هكذا صار البشر يخافون تقريبا "من كلّ شيء"

لم تعد القنبلة النووية سبب القلق الوحيد

Shutterstock
Shutterstock
نوبة هلع في مكان عام. امرأة تعاني من اضطراب في مدينة مزدحمة.

هكذا صار البشر يخافون تقريبا "من كلّ شيء"

سئل الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو، في إحدى محاوراته، عما يقصده بمصطلح "تدبير الخوف" فأجاب: "أعتقد أنه إذا كنت أستخدم هذا المصطلح، فهذا يعني أمرين: أولا، أن الخوف أصبح الآن بيئة، وسطا، عالما، فهو يشغلنا ويقلقنا.

في الماضي، كان الخوف ظاهرة مرتبطة بأحداث محددة، يمكن التعرف اليها، وكانت أساسا محددة في الزمن: حروب، مجاعات، أوبئة... أما اليوم، فإن العالم نفسه، المحدود، المشبع، المنكمش، هو الذي يحتضننا ويضغط علينا في نوع من رُهاب الأماكن المغلقة: أزمات سوق الأسهم المُعْدية، الإرهاب غير المميز، جائحة سريعة، حالات انتحار "مهنية"...

الخوف هو العالم، والذعر، بالمعنى "الكلي". ولكن "تدبير الخوف" يعني أيضا أن الدول تميل إلى تحويل الخوف، وتنظيمه، وإدارته، تحويله إلى سياسة..."تدبير الخوف" هو السياسة بلا مجتمع و"بوليس"، هو إدارة البشر عندما لا يعود لديهم مكان يشعرون فيه بأنهم "في وطنهم"، عندما يشعرون بالضيق في كل مكان، ويحلمون بمكان آخر غير موجود".

الخوف جهازا إداريا

لم يعد الخوف في عالمنا المعاصر إحساسا يتعلق بفرد بعينه، ذلك الخوف الذي قد لا يكون متولدا إلا عن أوهام، وإنما صار "دولة" وجهازا إداريا، بمعنى قوة عامة تفرض واقعا زائفا، وفي الوقت نفسه، هو "تدبير" من حيث أن السلطات الحاكمة تميل إلى استثماره وتوظيفه، وتحويله إلى سياسة.

صار الخوف "دولة" وجهازا إداريا، بمعنى قوة عامة تفرض واقعا زائفا، وفي الوقت نفسه، هو "تدبير" من حيث أن السلطات الحاكمة تميل إلى استثماره وتوظيفه

في خضم أزمة كوفيد19 لاحظنا كيف أن بعض الشعوب الأوروبية أبدت مقاومتها إزاء بعض الإجراءات التي كانت تتخذها السلطات الحاكمة. بل إن البعض ارتأى أن تلك السلطات كانت "تستغل" الأزمة اعتبارا بأن "الخوف من عدو وهمي"، كما كتب أحدهم، "هو كل ما تبقى للساسة لضمان بقائهم في السلطة." من هنا وجدنا أن السلطات الحاكمة كانت تعمل في واجهتين، في الوقت ذاته: تعمل على مواجهة الجائحة، ولكن أساسا على الرد المتواصل على من يوجهون إليها انتقاداتهم لسوء تدبيرها. والحقيقة أن الأمر لم يكن دوما سوء تدبير، وإنما نوع من "سياسة الخوف" وتوظيفه، وتحويله إلى أداة من أدوات السلطة.

Getty Images
أقارب يرتدون أقنعة يشيعون ضحايا كورونا في جنازة جماعية في ماناوس، البرازيل.

كان الفيلسوف هانز يوناس، الذي جعل من الخوف "مبدأ إرشاديا" حقيقيا، يوصي بأنه من أجل التفكير بشكل صحيح في عالم اليوم، يجب البدء بالخوف، خصوصا الخوف من احتمال زوال كوكبنا، قبل الحكم على ملاءمة أي قرار، سواء أكان قرارا سياسيا أو علميا. فبعدما كان الخوف وهما، أصبح اليوم أساسيا، بل مؤسسا.

مضى زمن كانت مخاوف المرء ترتبط بسنّه، يعدها مجرد أوهام، فكان النمو والوصول إلى مرحلة البلوغ، يعني بالتحديد تجاوز المخاوف. لكن مع ما عرفته العصور المتأخرة من اضطرابات متكررة، وحروب خلفت ملايين القتلى، ومن فوضى مناخية، وذعر في الأسواق المالية، ورهاب غذائي، وتهديدات وبائية، وانهيار اقتصادي، وقلق خلقي، وخوف وجودي، بل وإمكان حرب شاملة تقودها قوة واحدة، أو فرد واحد فقد البوصلة كما نلحظ اليوم، أصبح كل ذلك مبعث مخاوف قلبت موازين القوى التقليدية كما تم تصورها، وكما عاشها الإنسان على مدى تاريخ البشرية في معظمه.

