"استديوهات يونيفرسال"... نزهة في عوالم الخيال السينمائي

تجربة تفاعلية في الهواء الطلق

Shutterstock
Shutterstock
"استوديوهات يونيفرسال أورلاندو"، الكرة الأرضية ومدخل الاستوديوهات عند غروب الشمس.

"استديوهات يونيفرسال"... نزهة في عوالم الخيال السينمائي

إنها عجائب المخيلة السينمائية وقد تجسّدت على أرض الواقع، هذا أقلّ ما يمكن أن يُقال في وصف مدينة الملاهي السينمائية، "استديوهات يونيفرسال"، التي شُيدت على هضبة تُشرف على أحياء واسعة وتلال معمورة وأراض خالية في مدينة لوس أنجليس الأميركية في ولاية كاليفورنيا، حيث ترتفع كلمة هوليوود معلقة على الجبل في السماء كأنها عنوان على غلاف مدينة مشهورة بقصصها ورواياتها السينمائية تطل على المحيط الهادئ أسسها الحاكم الإسباني فيليبي دي نيبي Felipe de Neve في الرابع من سبتمبر/أيلول 1781، وأُطلق عليها في البداية اسم "بلدة سيدتنا ملكة أنجليس".

على مدخل متنزهات "استديوهات يونيفرسال" تنتصب أكشاك يجلس فيها رجال ونساء لقطع التذاكر تحت أشجار نخيل سامقة، تنتشر تقريبا في أنحاء المدينة كافة. وما إن تسير بضعة أمتار، بعد صعود درج متوسط الارتفاع، والدخول من الباب الرئيس إلى ساحة واسعة، حتى تنبسط أمامك مشاهد واقعية كانت في البداية مشاهد سينمائية. ولكن قبل أن نخوض في هذا، لنلقِ الضوء على العقل المدبّر لهذا كله، كارل لاميل الذي ارتبط اسمه بهذه العجائب الأرضية.

كارل لاميل المؤسس

يُعدّ كارل لاميل، مؤسس "استوديوهات يونيفرسال" للإنتاج السينمائي، من الأسماء اللامعة في تاريخ السينما الأميركية. تمتع بذكاء عال، وقدرة استثنائية على التجديد، واكتشف ممثلين موهوبين، تعاقد معهم وقدّمهم من طريق تخصيص أدوار لهم في الأفلام.

لم يقتصر الأمر على الممثلين بل شمل أيضا المخرجين. علاوة على ذلك، امتلك لاميل رؤية تجارية مكّنتْهُ من تحويل صناعة السينما من عملية مشاهدة تتم في الصالات المغلقة أمام الشاشة إلى تجربة تفاعلية معرفية في الهواء الطلق حيث يستطيع الزائر أن يتجوّل في خلفيات لم تكن رؤيتها متاحة من قبل إلا للعاملين بها.

امتلك لاميل رؤية تجارية مكّنتْهُ من تحويل صناعة السينما من عملية مشاهدة تتم في الصالات المغلقة أمام الشاشة إلى تجربة تفاعلية معرفية في الهواء الطلق

ولد كارل لاميل في السابع عشر من يناير/كانون الثاني 1876 في ألمانيا وهاجر لاحقا إلى الولايات المتحدة حيث عمل في صناعة الألبسة، غير أنه لم يمكث في هذه المهنة طويلا فهجرها وانتقل إلى الإنتاج السينمائي، وأسّس "شركة لاميل للاستديوهات" التي تغيّر اسمها في ما بعد إلى "استوديوهات يونيفرسال". وأنتج لاميل أفلاما مهمة على الصعيد الإبداعي اعتمدت تقنيات جديدة، وحوّل "استوديوهات يونيفرسال" إلى أكبر شركات الإنتاج السينمائي في هوليوود، وأطلق مسيرة ممثلين أفذاذ مثل بيلا لوغوسي، الممثل الهنغاري الشهير، الذي اشتهر بدوره في فيلم "دراكولا" الشهير، وبوريس كالروج، الممثل الإنكليزي الذي اشتهر بدوره في فيلم "فرانكنشتاين"، وبرع في أدوار الرعب الكلاسيكية. ومن المخرجين الذين وظّفهم لاميل هناك، جيمس ويل الإنكليزي الذي أخرج عددا من الأفلام الناجحة، أهمها الفيلم الموسوم "فرانكنشتاين". تجاوز عمل كارل لاميل صناعة الأفلام وتقديم الممثلين والمخرجين الجدد وتوظيفهم ودعمهم إلى الصناعة الترفيهية التي جمعت بين السينما والتجربة التفاعلية في أجواء صناعتها، وابتكر ما يمكن أن يُطلق عليه عليه اسم "مدينة الملاهي السينمائية"، التي شُيدت في قلب مدينة لوس أنجليس، وصارت تستقطب يوميا أعدادا كبيرة من الزوار الذي يأتون خصيصا لزيارتها من الولايات الأميركية المختلفة ومن مختلف دول العالم.

