3.9 مليارات دولار موازنة سوريا... بزيادة لا تعالج الأزمة المعيشية

رفع الموازنة 26% لن يغطي المصاريف الشهرية لموظفي القطاع العام

"المجلة"
"المجلة"

3.9 مليارات دولار موازنة سوريا... بزيادة لا تعالج الأزمة المعيشية

أقرت الحكومة السورية مشروع موازنة الدولة لعام 2025 بقيمة 52.6 تريليون ليرة سورية (3.9 مليارات دولار أميركي). ويمثل ذلك زيادة قدرها 48 في المئة مقارنة بموازنة 2023 التي بلغت 35.5 تريليون ليرة سورية (ما كان يعادل في ذلك الوقت 3.1 مليارات دولار). ما يعادل زيادة بالقيمة الحقيقية مقدارها 26 في المئة، وفقا لسعر الصرف الرسمي البالغ 13,500 ليرة سورية للدولار الأميركي.

لكن يجب ألا يعد توسع الموازنة تحسنا في حياة السوريين في المستقبل أو تزايدا لدور الدولة في معالجة الوضع الاجتماعي والاقتصادي.

الإنفاق والاستثمارات

لا يكشف مشروع الموازنة الحالية عن نطاق المخطط المالي للحكومة بأكمله. وتقدر النفقات الجارية لسنة 2025 بنحو 37 تريليون ليرة سورية (2.74 مليار دولار)، بزيادة قدرها 40 في المئة مقارنة بـ 26.5 تريليون ليرة سورية (ما يعادل 2.3 مليار دولار بسعر الصرف وقت صدور الموازنة في عام 2023) في الموازنة السابقة. وتعادل النفقات الجارية 70 في المئة من النفقات الإجمالية، بدلا من 75 في المئة في السنة الجارية، ويخصص معظمها على العموم لدفع الرواتب والأجور، ثم إدارة المؤسسات الحكومية وتشغيلها، وصندوق الدين العام.

تواصل الحكومة السورية إبرام اتفاقات شراكة بين القطاعين العام والخاص، أو بعبارة أخرى، توسيع خصخصة أصول الدولة، بدلاً من تخصيص استثمارات ضخمة في الاقتصاد أو المؤسسات الحكومية أو البنية التحتية

استخدم صندوق الدين العام في السنوات القليلة الماضية لتقديم قروض للجهات العامة تستخدم في تمويل استثماراتها، كالإنفاق على البنية التحتية على مستوى المحافظات. لكن تخصيص الأموال لهذا الصندوق كان أيضا وسيلة لإخفاء نفقات وزارة الدفاع ورئاسة الجمهورية منذ سنة 2018.

يزيد الإنفاق الاستثماري لسنة 2025 بمقدار 70 في المئة عما كان عليه في موازنة سنة 2024، إذ ارتفع من 3 تريليونات ليرة سورية (260 مليون دولار)  إلى 9 تريليونات ليرة سورية (667 مليون دولار). وأوضح وزير المالية السوري رياض عبد الرؤوف عند عرض الموازنة أن الإنفاق الاستثماري سيشكل ما يقارب 30 في المئة من إجمالي الموازنة الإجمالية، مقارنة بـ 25 في المئة في سنة 2024. وأشار إلى أن أهداف الإنفاق الاستثماري هي تحفيز الطلب وتأمين احتياجات مؤسسات الدولة وضمان استمرار توفر الخدمات التي تقدمها هذه الجهات للمواطنين، بالإضافة إلى تحفيز جانب العرض بزيادة معدلات الإنتاج لتحسين البيئة الاقتصادية.

Shutterstock
أوراق نقدية سورية، فئة 2000 ليرة

غير أن الحكومة السورية لم تنفق في كثير من الأحيان المبلغ المعلن للنفقات الاستثمارية في السنوات القليلة الماضية، وهي تظل قليلة. كما أعلنت الحكومة أخيرا أنها ستسحب تمويلها من المؤسسات الحكومية التي تعدها خاسرة ولا تقدم قيمة اجتماعية إضافية للمجتمع.

سوريا تمضي في خصخصة مرافقها العامة

في المقابل، تواصل الحكومة السورية إبرام اتفاقات شراكة بين القطاعين العام والخاص، أو بعبارة أخرى، توسيع خصخصة أصول الدولة، بدلاً من تخصيص استثمارات ضخمة في الاقتصاد أو المؤسسات الحكومية أو البنية التحتية. ومن أحدث الأمثلة على هذه الخصخصة الإعلان في أواخر يوليو/تموز 2024 عن عقد يسمح لشركة خاصة بإدارة الشركة السورية للطيران. لم يكشف عن اسم الشركة، ولكن من المرجح أن تكون شركة "إلوما" المملوكة لرجال أعمال مرتبطين بالقصر الرئاسي.

