أين قصرت السلطات النقدية والقضائية فأُدرج لبنان على "اللائحة الرمادية"؟

كان الأجدى بـ"مجموعة العمل المالي" إلزام النافذين من السياسيين وأعوانهم الكشف عن تهريب أموالهم إلى الخارج

Shutterstock
Shutterstock
البنك المركزي اللبناني في بيروت، 9 يوليو 2023

أين قصرت السلطات النقدية والقضائية فأُدرج لبنان على "اللائحة الرمادية"؟

أشار تقرير مجموعة العمل المالي (FATF) عن لبنان بتاريخ ديسمبر/كانون الأول 2023، إلى امتثال لبنان لأربع وثلاثين توصية من توصياتها الأربعين الرسمية، وإلى ضرورة سعيه لاستكمال "امتثاله الجزئي" للتوصيات الست المتبقية.

وتتضمن هذه التوصيات ضرورة تغطية قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومتطلبات تجريم غسل الأموال على أساس اتفاقيتي فيينا وباليرمو، وتعديل عقوبة الجريمة الأخيرة بجعلها أكثر ردعا، وأيضا ضرورة معالجة القصور في التحقق من فئات محددة من العملاء، كأصحاب الحقوق الاقتصادية في العمليات الائتمانية وعدد من المهنيين والوظائف، وكذلك القصور في إجراءات الضبط والمصادرة وإدارة الممتلكات المجمدة في الجرائم، كما تسليم المجرمين.

في اجتماعها الأخير في 25 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، كشفت المجموعة عن اتخاذها قرارا بإدراج لبنان على "اللائحة الرمادية" لاخضاع عملياته المالية إلى رقابات إضافية، معللة قرارها بقصور لبنان في عشرة مجالات تتوزع على أربعة أصعدة يقتضي تعزيزها: قضائيا، بتنفيذ طلبات المساعدات القضائية سريعا، ومهنيا، بتعزيز فهم أخطار غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتنظيميا، بتعزيز العقوبات على المؤسسات المالية المخالفة، وإجرائيا، بتعزيز استخدام السلطات المختصة لمنتجات وحدة الاستخبارات المالية.

كان الأجدى بالمجموعة التشديد على السلطات اللبنانية الأخذ باقتراح صندوق النقد الدولي الوارد في تقرير صادر عنه في عام 2018، بضرورة اعتماد لبنان أحكاما تلزم المسؤولين الكبار في القطاع العام الإفصاح علنا عن ذممهم المالية وتعديلاتها

نوهت مجموعة العمل المالي (FATF) بإصدار مصرف لبنان تعميما للمصارف والمؤسسات المالية يطالبها بإنشاء إدارة مخصصة لمكافحة الجرائم المتعلقة بالرشوة والفساد، علما أن آخر مشروع للحكومة اللبنانية في خصوص إعادة هيكلة الودائع وإصلاح القطاع المصرفي، قسم الودائع بين مشروعة وغير مشروعة، مع تقدير لحجم الأخيرة بنحو أربعين مليار دولار، أي نصف مجموع الودائع، مما يعني إخفاق التعميم في ضبط تسرب هذه الودائع إلى المصارف وتحقيق المرتجى منه بمكافحة الفساد.

تنويه ناقص بعد سرقة الودائع

وكان الأجدى بالمجموعة التشديد على السلطات اللبنانية الأخذ باقتراح صندوق النقد الدولي الوارد في تقرير صادر عنه في عام 2018، بضرورة اعتماد لبنان أحكاما تلزم المسؤولين الكبار في القطاع العام الإفصاح علنا عن ذممهم المالية وتعديلاتها، بعد أن يدقق فيها طبعا مرجع مختص، كما هي الحال في الدول المتقدمة، ومنها فرنسا، حيث يمكن للمواطن الفرنسي والأجنبي على حد سواء الاطلاع على تفاصيل الذمم المالية للمسؤولين الفرنسيين على شبكة الانترنت.

صراف آلي تابع لـ"موسسة القرض الحسن" التابعة لـ "حزب الله"

كذلك، نوهت المجموعة بالاجراءات التي اتخذها مصرف لبنان ضد النشاطات المالية غير المرخص لها، ومنها إعطاؤه مهلة لهذه النشاطات لتسوية أوضاعها. لكن الذي حصل أن المهلة انتهت بالنسبة الى إحداها، وهي الأهم من بينها، أي "مؤسسة القرض الحسن" المدرجة على لائحة عقوبات وزارة الخزانة الأميركية، لاستخدامها كغطاء لإدارة الأنشطة المالية لـ"حزب الله" ووصوله إلى النظام المالي الدولي دون قيامها بالتسوية المطلوبة. واستمرت المؤسسة في ممارسة عمليات الإقراض من دون أي علم وخبر أو ترخيص ورقابة من مصرف لبنان، كما ينص عليه القانون.