Shutterstock
زوار يسيرون في منطقة نيويورك في "استوديوهات يونيفرسال".

أبدع كارل لاميل طريقة فريدة لترويج أفلام "يونيفرسال بيكتشرز"، ولإثارة المزيد من الاهتمام لدى الجماهير، وبعدما حوّل حلمه إلى واقع، استطاع أن يعرض للجمهور كيفية صناعة الفيلم، وابتكر رابطا بينه وبين هذه العملية. وشكل هذا تحولا مهما لزيادة الدخل من طريق تعزيز السياحة، مما جعل مدينة الملاهي السينمائية أداة فعّالة للتسويق. قدّم الأمر فرصة ذهبية لشركة "يونيفرسال بيكتشرز" لتعزيز صورتها على المساحة العالمية. وقد سبقت هذه التجربة زمنها ووضعت حجر الأساس للمتنزهات السينمائية الترفيهية.

تجربة ترفيهية وتعليمية

تتألف مدينة الملاهي السينمائية من أجزاء رئيسة عدة تقدم تجربة ترفيهية وتعليمية للزوار، من طريق تنظيم جولات في الاستديوهات ومشاهدة كيف تتم عمليات تصوير الأفلام خلف الكواليس، والاطلاع على أزياء سينمائية خاصة حيث يستطيع الزوار مشاهدة الدمى والملابس الخاصة بالأفلام. وفي المدة الزمنية التي أعقبت افتتاح متنزه مدينة يونيفرسال، خُصصت أقسام لعرض أفلام ومسلسلات معينة، ولعرض أفلام كلاسيكية من الأرشيف. وفي السنوات الأخيرة قدمت تجارب ترفيهية مستوحاة من فيلمي "العودة إلى المستقبل" و"العالم الجوراسي".

Shutterstock
"استوديوهات يونيفرسال"، شارع المطاعم مع مجسم كينغ كونغ معلقًا على الحائط.

تشكل زيارة المكان تجربة ممتعة ومسلية جدا، فما أن تعبر عتبة العالم الواقعي هاربا من جو الحرارة الشديدة والخانقة في لوس أنجليس وتدخل إلى مدينة الملاهي السينمائية حتى تشعر أنك في عالم صار فيه السحر السينمائي ملموسا وحيا. وسواء كنت زائرا عاديا، أم محبا للسينما ومهتما بها، سترى داخل هذا المتنزه مزيجا ساحرا من الإثارة والنوستالجيا والمغامرة.

سواء كنت زائرا عاديا، أم محبا للسينما ومهتما بها، سترى داخل هذا المتنزه مزيجا ساحرا من الإثارة والنوستالجيا والمغامرة

حين تتجول قليلا يقع بصرك في شباك السحر فتنسى الحرارة ودبقها وتسري فيك برودة الدهشة والاكتشاف والترقّب. وفيما تواصل سيرك ترتفع أمام عينيك أبراج العالم السحري لأفلام "هاري بوتر"، وخاصة قلعة "هوغورتس"، التي تعيد إنشاء المعالم الرئيسة لمدرسة السحر حيث يمكنك أن تتأمل تفاصيل معمارية وديكورات تحاكي مشاهد من العمل. أما قرية "هوغسميد" فهي إعادة بناء للقرية السحرية حيث يمكنك زيارة المحل الشهير الخاص بالتسوق، الذي يدعى "مستحضرات ساحر ويلي"، وتشتري بعض الهدايا التذكارية.