تعزّز هذه الخصخصة نفوذ رجال الأعمال المرتبطين بالنظام وسيطرتهم على السلع العامة، على حساب الدولة والمصالح العامة

وقال مدير "السورية للطيران" إن العقد مع الشركة الخاصة سيكون لمدة 20 عاما، وإن الحكومة ستتلقى 25 في المئة من الإيرادات السنوية في السنوات العشر الأولى، على أن ترتفع إلى 37.5 في المئة في السنوات العشر التالية من العقد.

كما أعلنت دمشق في أكتوبر/تشرين الأول 2024 اتفاقا لخصخصة إنتاج لوحات السيارات قبيل بدء حملة تلزم مالكي المركبات تغيير لوحات سياراتهم واستبدال تصميمات جديدة بها. وأبرمت مشاريع شراكة أخرى بين القطاعين العام والخاص، خاصة في مجالات الإسمنت، والجرارات وتصنيع البطاريات والأدوية. 

تعزّز هذه الخصخصة نفوذ رجال الأعمال المرتبطين بالنظام وسيطرتهم على السلع العامة، على حساب الدولة والمصالح العامة، مع حرمان الدولة من عائدات المؤسسات العامة المربحة. وهكذا تجدد هذه السياسات الاقتصادية إستراتيجيات تراكم رأس المال الخاص التي تعود إلى ما قبل سنة 2011، وفي الوقت نفسه تجدد سلطوية النظام واستبداده وتعززها.

الإيرادات والعجز... والضرائب

لم يقدم وزير المالية أرقاما واضحة للإيرادات في موازنة سنة 2025، لكنه اكتفى بالإشارة إلى عدم وجود مشاريع لفرض ضرائب جديدة. ووفقا لحسابات "سيريا ربورت"، تُقدر إيرادات الموازنة بنحو 41.6 تريليون ليرة سورية، وذلك ارتفاع كبير مقارنة بإيرادات العام الماضي التي بلغت 26.1 تريليون ليرة سورية، أي ما تبلغ نسبته 74 في المئة.

تسعى الحكومة لزيادة الإيرادات بتحسين العوائد من إدارة الممتلكات والأراضي الحكومية. ويبلغ مقدار الأراضي السورية المملوكة للدولة 62% وفقا لأرقام ما قبل سنة 2011 الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة

رياض عبد الرؤوف، وزير المالية السوري

وأوضح الوزير عبد الرؤوف أن الحكومة تسعى لزيادة الإيرادات بتحسين العوائد من إدارة الممتلكات والأراضي الحكومية. ويبلغ مقدار الأراضي السورية المملوكة للدولة 62 في المئة وفقا لأرقام ما قبل سنة 2011 الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.

في غضون ذلك، اتخذت الحكومة السورية قرارات عدة في السنوات الأخيرة لزيادة حجم إيراداتها، بما في ذلك تطبيق نظام الدفع الإلكتروني لتحسين تحصيل الضرائب، وفرض ضرائب جديدة على واردات السكر والألواح الشمسية، وتسهيل دفع تعويضات الإعفاء من الخدمة العسكرية، ومضاعفة رسوم القنصليات.

رويترز
ملصق للرئيس السوري بشار الأسد، وسط ساحة في دمشق، سوريا 19 مايو 2023

خفّض العجز في الموازنة إلى 21 في المئة لعام 2025، مقارنة بـ 26 في المئة في سنة 2024، وفقا لوزير المالية، من دون تقديم مزيد من التفاصيل في شأن المبالغ الدقيقة. ويمثل ذلك وفقا لإجمالي الموازنة 11.04 تريليون ليرة سورية، أي بزيادة مقدارها 18 في المئة مقارنة بعجز سنة 2024 البالغ 9.4 تريليونات ليرة سورية. ولم تقدم تفاصيل في شأن مسألة العجز، الذي من المحتمل تغطيته بطباعة النقود والاقتراض بإصدار سندات خزينة.

