المغرب وفرنسا... شراكة جديدة بعد زيارة ماكرون

المغزى وراء إلقاء ماكرون خطابا أمام البرلمان المغربي

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يلقي كلمة في البرلمان المغربي بالرباط، المغرب، 29 أكتوبر 2024

المغرب وفرنسا... شراكة جديدة بعد زيارة ماكرون

وصفت وسائل الإعلام الفرنسية زيارة الدولة التي قام بها إيمانويل ماكرون للرباط نهاية الشهر الماضي، بأنها أكبر حدث بين باريس ودول المغرب العربي على امتداد السنوات الأخيرة. فقد أنهت الزيارة التي تمت بحفاوة غير مسبوقة لرئيس أوروبي الخلاف مع الرباط، وتعززت العلاقات بدعم فرنسا للمغرب في ملف الصحراء، عبر اعتبار الحكم الذاتي الحل الوحيد لحل مشكل النزاع الإقليمي في شمال أفريقيا.

في المقابل أثارت الزيارة والموقف الرسمي لصالح المغرب حفيظة الجزائر، التي وجدت في الدعم الفرنسي لغريمها في الغرب إضعافا لنفوذها الإقليمي، وخسارة ثاني عضو دائم في مجلس الأمن الدولي بعد الولايات المتحدة، التي أعادت انتخاب دونالد ترمب الذي سبق له الاعتراف بـ"مغربية الصحراء" قبل أربع سنوات. رد الفعل الجزائري جاء قويا ومنفعلا، نجم عنه شبه قطيعة مع باريس بسحب السفير وتقليص التجارة والمبادلات والتعاون الثقافي، وتنظيم استعراض عسكري ضخم استعادت فيه كل خطابات معاداة فرنسا والمغرب واعتبرت تقاربهما "حلفا استعماريا جديدا".

في الجانب المغربي جاء خطاب الملك محمد السادس في الذكرى 49 للمسيرة الخضراء قويا وحاسما بالإشارة إلى أن "قضية الصحراء حُسمت بتزايد عدد الدول الكبرى الداعمة للموقف المغربي وسيادة المغرب على صحرائه في إطار الحكم الذاتي". واعتبر من يتاجر بالمحتجزين في مخيمات "تندوف" في ظروف مأساوية، إنما "يغطي على صعوبات داخلية، ويبتز سياسيا بالسعي للوصول إلى المحيط الأطلسي". وقال الملك: "إذا كانت الواجهة المتوسطية، تعد صلة وصل بين المغرب وأوروبا، فإن الواجهة الأطلسية هي بوابة المغرب نحو أفريقيا، ونافذة انفتاحه على الفضاء الأميركي".

ومن تابع خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون في البرلمان المغربي، يخرج بانطباع أن باريس في حاجة اقتصادية وبشرية إلى الرباط ربما أكثر من حاجة المغرب إلى فرنسا. صحيح أن المملكة تحتاج إلى دعم فرنسي (وأوروبي أيضا) لإنهاء نزاع شمال أفريقيا المتواصل والمستنزف (تنمويا) للمنطقة منذ نصف قرن، كونها المستعمر وتعرف تفاصيل الأشياء محليا.

يحتاج الاقتصاد الفرنسي إلى بوابة المغرب للعبور إلى المحيط الأطلسي ومشروع أفريقيا الأطلسية الذي أطلقته الرباط قبل ثلاث سنوات، يضم 23 دولة أفريقية وتُضاف إليه دول الساحل الحبيسة جنوب الصحراء

في المقابل يحتاج الاقتصاد الفرنسي إلى بوابة المغرب للعبور إلى المحيط الأطلسي ومشروع أفريقيا الأطلسية الذي أطلقته الرباط قبل ثلاث سنوات، يضم 23 دولة أفريقية وتُضاف إليه دول الساحل الحبيسة جنوب الصحراء، التي اقترح المغرب منحها ممرا إلى البحر. هذا المشروع حظي بدعم الولايات المتحدة والبرازيل في الضفة المقابلة للمحيط الأطلسي. وترغب باريس في أن تكون حاضرة في هذا التجمع (الإقليمي) الجديد لما يتيحه من منافع اقتصادية وجيوسياسية هائلة. وستراهن فرنسا على استثماراتها في الصحراء المغربية للوصول إلى الأسواق الأفريقية عبر ميناء الداخلة في أقصى جنوب المغرب.