أما التجربة الأمتع فهي تناول الطعام في المطعم المظلم، أو ما يُسمى "المقهى السحري"، حيث يمكنك أن تحتسي مشروبات أُعدت من أجواء "هاري بوتر". وإذا ما ركبت القطار الذي يقودك في العوالم السحرية المظلمة لسلسلة "هاري بوتر"، فإنك ستعيش تجربة مثيرة لا تُنسى تحمل اسم "هاري بوتر والرحلة الممنوعة". وهي رحلة تجمع ما بين التكنولوجيا المتطورة والسرد القصصي المثير تأخذك إلى جو سينمائي مدهش في عالم "هوغورتس"، فتشعر أنك تحلق في غابات مسحورة تنقض عليك فيها وحوش مفترسة، وسط عالم غارق في السحر من رأسه حتى أخمص قدميه.

Shutterstock
تنين ينفث النار على سطح بنك "غرينغوتس" في عالم هاري بوتر.

في قسم الحديقة الجوراسية، يمكن الزوار القيام بمجموعة متنوعة من الأنشطة والتجارب المستوحاة من أفلام "الحديقة الجوراسية"  الشهيرة. ويتضمّن هذا القسم مناطق عدة وتجارب مثيرة، تشمل مغامرة الركوب في نهر "جوراسيك بارك"، وهذه أبرز الأنشطة في القسم، وهي رحلة مائية تأخذ الزوار في جولة عبر بيئة مليئة بالديناصورات المتحركة. تتضمن الرحلة مشاهد مثيرة ومواجهة مع الديناصورات العملاقة، وتنتهي بهبوط مفاجئ ومائي يعرضك لتجربة البلل الحقيقية، وبسبب الحرارة الشديدة في الخارج لن تستغرق وقتا طويلا كي تجف. وهناك تجربة مثيرة أخرى يتفاعل فيها الزوار مع "رابتور" متحرك، يتم التحكم به بشكل متقدم ليوحي بالحيوية والواقعية. ويمكن للزوار التقاط الصور والتفاعل مع الديناصور كأنهم داخل عالم "الحديقة الجوراسية". وإذا كنت من محبي المقاهي، فهناك المقهى الجوراسي حيث يمكنك تناول مشروبات ووجبات مستوحاة من موضوع الحديقة الجوراسية.

ينطلق الزوار في جولة خلف الكواليس لاستكشاف مواقع تصوير الأفلام الشهيرة، ويتعرفون الى كيفية صنع الأفلام

كواليس الأفلام

يحتاج الزائر إلى أكثر من يوم كي يعطي مدينة الملاهي السينمائية حقها من المشاهدة، فهي تضم أقساما أخرى كمثل الاستديوهات السينمائية التي تُعد الجولة فيها تجربة في التنوير السينمائي. إذ ينطلق الزوار في جولة خلف الكواليس لاستكشاف مواقع تصوير الأفلام الشهيرة، ويتعرفون الى كيفية صنع الأفلام. ويمكن للزوار رؤية سيارات استُخدمت في الأفلام، والتعرف الى بعض الحيل السينمائية التي وُظفت في الصناعة. ويشاهد الزوار في هذه الجولة خلفيات أفلام ذاع صيتها، ويتعرفون الى تفاصيل تتعلق بسلسلة "سريع وغاضب"، وهي سلسلة "أكشن" شارك في إخراجها كلّ من روب كوهين وجون سينغلتون وجستين لين، ومن فيلم "سايكو"، الذي أنتجه وأخرجه ألفرد هيتشكوك. وتتجلى ذروات المخيلة السينمائية في تجربة كينغ كونغ ثري دي، حيث تعيد التكنولوجيا الثلاثية الأبعاد إلى الحياة المعركة الملحمية بين كينغ كونغ وحشد من الديناصورات.

Shutterstock
"مينيون" في "استوديوهات يونيفرسال".