الدعم والتقشف... النفط والطحين

في موازنة سنة 2025، تبلغ حصة الإنفاق على الدعم العام وبرامج المساعدات الأخرى 15.8 في المئة من إجمالي الموازنة، أي ما يعادل 8.3 تريليونات ليرة سورية (615 مليون دولار) . وتخطط دمشق لإنفاق 4 تريليونات ليرة (296 مليون دولار) على المنتجات النفطية و3.85 تريليونات ليرة  (285 مليون دولار) على الطحين، أي ما مجموعه 94.5 في المئة من إجمالي موازنة الدعم الاجتماعي. وتشمل مكونات الدعم الاجتماعي الأخرى صندوق تمويل المشروع الوطني للتحول للري الحديث (150 مليار ليرة سورية)، والخميرة (125 مليار ليرة سورية)، وصندوق دعم الإنتاج الزراعي (100 مليار ليرة سورية) الذي يساعد المزارعين في التعامل مع الزيادة المستمرة في تكاليف المدخلات، والصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية (50 مليار ليرة سورية) الذي يدعم مشروعات الجنود المتقاعدين والنساء والمنشآت الصغيرة، وصندوق تخفيف آثار الجفاف والكوارث الطبيعية على الإنتاج الزراعي (25 مليار ليرة سورية)، والصندوق الوطني لدعم المتضررين من الزلزال (25 مليار ليرة سورية). 

بالإضافة إلى هذا البند في الموازنة، هناك أشكال أخرى من الإنفاق المخصص للقطاع الطبي، 2.7 تريليون ليرة سورية، لشراء مستلزمات المختبرات والمعدات الطبية والأدوية، بما في ذلك أدوية السرطان، إذ تعاني البلاد من نقص كبير في علاجات السرطان.

هناك تراجع مستمر في حصة القطاع الصحي من الموازنة الإجمالية، بانخفاض من 17.5% في سنة 2024 و30% في سنة 2023

ومع أن ذلك يزيد على 6.2 تريليونات ليرة سورية (459 مليون دولار) في موازنة سنة 2024، أي بزيادة قدرها 34 في المئة بالليرة السورية، فإن هناك تراجعا مستمرا في حصته من الموازنة الإجمالية، بانخفاض من 17.5 في المئة في سنة 2024 و30 في المئة في سنة 2023.

رفع سعر الخبز والمازوت والكهرباء

ينسجم ذلك مع اجراءات التقشف المستمرة التي تقلل تدريجيا حجم الدعم في موازنة الدولة. فقد رفعت الحكومة في مناسبات عدة أسعار السلع والخدمات الأساسية المدعومة مرات عدة منذ بداية العام. ففي فبراير/شباط 2024، رفعت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك (مرة أخرى) سعر بيع رغيف الخبز المدعوم بمقدار 100 في المئة وسعر المازوت المخصص للأفران بما يزيد على 165 في المئة. وبعد هذه الزيادات الجديدة، وصل سعر ربطة الخبز زنة 1100 غرام إلى 400 ليرة سورية (0.032 دولار), في حين قفز سعر ليتر المازوت المدعوم المخصص للأفران من 700 ليرة سورية إلى 2000 ليرة (على التوالى0.056  و 0.15 دولار). 

في الفترة نفسها، أعلنت وزارة الكهرباء زيادة كبيرة جديدة في تكلفة الكهرباء، وتراوح مقدار الزيادة بين أكثر من 300 في المئة و585 في المئة.

بعد بضعة أشهر، في سبتمبر/أيلول 2024، أعلنت الحكومة زيادة جديدة في سعر ليتر المازوت المدعوم المخصص للأفران، إذ ارتفع من 2000 ليرة سورية إلى 5000 ليرة (على التوالى 0.15  و 0.37 دولار) . ووفقا للبيانات الرسمية، ستتيح هذه الخطوة للحكومة توفير 600 مليار ليرة سورية سنويا.

أ.ف.ب.
دبس الرمان أحد المنتجات الزراعية في منطقة عفرين في حلب، شمال سوريا، 22 أكتوبر 2024

وفي نهاية أكتوبر/تشرين الأول، أُعلن عن خفوضات جديدة في الدعم في العديد من القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك الزراعة. على سبيل المثل، رفعت الحكومة سعر المازوت المدعوم المباع لقطاع الزراعة بنسبة 150 في المئة، ليرتفع السعر للمزارعين من 2,000 إلى 5,000 ليرة سورية (من 0,15 إلى 0,37 دولارا) لليتر الواحد، ولشركات الأغذية الزراعية من 8,000 ليرة سورية (0,59 دولارا) إلى "سعر التكلفة"، وهو ما لم تحدده السلطات بعد.

