البرغماتية تنتصر في الانتخابات الأميركية

ما سرّ الشعبية الطاغية لترمب؟

البرغماتية تنتصر في الانتخابات الأميركية

لا أدري ما سر افتتان بعض المحللين السياسيين بالنبوءات. بعضهم يصرّ على أن يصدر حكما استباقيا في واقعة معينة بحيث يقول لنا: "لقد أخبرتكم من قبل" عندما تصدق نبوءته، مع أن عمل المحلل السياسي يُفترض أن يبدأ بعد الحدث لا قبله، إذ لا مزية في صدق أو كذب ما نتوقعه لأن الأحداث قد تنحرف في أي اتجاه. يكفي المحلل السياسي أن يعطينا تصورا جيدا عن جميع السيناريوهات المحتملة دون توريط نفسه في ترجيح ما سيحدث بالفعل قبل أن يحدث. وعندما تتطابق النبوءة مع ما يقع فعلا فهذه محض صدفة لا غير، لأن الأحداث كان يمكن أن تنحرف لأتفه سبب فيحدث خلاف ما حدث.

سامح الله السيدة ليلى عبداللطيف فقد ورطت عددا من المحللين السياسيين عندما اعتمدوا نبوءتها بأن القادم إلى البيت الأبيض في هذه السنة امرأة، فتهافت المتحدثون على التبشير بكامالا هاريس، رغم الشك الكبير في مؤهلاتها للمنصب، وكأنهم يستندون إلى دراسة علمية، رغم أنهم لم يعتمدوا على أحد غير ليلى. لا تثريب على السيدة عبد اللطيف فهذه هي مهنتها منذ آلاف السنين (العرافة) ولم تدّع هي امتلاك علم حقيقي. أقول مهنة ولا أقول علما لأن ما تمارسه لا يدخل تحت اسم العلم ولا حتى "Pseudoscience" (العلم التجريبي) يظهر بعد الحدث، ومنه ما كتب عن كون ترمب قد تقدم بخطة واضحة للإنقاذ، بينما بقي الانطباع بأن هاريس لن تكون سوى امتداد للوضع القائم.

ما سر هذه الشعبية الطاغية التي لم يكن ترمب يملكها من قبل؟ ولماذا انتصر هذا الانتصار الكاسح؟ في تصوري أن الذي انتصر هو فلسفة أميركا، فهي لم تزود العالم– فكريا– إلا بالفلسفة البرغماتية، فلسفة تشارلز بيرس، وجون ديوي، ووليام جيمس، لا حق ولا حقيقة إلا ما ينفع، ما يحدد قيمة الصدق (الصحة) هو فائدته العملية، أي إن النتائج العملية هي المعيار الوحيد، الصدق هو ما ينفع على أفضل وجه بحيث يقودنا إلى قصدنا، وهو ما يناسب كل جزء من أجزاء الحياة على أفضل وجه.

سيعود ترمب رسميا في 20 يناير إلى البيت الأبيض ويبدو أنه لم ينتظر بل بدأ في رسم معالم وملامح فترته الرئاسية الجديدة

لماذا اعتبر انتصار ترمب انتصارا للبرغماتية؟ لأنه لم يحدث أن وفر رئيس أميركي الوظائف لأبناء شعبه كما فعل، وكذا الأمر فيما يتعلق بخفض الضرائب. يبدو أن الناخب الأميركي قد أفاق من سحر الإعلام وعرف أن مصلحته الشخصية مع هذا الرئيس وليست مع نجوم السينما ونجوم القنوات والصحف. لكن إذا كان الأمر هكذا، لماذا خسر في الانتخابات الماضية أمام جو بايدن؟ وفي تصوري أن رفض ترمب للإغلاق في زمن فيروس كورونا جعله يبدو للشعب الأميركي وكأنه يدير البلاد كما يُدير شركة، بمعنى أن قراره لم يكن قرار "زعيم للأمة" يستشعر الخطر الداهم في تلك اللحظة. البرغماتية لا تعني توفير المال فقط. هذه كانت غلطته ويبدو أنه قد تعلم منها.
وسيعود ترمب رسميا في 20 يناير/كانون الثاني إلى البيت الأبيض ويبدو أنه لم ينتظر بل بدأ في رسم معالم وملامح فترته الرئاسية الجديدة ولا حاجة بنا إلى متابعة من يتوقعون أنه سيكون شخصا مختلفا في فترة ثانية مختلفة، ولا أن نتوقع منه أن يكون حليفا مطلقا. علينا أن ننشغل بما يقع فعلا من دون توقعات.

font change