رافقت المراحل التاريخية على امتدادها حداثتان: الاجتماعية بأشكالها، والتكنولوجية بابتكاراتها. وقدّمت هذه العلاقة المتوازية بينهما تطورا هائلا للبشرية فازدهرت وتوفر لها ما تحتاج إليه من رفاهية، واختراعات ووسائل. وقد تسارعت في اكتشافاتها إلى درجة نجح فيها الإنسان في اختراعاته وتكنولوجياته، فبات عندنا مثلا مصعد يوفر علينا عبء الصعود والهبوط، وسيارات تسهّل الانتقال من مكان إلى مكان، وطائرة تنقلنا إلى أبعد المسافات في الجوّ، وحاسوب يفكّ عنا حلّ العمليات الحسابية... كل هذه التقنيات وسواها خدمتنا، ومن طلائعها الآلة الكاتبة، واختراع المطبعة (الكتاب، والجريدة والمجلة إلخ) فغيّرت وجه التاريخ وسهّلت وصول اللغة ومشتقاتها إلى أبعد الحدود.
إذن، لطالما كان الإنسان يخترع التكنولوجيا والتقنيات لخدمته ودأب باستمرار على تطويرها: آلة تحلّ محلّ آلة، أو سيّارة تحلّ محلّ عربات الخيل والجِمال وحتى الحمير... إلى ان وصلنا إلى إحلال الهواتف المحمولة التي تختصر أدوارا عديدة، من بينها الكتابة، والقاموس، والمعلومات...
لكن منذ مدة، كأنما حصل انقلاب غريب خطير انفجر من آلة تحلّ محلّ آلة إلى آلة تحلّ محل الإنسان، وتستغني عنه، وتنتزع أدواره وحتى وجوده، ومن هنا بالذات تخلخلت العلاقة التاريخية بين الحداثتين: الاجتماعية والتكنولوجية. فبفضل الذكاء الاصطناعي، تمَّ عمليا سحب وظائف الإنسان بأشكالها العديدة منه، إلى الروبوت (الآلي)، فبات هو جرّاحا في الطب، ونادلا في المقاهي والمطاعم وشاعرا وروائيا وممثلا، وربما غدا مخرجا... والخشية أن تكون هذه "المعجزة" التي ابتكرها الإنسان، بداية خروجه من دوره التاريخي، أي نسف المعادلة التي ظلت قائمة على مرّ الحقب بينه وبين الآلة.
نسف المعادلة
لكن لم يكتفِ الذكاء الصناعي بأنسنة الأشياء بل نسف هذه المعادلة بينه وبين "خالقه"، وتسلّل إلى الجوهر الإنساني، إلى عمق تميزه، باللغة والكتابة، اللتين كانتا مجانيتين فباتتا مسلعتين، أو بضاعة للتجارة. هذا المشروع الذي قد بدأ تنفيذه، ولا نعرف مدى رواجه، بدأ بتجارب متواطئة، يمكن تقسيمها مراحل عدة: الأولى: نطلب من الذكاء الصناعي "المبرمج" أن يكتب لنا إيجاد كلمة صحيحة ومناسبة لإكمال جملة، ثم اتسع دوره بتوفير كلمات صحيحة ومناسبة، ثم بُرمج لإنهاء مقطع، وأخيرا للحصول على التعبير الصحيح في كل موضوع، وبفضل دينامية "الذكاء المصنوع"، بات قادرا على إجابة بعض الكلمات المختارة في تتابع صحيح، وصولا إلى سرد قصصي مثل: "الولد يلعب بالكرة"، أو "رجل يتسلق شجرة"، وبفضل تطور برمجته وصل إلى الكتابة وفق نسق تتتابع فيه الجمل تتابعا منطقيا: أي صار كاتبا... ومستعدا لصوغ كل المشاريع، والوظائف المطلوبة، التي تقوم بها الكتابة من فلسفة وأدب وعلوم واقتصاد.