إضافة إلى ذلك، ارتفع سعر سماد اليوريا من 8,9 ملايين ليرة سورية إلى 9,2 ملايين ليرة سورية للطن الواحد (من 659 إلى 681 دولاراً)، فيما ارتفع سعر سماد الفوسفات من 6 ملايين ليرة سورية إلى 6,4 ملايين ليرة سورية للطن الواحد (من 444 إلى 474 دولارا).

شهد نقص المنتجات المدعومة، وخاصة المشتقات النفطية، تزايدا كبيرا في أعقاب حرب إسرائيل على لبنان في منتصف سبتمبر/أيلول 2024، مما دفع الأفراد والجهات الاقتصادية الفاعلة إلى شراء هذه المنتجات من "السوق السوداء"

في الوقت نفسه، شهد نقص المنتجات المدعومة، وخاصة المشتقات النفطية، تزايدا كبيرا في أعقاب حرب إسرائيل على لبنان في منتصف سبتمبر/أيلول 2024، مما دفع الأفراد والجهات الاقتصادية الفاعلة إلى شراء هذه المنتجات من "السوق الحرة" أو "السوق السوداء". غير أن الكميات المتاحة في "السوق الحرة" أو "السوق السوداء" محدودة وأسعارها مرتفعة للغاية، إذ قفزت في الأسابيع الماضية من 12,000 ليرة سورية (0.96 دولار) لليتر إلى أكثر من 20,000 ليرة (1.6 دولار)، ووصلت أحيانا إلى 30,000 ليرة (2.4 دولار) لليتر المازوت.

وللتعويض عن الارتفاع في أسعار المنتجات المدعومة، وخاصة المشتقات النفطية، في السنوات القليلة الماضية، منحت الحكومة مكافآت دورية للموظفين الحكوميين والجنود والمتقاعدين، بالإضافة إلى بعض الزيادات في الرواتب. غير أن تلك التدابير لم تخفف معاناة الشعب المستمرة وارتفاع تكاليف المعيشة. كما أننا إذا قارنا الارتفاع في أسعار المازوت المدعوم المخصص للأفران بارتفاع الحد الأدنى للأجور الرسمية في سوريا بين أكتوبر/تشرين الأول 2020 وأكتوبر/تشرين الأول 2024، نجد أن سعر المازوت ارتفع بمقدار 2678 في المئة (من 180 ليرة لليتر إلى 5,000 ليرة) في حين ارتفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 489 في المئة (من 47,675 ليرة سورية إلى 280,890 ليرة سورية شهريا).

.أ.ف.ب
موسم حصاد الرمان في منطقة عفرين في حلب، شمال سوريا 22 أكتوبر 2024

لا يستطيع معظم السكان العاملين في وظائف حكومية تغطية تكاليف أكثر احتياجاتهم الشهرية من رواتبهم، إذ يتراوح سلم الرواتب الحالي للموظفين الحكوميين في حده الأدنى بين 280,890 ليرة سورية و336,348 ليرة سورية (على التوالى22.5 و26.9 دولار). وذلك غير كاف البتة لإعالة الأسرة. ففي سبتمبر/أيلول 2024، بلغ متوسط تكلفة المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد في دمشق 13.6 مليون ليرة سورية وبلغ الحد الأدنى 8.5 ملايين ليرة (على التوالى 1,080و 680 دولارا)، وفقا لتقديرات صحيفة "قاسيون"، في حين أن تكلفة المعيشة، كما تقاس في "سلة الحد الأدنى للإنفاق"، وصلت في أحدث تقديراتها في مايو/أيار 2024 إلى 2,621,346 ليرة (209.7 دولار) لأسرة مكونة من خمسة أفراد. وقد تضاعفت هذه القيمة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وهو ما يمثل ارتفاعا بمقدار 95 في المئة، وزادت ثلاثة أضعاف في عامين فحسب.

وهكذا تعكس موازنة سنة 2025 التوجه السياسي الاقتصادي الرئيس للحكومة السورية في السنوات القليلة الماضية بعدم السعي لإدخال زيادة كبيرة على الرواتب والأجور أو زيادة الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية للاقتصاد، مع استمرار اتباع تدابير تقشفية تزيد إفقار السكان السوريين وتؤثر على الاقتصاد أيضا برفع تكلفة الإنتاج بشكل كبير.

font change

مقالات ذات صلة