AFP
بول فيريليو يقدم منحوتة "موما وأجزاء الطائرة" للفنانة نانسي روبنز في مؤسسة "كارتييه".

تراكم المخاوف

لقد أثارت هذا الإمكان حالة من الذعر الدائم، ليس فقط على مستوى الأفراد، ولكن أيضا حالة من الذعر السياسي الذي فقدت فيه كثير من الحكومات توازنها. وهكذا لم يعد الأمر حالة نفسية خاصة، تدل فقط على عدم نضج وضعف في الشخصية، بل أصبح حالة اجتماعية شائعة، وسرعان ما انتقلنا من السيكوباتية الفرويدية إلى السوسيوباتية. بل إن من المفكرين من ينظرون اليوم إلى الخوف على أنه ليس شعورا مشروعا فحسب، بل وأكثر من ذلك، سمة إضافية في الشخصية سيكون من الغباء التخلي عنها، وعلامة على الحكمة، "فمن خاف نجا"، كما يقول المثل. فكأن الخوف غدا "حقا مشروعا"، أو لنقل على الأقل، محددا من مجددات الإنسان.

بلغ الخوف درجة من التعقيد حتى غدا يتخذ ذاته موضوعا له وينصبّ على نفسه. إنه "خوف من الخوف"، وهو خوف أصبح يلاحقنا أنى ومتى كنا

ما يميز مخاوف عصرنا، هو تراكمها وتعدد مصادرها، مما جعلها تعزز بعضها بعضا. فحتى وقت قريب كنا نعزو مخاوفنا إلى عوامل محدودة ومحددة. كنا نعزوها إلى خيبة الآمال التي نعلقها على تطور معارفنا العلمية، وإلى التشكيك في قدرة العلم والتمكين من التقدم، وتوفير الأمن والسعادة للبشرية، وخصوصا بعد ما رآه القرن العشرون من أشكال العنف، ومن ظهور التهديدات النووية في العالم.

Shutterstock
رجل خائف يرفع يديه لحماية نفسه من وابل الأسئلة المتساقطة عليه.

غير أن مصادر خوفنا اليوم لم تعد نووية، ولا حتى بيئية، بل أصبحت معلوماتية. هذه القنبلة، التي تنبع من الفورية في وسائل الاتصال، وخاصة في نقل المعلومات، لها دور بارز في جعل الخوف جزءا من البيئة العالمية، بل محايثا لها، حيث "تُعولِم" الخوف، وتتيح تزامن المشاعر على مستوى عالمي، هذه القنبلة، كما أثبت فيريليو، ليست قنبلة محلية محصورة التأثير، محددة المفعول في المكان والزمان "فهي تنفجر في كل لحظة، في ما يتعلق بهجوم إرهابي، أو كارثة طبيعية، أو وباء من الأوبئة، أو إشاعة خبيثة"، إنها تخلق "مجتمعا من المشاعر" الحقيقية، وتُعَوْلم الانفعالات، وتُرسي أسس "شيوعية للعواطف"، تحل محل شيوعية "مجتمع المصالح الذي كانت تتقاسمه الطبقات الاجتماعية المختلفة".

Shutterstock
ذكاء اصطناعي واعٍ يخيف فني البرمجيات الذي يقفز من كرسيه ويرفع يديه ارتعادا.

لم يعد من الممكن، والحالة هذه، وربما لم يعد حتى من المجدي، أن نتساءل عما إذا كان هذا الخوف المعاصر خوفا حقيقيا؟ أو ما إذا كان أقرب إلى قلق، وخوف بلا موضوع، أو ما إذا كان مجرد نوع من الرهاب، أي تجسيد لقلق داخلي في موضوع خارجي؟ فربما كان الخوف الذي نعيشه اليوم يشمل هذه المعاني والتأويلات الثلاثة جميعها، إلى حد أن في إمكاننا القول إنه بلغ درجة من التعقيد حتى غدا خوفا يتخذ ذاته موضوعا له وينصبّ على نفسه. إنه "خوف من الخوف"، وهو خوف أصبح يلاحقنا أنى ومتى كنا، وهذا منذ أن برز ما يحصره فيريليو في ثلاثة أنواع كبيرة من الخوف أظهرت قوة استثنائية في تشكيل الظروف والتحكم فيها، وهي التي تولدت عن اختلال توازن الرعب مع القنبلة النووية، واختلال التوازن مع الإرهاب والقنبلة المعلوماتية، وأخيرا، الخوف البيئي الكبير مع الخشية من انفجار القنبلة الجينية.

font change

مقالات ذات صلة