لم يكن الاحتفال بالذكرى السبعين لـ"ثورة التحرير" في الجزائر التي تُخلدُ انطلاق الثورة ضد الاستعمار الفرنسي عام 1954 حدثا عاديا. فقد شهدت البلاد استعراضا عسكريا ضخما، شاركت فيه 132 طائرة مقاتلة ومسيّرة والمئات من الدبابات، ورفع الستار فيه عن أسلحة جديدة غير مسبوقة على غرار منظومة الصواريخ الباليستية القصيرة المدى الروسية "إسكندر-E".
ولا تُعتبر هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها الجزائر باستعراض عسكري يُضاهي هذه الضخامة. فقبل عامين من هذا التاريخ وبالتحديد خلال احتفالات الذكرى الـستين للاستقلال، نظم صناع القرار السياسي في البلاد أول استعراض خصصت له الحكومة الجزائرية مبلغ 30 مليون يورو أي ما يُعادل 32 مليون دولار، وهذا الأمر يدفعنا اليوم إلى التساؤل عن خلفيات التوجه نحو الانكشاف العسكري والرسائل التي تحملها هذه الاستعراضات العسكرية.
وكان الاستعراض مليئا بالإثارة لا سيما لحظة الكشف عن منظومة الصواريخ الباليستية "إسكندر إي" الروسية أو ما يُلقب إعلاميا بـ"وحش الجزائر النائم"، التي تمتاز بدقتها وقدرتها على إصابة أهداف على مدى يصل إلى 500 كيلومتر للنسخة الخاصة بالجيش الروسي و280 كيلومترا لنسخة التصدير، كما تم عرض ترسانة أسلحة دفاعية وهجومية ومنظومات صواريخ حديثة، تصدرتها سرية المدفعية الصاروخية "سميرتش-BM30" وهو سلاح فعال ذو قدرة قتالية عالية ومنظومة الدفاع الصاروخي أرض _ جو "إس-300" التي تستطيع كشف وتعقب عدة أهداف ولها قدرات فائقة في صد وتدمير الصواريخ الباليستية ومختلف الطائرات، وسرية من قاذفات الصواريخ "هاوتزر دي-30"، كما تم استعراض منظومة مزودة بصواريخ "برق"، ومضادة للدبابات والمدرعات مختصة بتدمير الأهداف المعادية المتحركة بصورة دقيقة.
تحديث الترسانة العسكرية
وبالموازاة مع هذا جرى استعراض جوي، واستعراض آخر لمجمع قتالي من طائرات "سوخوي–24"، و"سوخوي-30" التي كانت ترافق طائرات النقل "س_90" و "بي-350" وطائرات النقل التكتيكي "س-130" وطائرة اليوشين لعملية التزود بالوقود جوا، كما شاركت القوات البحرية بعروض مُبهرة في مياه البحر الأبيض المتوسط على شاكلة غواصات "جرجرة"، و"الهقار"، و"الونشريس"، وغواصة "الثقب الأسود" القاذف للصواريخ المجنحة "سطح-بر" من أعماق البحار لتدمير أهداف برية في عمق أراضي العدو من مسافات بعيدة كما أنها قادرة على استعمال التوربيدات وصواريخ طويلة المدى "سطح-سطح" لتدمير السفن والغواصات. ولُوحظ في المكان المطل على البحر فرقاطات متطورة وكاسحات ألغام مثل "الرادع" و"المدمر" وسفن حربية أخرى.
ويُترجم الاستعراض العسكري حجم ما تُنفقه الجزائر سنويا على قطاع الدفاع، إذ تكشف الموازنة العامة للجزائر لعام 2025 عن ارتفاع ملحوظ ومتواصل في موازنة الجيش الجزائري ووزارة الدفاع، إلى أكثر من 25 مليار دولار أميركي (أكثر من 3349 مليار دينار جزائري) بزيادة تقدَّر بثلاثة مليارات دولار مقارنة مع ميزانية عام 2024، ومنذ عام 2018، شهدت ميزانيات الدفاع والجيش الجزائري ارتفاعا قياسيا بسبب رغبة السلطة في تجديد وتحديث معدات وأسلحة الجيش وحتى اقتناء منظومات أسلحة متطورة، وقد ارتفعت هذه الميزانية من حدود 18 مليار دولار عام 2023، إلى سقف 22 مليار دولار في 2024، لتبلغ عتبة 25.1 مليار دولار في موازنة عام 2025.
وتبدو هذه الاستعراضات العسكرية بالنسبة لكثير من المحللين السياسيين والأمنيين مُبررة في الواقع، بالنظر إلى تعاظم التحديات الأمنية المرتبطة بالإٍرهاب والاضطرابات في منطقة الساحل الأفريقي والجريمة والهجرة السرية والإتجار بالبشر كما أن الجزائر مُحاطة بمجموعة دول تعاني من ضعف أمني وسياسي على غرار مالي والنيجر وليبيا. ويقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ورقلة والخبير بالشؤون الدولية الدكتور كاهي مبروك في حديثه لـ"المجلة" إن "هذه الاستعراضات تحمل في طياتها جملة من الغايات والرسائل السياسية التي استهدفت السلطة إرسالها للداخل والخارج، لا سيما من ناحية التوقيت السياسي للاستعراض".
رابطة مقدسة بين الجيش والشعب
تخص هذه الرسائل الشأن الداخلي والخارجي معا، فهي تشكلُ حسب الدكتور مبروك كاهي "محاولة للترويج للإنجازات المُحققة على المستوى العسكري وإرسال رسالة اطمئنان تؤكد جاهزية الجيش الجزائري التامة للدفاع عن الوطن وحمايته وأيضا توطيد علاقة الجيش مع الشعب وهي العلاقة التي دحضت الكثير من المكائد وأفشلت الكثير من المؤامرات التي حاول من خلالها المتربصون النيل من وحدة الجزائر".