ومراكز التعذيب، يوم أن طلعت تم اعتقال قرابة 500 واحد منا"، حسب وصف عويص.

كان الشاب من المحظوظين الذين لم ينادِ عليهم الجيش، بل طلب منهم إكمال الطريق نحو غزة، لكن كانت قد دخلت ساعات المساء، وهبط الليل "مشينا من عندهم لحد محطة حمودة وبعدين لشارع صلاح الدين، كله مشيناه على العتمة، بالليل، بقينا واحنا ماشين الدبابات بتروح وبتيجي من اليمن والشمال وبتعفر علينا رمل وغبار وصرنا نمشي على العتمة ومش شايفين الطريق كانت كلها ركام وجور ورمل". وكان الطريق يتجاوز 6 كيلومترات، ويجب عليهم السير وعدم التوقف بحسب تعليمات الجيش، حيث وصل شمال شرقي غزة بعد الساعة الـتاسعة ليلا برفقة زوج شقيقته وآخرين، بينما كان والده وأشقاؤه قد سبقوه وأمه وشقيقاته سبقوهم خلال ساعات النهار.

أ ف ب
فلسطينيون يقفون أمام منازلهم المدمرة بعد عملية عسكرية إسرائيلية شرق دير البلح، في وسط قطاع غزة، 29 أغسطس 2024

ويضيف: "إللي بروح وبمشي عن الحاجز ما بعرف إيش مصير إللي بعده من باقي أفراد العائلة، خلص بضل عايش على أعصابه وفي حالة انتظار، والله يعين إلي بضلهم يستنوا بالساعات والأيام بدون ما يوصلهم أي خبر أكيد عن آبائهم وأبنائهم، لا عارفينهم معتقلين ولا مقتولين".

وكان يقطن في محافظة شمال قطاع غزة قبل الحرب الحالية، أكثر من 160 ألف غزي بحسب الإحصائيات الرسمية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، حيث تم تهجير ما بين 20 إلى 30 ألفا منهم منذ بداية الحرب إلى وسط وجنوب القطاع، فيما هُجر أكثر من 60 ألفا في عملية النزوح الأخير بحسب تقديرات ميدانية، فيما لا يزال أقل من 70 ألفا مهددين بالتهجير بسبب الحصار والقتل والتجويع الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي بحقهم.

وأما عن تهجير النساء والأطفال، والتي وصفتها الشابة خديجة حميد، في العشرينات من عمرها، وهي من سكان مخيم جباليا، بـ"رحلة الموت" حيث اضطرت وعائلتها إلى النزوح من بيت لاهيا التي لجأوا لها بعد أكثر من أسبوعين من الحصار والقصف الإسرائيلي، وفي محاولة منهم للصمود رغم عمليات القصف التي طالت منازل مجاورة لمنزل النزوح، لتُجبر وعائلاتها على النزوح في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، من خلال الطريق نفسه الذي سلكه عويص وآلاف آخرون إلى مدينة غزة.

تقول: "كمية قهر بقلبي على قد ما عشنا ذل وقهر في رحلة الموت، أغلب الناس رمت أغراضها من أكل وأواعي- ملابس- مش قادرين يحملوها لأن الطريق كانت صعبة جدا، طول الطريق الأطفال والنساء بتعيط بعد ما أجبرونا نمشي لحالنا وأخدوا الشباب والرجال، الكل كان خايف من الدبابات الموجودة على طول الطريق وإللي كانت بتتعمد ترمي قنابل صوت لتخويفنا بشكل أكبر".

وكانت حميد تسير في الطريق، وسط صرخات الأطفال والنساء متمنية أن يحدث أمر يغير مسار طريقهم حيث كانت لا ترغب في السير إلا في طريق عودتها إلى مخيم جباليا، شاهدت أطفالا فقدوا أسرهم، وآخرين ضلوا أيدي أمهاتهم وأشقائهم، أطفالا حُفاة في طريق رملي معبد بركام المنازل المُدمرة، ودبابات إسرائيلية تتعمد السير في جانبي الطريق لافتعال الغبار والأتربة عليهم أثناء السير، وفي الوقت الذي يعانون فيه من الجوع والعطش، اضطر الغالبية من النازحات وأطفالهن لرمي أمتعتهن وطعامهن لعدم قدرتهم على السير والمضي في حمله لساعات تحت الشمس الحارقة.

رحلت حميد وسبقها عويص وآلاف آخرون، فيما لا يزال هناك من هم صامدون تحت القصف والحصار والتجويع، لا يُعرف إن كانوا سيصمدون أم سيسيرون على "طريق الموت".

font change

مقالات ذات صلة