عهد جديد

استعادت العلاقات السياسية والدبلوماسية الفرنسية-المغربية ومعها الشركات والمقاولات والاستثمارات، زخمها وقوتها ومواقعها التي كانت قد تضررت خلال فترة الجفاء التي امتدت ثلاث سنوات، وكادت باريس أثناءها أن تفقد مكانتها التاريخية المتميزة داخل المملكة لحساب شركاء اقتصاديين جدد، يبحثون عن مواقع أقدام على مشارف السوق الأوروبية، لتصدير سلع قد تستفيد من اتفاقية الشراكة التجارية بين الرباط وبروكسل.

واعتبر البلدان أن زيارة الدولة التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون إلى المغرب، والحفاوة التي خصه بها الملك محمد السادس والشعب المغربي على مدى ثلاثة أيام في الرباط وشوارعها، "أعادت القوة والدفء إلى صداقة يمتد عمرها قرونا إلى الوراء، وتحتاجها أفريقيا والشرق الأوسط في هذه الظرفية، للتغلب على تحديات وصراعات متعددة الأبعاد والتأثيرات والأضرار".

 

أ.ف.ب
الرئيس الفرنسي وملك الغرب وعائلتهما في صورة خلال عشاء في القصر الملكي بالرباط، في 29 أكتوبر 2024

وقد حرص الرئيس ماكرون الذي زار المغرب بعد غياب 6 سنوات، على اصطحاب 122 شخصية من عالم المال والأعمال والسياسة والثقافة والفن والسينما لتأكيد التصالح مع النخب المغربية، التي كانت ممتعضة من مواقف فرنسا حول أكثر من قضية محلية وإقليمية ودولية. كما حرص على إلقاء خطاب في البرلمان المغربي، قال فيه: "إن باريس تعتبر الرباط أقرب عاصمة من خارج أوروبا"، مستحضرا تاريخ الأندلس، والحروب الأوروبية الأولى والثانية، وإعادة بناء ما دمرته حرب الإخوة الأعداء بالاعتماد على سواعد مغربية. وجدد ماكرون الجملة التي صفق لها النواب طويلا، وقال: "إن حاضر ومستقبل الصحراء سيكون تحت السيادة الوطنية للمملكة المغربية، وإن فرنسا ستعمل داخل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي على دعم مخطط الحكم الذاتي الذي اقترحته الرباط حلا وحيدا لإنهاء النزاع".

ولتأكيد الوفاء بالالتزام الرئاسي سارع قصر الإليزيه ووزارة الخارجية الفرنسية إلي نشر خريطة المغرب كاملة متضمنة الصحراء المغربية، وهي ثاني دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي تضع في مواقعها الرسمية هذه الخريطة غير منقوصة، بعد الولايات المتحدة الأميركية، التي بررت قرارها عام 2020 بكون المغرب أول دولة اعترفت باستقلال أميركا عام 1778. وقال ماكرون: "إن العلاقات بين باريس وفاس تعود إلى القرن الرابع عشر في عهد الملك فرانسوا الأول، وهي الأقدم مع دولة من خارج أوروبا، وكانت للمغرب سفارة في عهد الملك لويس الرابع عشر".

تعاون استراتيجي حتى 2050

قررت الرباط وباريس إرساء علاقات استثنائية موطدة في المجالات كافة، وإبرام اتفاقية تعاون استراتيجي وتكامل استثنائي يمتد إلى عام 2050 ويُعوض اتفاقية "لاسيل سان كلو" في ضواحي باريس عام 1955. وهذا النوع من الاتفاقيات عادة ما يكون بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بما سيسمح للرباط بتقوية حضورها الأوروبي وتفرض شروطها في التجارة والاقتصاد والاستثمار.