ويحتوي المتنزه على تجربة مستوحاة أيضا من فيلم "أنا الحقير"، Despicable Me  تتضمن جولة محاكاة ثلاثية الأبعاد تجعل الزوار ينخرطون في مغامرة مع شخصيات الفيلم. وتتميز الرحلة بتقنيات متطورة تضيف لمسة من المرح والإثارة. هناك أيضا القسم الخاص بعرض فيلم "المتحولون: الرحلة"، حيث يتم القيام برحلة تفاعلية مثيرة، تنقل الزوار إلى عالم الفيلم. وتستخدم الرحلة تقنيات ثلاثية الأبعاد لجعل الزوار الذين يحبون أفلام الأكشن يشعرون بأنهم جزء من المعركة. هناك أيضا قسم العروض الحية، حيث تقدم الاستوديوهات مجموعة عروض حية تشمل مؤثرات خاصة وحيوانات. وتبين هذه العروض للمشاهدين كيفية صناعة الأفلام، وتمنحهم فكرة عن مراحل الإنتاج المختلفة. أما القسم الذي يدعى "سيتي ووك"، فهو منطقة تسوق ومطاعم نابضة بالحياة، مما يجعلها مكانا مثاليا للاسترخاء بعد تمضية يوم مليء بالمغامرات.

تلعب "استديوهات يونيفرسال" دورا مهما في الحفاظ على التراث السينمائي الهوليوودي والاحتفاء به، علاوة على تعريف الجمهور بخلفية هذه الصناعة

ترويج وسياحة

أبدع لاميل طريقة فريدة لتعزيز وترويج أفلام "يونيفرسال بيكتشرز" وإثارة المزيد من الاهتمام الجماهيري بها، ورأى في السياحة فرصة لجذب مزيد من الزوار إلى الاستديو. وتحولت مدينة الملاهي السينمائية إلى أداة جذب وتسويق قدمت مدخلا فريدا للاستوديوهات للانخراط مع الجمهور وتعزيز سمعتها. وكان تأسيس "يونيفرسال سيتي" جزءا من رؤية أوسع لتثوير صناعة التسلية والترفيه من طريق مزج صناعة السينما بالتجارب التفاعلية. ولقد سبقت هذه الفكرة زمنها. وأراد لاميل أن يميز "يونيفرسال بيكتشرز" عن استديوهات أخرى ويبدع لها هوية فريدة خاصة بها، جامعا بين الإنتاج السينمائي والانخراط الجماهيري في العملية.

توفى كارل لاميل في 24  سبتمبر/أيلول 1939، ولكن إسهامه في صناعة السينما لا يزال ماثلا من طريق "استوديوهات يونيفرسال" وما حققه من إنجازات كبيرة في تطور السينما. لم تسلم تجربته من النقد، إلا أن النقد كان منصفا. فقد أشاد النقاد بجدة الفكرة والإثارة الناجمة عن رؤية خلفيات الأفلام عن قرب. ولاقى إدخال قسم عالم هاري بوتر السحري ثناء كبيرا بسبب انتباهه إلى التفاصيل، وقدرته على إحياء هذا العالم. وتجلّى الجانب الإبداعي للمشروع في القدرة على ترجمة السحر السينمائي إلى بيئات مادية تفاعلية من طريق توظيف تكنولوجيا متطورة وتقنيات سرد تعزز تجربة الزوار ومحبي السينما والتسلية. يبقى أن نشير إلى أن تأثير "استديوهات يونيفرسال" في مدينة لوس أنجليس تخطى السياحة. وكان المشروع مهما للتوظيف، حيث قدم وظائف في مجالات الإنتاج السينمائي وإدارة المتنزهات وميادين متنوعة أخرى. وتلعب "استديوهات يونيفرسال" أيضا دورا مهما في الحفاظ على التراث السينمائي الهوليوودي والاحتفاء به، علاوة على تعريف الجمهور بخلفية هذه الصناعة. وتُعد الجولات في البيئة التفاعلية للمكان دروسا في التاريخ السينمائي، إذ تتيح للزوار الاطلاع على تاريخ إنتاج الأفلام والإرث المستمر للأفلام الكلاسيكية، كما تربط السينما بالحياة اليومية وتقدم فهما أعمق لما يجري خلف كواليس هذه الصنعة.

font change

مقالات ذات صلة