استمرت المؤسسة أيضا في تقديم الخدمات المالية لـ"حزب الله"، وآخرها حملة لجمع التبرعات عبر الانترنت لشراء أسلحة وطائرات مسيرة، من خلال تحويلات تمر عبر مؤسسات تحويل مالية لحساب المنظمة تدفع لدى مؤسسة "القرض الحسن"

تحويلات أموال النافذين إلى الخارج

كذلك استمرت المؤسسة أيضا في تقديم الخدمات المالية لـ"حزب الله"، آخرها ما كشفه الإعلام عن إطلاق الحزب أخيرا، من خلال "منظمة دعم المقاومة الاسلامية"، حملة لجمع التبرعات عبر الانترنت لشراء أسلحة وطائرات مسيرة، من خلال تحويلات تمر عبر مؤسسات تحويل مالية لحساب المنظمة تدفع لدى "مؤسسة القرض الحسن". 

واللافت عدم تعرض تقرير المجموعة أو قرارها إلى تحويلات النافذين من السياسيين والمسؤولين الكبار لأموالهم إلى الخارج بعد إعلان جمعية مصارف لبنان ثم مصرف لبنان تقييد السحوبات والتحويلات المصرفية على العموم. وهذه التحويلات، التي يقدر أنها تفوق العشرة مليارات دولار، تعتبر بالمعايير القانونية، نوعا من غسيل الأموال، وكان الأجدر بمصرف لبنان والمصارف الأجنبية التي تلقتها، وكذلك مجموعة العمل المالي، أن لا تبقى صامتة إزاءها، وأن تعلن موقفا حازما في شأنها.  

عين خاصة على "حزب الله" 

جدير بالذكر أن تقرير مجموعة العمل المالي لا يعتبر "حزب الله" منظمة إرهابية، بل يشير إليه "كمنظمة شبه عسكرية محلية"، لكن "لها سجل موثق في ارتكاب أعمال إرهابية". وكان أول تقييم وطني لأخطار غسل الأموال وتمويل الإرهاب صدر في عام 2011، وسجلت بعده 123 إدانة بتمويل الإرهاب خلال الفترة بين 2017 و2021، وهو ما يتناسب إلى حد ما، في نظر المجموعة، مع أخطار تمويل الإرهاب في لبنان، لكن من دون الأخذ  في الحسبان  أنشطة الحزب.   

لا يزال هناك ضرورة ملحة لإجراء تقييم خاص وحصري بـ"حزب الله"، ولو تحت مسمى "منظمة شبه عسكرية محلية"، تعدله دوريا المرجعية المعنية، أي مصرف لبنان، بمعاونة هيئة التحقيق الخاصة ولجنة الرقابة على المصارف

لذا كان ولا يزال هناك ضرورة ملحة لإجراء تقييم خاص وحصري بـ"حزب الله"، ولو تحت مسمى "منظمة شبه عسكرية محلية"، تعدله دوريا المرجعية المعنية، أي مصرف لبنان، بمعاونة هيئة التحقيق الخاصة ولجنة الرقابة على المصارف، عن أخطار تبييض الأموال الملوثة، وتلويث الأموال النظيفة في تمويل الإرهاب ذات الصلة.

فهذا التقييم، المطلوب بمقتضى الواجب القانوني الملقى على عاتق مصرف لبنان لاطلاع الحكومة ومن خلالها الرأي العام على كل ما هو ضار بالاقتصاد والنقد، لو أُعد سابقا واطلع عليه المعنيون من مسؤولين سياسيين ومصرفيين وإداريين، خصوصا القضاة والأمنيين وغيرهم من المهنيين، لكان أثر إيجابا بلا ريب في سياساتهم وخياراتهم وقراراتهم وجنّبها المساءلة وجنّب البلاد المنحى الذي اتخذه اقتصادها ليتحول إلى اقتصاد نقدي غير رسمي دفع إلى إدراج لبنان على "اللائحة الرمادية". لكن المثير في الأمر أن القيمين على الأمور في مصرف لبنان، مصرون على أنهم قاموا بما هو متوجب عليهم وأن الأمر الآن في ملعب السلطتين التشريعية والتنفيذية.  

font change

مقالات ذات صلة