وحسب البيان الرسمي المشترك"قرر الملك محمد السادس والرئيس إيمانويل ماكرون تدشين مرحلة جديدة من التاريخ الطويل المشترك بين فرنسا والمغرب من خلال الارتقاء بالعلاقة بين البلدين إلى مستوى شراكة استثنائية وطيدة". ويشمل التعاون قطاعات استراتيجية مثل الأمن والدفاع، والأمن السيبراني والغذائي والصحي، والانتقال الطاقي والطاقات المتجددة، وتدبير الموارد المائية والزراعة، والبنيات التحتية والسككية والبحرية والتنقل الحضري، والذكاء الاصطناعي والرقمي والتكنولوجيا، والنانوتكنولوجيا، والاتصالات وعلوم البيانات والابتكار، والتعاون في مجالات البحث العلمي والأكاديمي، والصناعات والنظم الإنتاجية، والتظاهرات الرياضية ومنها كأس العالم 2030 وغيرها.

حسب البيان الرسمي المشترك،"قرر الملك محمد السادس والرئيس إيمانويل ماكرون تدشين مرحلة جديدة من التاريخ الطويل المشترك بين فرنسا والمغرب من خلال الارتقاء بالعلاقة بين البلدين إلى مستوى شراكة استثنائية وطيدة"

وقع المغرب وفرنسا 22 اتفاقية بقيمة 10 مليارات يورو، حسب ما صرحت بها مصادر من الحكومتين المغربية والفرنسية لـ"المجلة"، وهي أكبر صفقة بين البلدين في القرن الحادي والعشرين، وتقوم على شراكة استثمارية ومساعدات تمويلية وتعاون تقني وتكامل اقتصادي، في مجالات تكتسي تحديات كبرى للبلدين: مثل إنتاج الهيدروجين الأخضر الذي تحتاجه فرنسا لمواجهة كلفة أسعار الطاقة والتنافسية الإنتاجية، فضلا عن حاجة المغرب إلى تدبير الموارد المائية المتضررة من التغيرات المناخية عبر تحلية مياه البحر، والاعتماد على الطاقة النووية الفرنسية في تشغيل بعض المحطات.

وكانت ألمانيا قد سبقت فرنسا في إبرام اتفاق تعاون لإنتاج الهيدروجين الأخضر مع المغرب، الذي يسعى إلى إنتاج 4 في المئة من الحاجيات العالمية بحلول عام 2030.

وتعاقد المغرب مع شركة "تاليس الينيا سبايس" الفرنسية على تزويده بقمر اصطناعي للاتصالات قبل عام 2028 لزيادة سرعة الإنترنت والاتصالات داخل المغرب ومجموع منطقة غرب القارة الأفريقية، استعدادا لتنظيم كأس العالم 2030. وبلغت قيمة الصفقة 200 مليون يورو وهو من الجيل الجديد للأقمار الاصطناعية، التي تغطي جنوب أوروبا وشمال أفريقيا.

كما فازت شركات فرنسية بجزء من مشاريع البنى التحية السككية في المغرب، وتزويد المكتب الوطني للسكة الحديد بالقطارات فائقة السرعة التي سيتم استخدامها على الشبكة الجديدة بين القنيطرة ومراكش على مسافة تقارب 400كم، وهو المشروع الذي تشارك فيه أيضا شركات إسبانية وصينية وتنافس عليه كذلك شركات يابانية وكورية جنوبية ويمتد المشروع على مدى السنوات القادمة بمد سكة القطار فائق السرعة (350كم/ساعة) نحو أغادير عبر جبال الأطلس الوعرة. وتم الاتفاق على أن تقوم شركة "الستوم" بتصنيع القطارات فائقة السرعة في مدينة فاس لتلبية الحاجيات المحلية والتصدير في وقت لاحق.

ورغم تقاربها الجديد مع باريس تحرص الرباط على تطوير شراكاتها الثنائية مع الولايات المتحدة والصين ودول الخليج وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا وروسيا واليابان وكوريا وتركيا ودول أخرى حول العالم. وقال الرئيس ماكرون أمام رجال الأعمال في الجامعة الدولية في الرباط: "إننا نأسف لخروج مجموعات مالية أوروبية كبرى من السوق الأفريقية بسبب قواعد الاحتراز وأنظمة الرقابة الأوروبية المتشددة، لقد كانت خطأ استراتيجيا لأننا وضعنا تعقيدات أمام مؤسساتنا".

font change

مقالات ذات صلة