قمة الرياض... و"ترمب الثاني"

مبادرات كثيرة لكنها حذرة وخليط بين التحرك والانتظار

قمة الرياض... و"ترمب الثاني"

لا خلاف أن الانتصار الذي حققه دونالد ترمب فاق توقعات أكثر المتفائلين في حملة الرئيس السابق نفسه. فهو لم يحصل على غالبية الأصوات الشعبية والمجمع الانتخابي وحسب، بل إنه والحزب الجمهوري باتا يسيطران على البيت الأبيض والكونغرس والمحكمة العليا. وهذه من المرات النادرة التي يمسك فيها الرئيس الأميركي وحزبه كامل المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية في البلاد.

نعرف "ترمب الأول" وطريقة حكمه في السنوات الأربع السابقة ومواقفه من القضايا الداخلية والخارجية الرئيسة. فوجئنا بتغريداته. لاحقنا تقلباته وزياراته. واكبنا ضرباته. ولا شك أن الحملة الانتخابية أظهرت بعض التغييرات في شخصيته وأولوياته. ولاشك أيضا، أن اللحظة المفصلية بالنسبة إليه والتي تركت بصماتها في داخله وحساباته، هي نجاته من رصاصة اغتيال مباشرة، والأحاديث عن خطط أخرى لاغتياله.

لكن واقع الحال أننا لن نعرف "ترمب الثاني" الحقيقي إلا بعد أن يشكل فريقه ويجلس ثانية في كرسي البيت الأبيض. ولا شك أن المرحلة الفاصلة عن تسلمه الحكم في 20 يناير/كانون الثاني، وهي مرحلة انتقالية بين ضعف "البطة العرجاء" جو بايدن وغياب إدارة ترمب، ستتضمن تغييرات في كثير من ملفات الشؤون الخارجية. فبايدن سيتحدث مع التاريخ، وترمب يتطلع إلى المستقبل. الأهم أن العالم، الذي تركه ترمب في 2021 ليس ذاته الذي سيجده بداية 2025.

تأتي قمة الرياض العربية – الإسلامية بعد مبادرة قادتها السعودية نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، لإنشاء تحالف عالمي لتنفيذ "حل الدولتين"

كيف سيجد ترمب منطقة الشرق الأوسط؟

تستضيف الرياض، يوم الاثنين، قمة عربية- إسلامية، في نسختها الثانية، لاتخاذ موقف موحد من الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة ولبنان، وتنسيق المواقف لوقف الحرب وتقديم المساعدات الإنسانية والوصول إلى حلول دائمة توفر الاستقرار المديد في الشرق الأوسط.

وتأتي القمة بعد مبادرة قادتها السعودية نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، لإنشاء تحالف عالمي لتنفيذ "حل الدولتين"، بحيث يكون بديلا عما يطرحه متطرفون في إسرائيل في "الدولة الواحدة" وإلغاء حقوق الفلسطينيين. وعلى اعتبار أن محرك "تحالف حل الدولتين"، هو الدول العربية والإسلامية، فإن قمة الرياض تكتسب أهمية في إعطاء زخم لهذه المبادرة وتشجيع دول أخرى للانضمام إلى "التحالف" والاعتراف بالدولة الفلسطينية واتخاذ خطوات عملية في هذا المجال.

ومع العد التنازلي للعيش في عالم ترمب الذي حضر في الرياض قمة عربية-إسلامية في الرياض في 2017، يكتسب التحرك العربي- الإسلامي في هذا التوقيت، مغزى خاصا إذ إنه يقدم مقاربة مضادة لجهود الحكومة الإسرائيلية لخلق وقائع جديدة في قطاع غزة والضفة الغربية مع رهان نتنياهو على أن يكون صديقه "ترمب الثاني" استمرارا لـ"ترمب الأول" الذي أقدم على سلسلة من الخطوات الداعمة لتل أبيب، كان بينها نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، وتشجيع خطوات تل أبيب في الضفة الغربية والاستيطان، و"الاتفاقات الإبراهيمية".

هناك مشهد جيوسياسي سيجده الرئيس الأميركي الـ 47 في الشرق الأوسط يختلف عن ذاك الذي تركه الرئيس الـ 45

لا شك أن فريق ترمب سيعمل وراء الكواليس لإطفاء حرائق مشتعلة قبل تسلم مفاتيح البيت الأبيض، ولن يكون مفاجئا أن يكون قد أبلغ نتنياهو خلال الاتصالات الهاتفية الثلاثة في الأيام الماضية، بضرورة الاستعجال في طي ملفي قطاع غزة ولبنان في الشهرين المقبلين.

قضية فلسطين وغزة التي تركها ترمب ليست على حالها الآن. تعليق مفاوضات وقف النار وتبادل الأسرى ليس مبشرا. وتلويح الجيش الإسرائيلي بتنفيذ "خطة الجنرالات" شمال غزة يخالف التيار. لبنان الآن ليس كما كان قبل أربع سنوات. سباق بين تسريبات "صفقة هوكشتين" وتنفيذ القرار 1701 وبين إقرار الجيش الإسرائيلي خطة توسيع العمليات البرية في الجنوب.

غزة ولبنان ليسا الملفين الوحيدين على طاولة ترمب، بل إن هناك مشهدا جيوسياسيا آخر سيجده الرئيس الأميركي الـ 47 في الشرق الأوسط يختلف عن ذاك الذي تركه الرئيس الـ 45. هناك المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، لكن هناك أيضا التقارب بين دول إقليمية. هذا واقع جديد. هناك الاتفاق السعودي- الإيراني برعاية صينية والاستمرار الثنائي بالخطوات والاتصالات واللقاءات المتفق عليها، والتقارب بين تركيا ومصر ودول خليجية. وهناك التقارب العربي مع سوريا والرهان على ان يخرج الرئيس بشار الأسد من "محور الممانعة" وأن يكون أقرب الى فلاديمير بوتين "حليف" ترمب.

نتنياهو يريد أن يدفع ترمب بالاتجاه الآخر، وهو الضغط العسكري على إيران ومشاركة إسرائيل في توجيه ضربة للبرنامج النووي

"ترمب الأول" كانت لديه مقاربة خاصة عن اللاعبين في الشرق الأوسط خصوصا إيران، تختلف كثيرا عن رهانات بايدن التي ورثها عن باراك اوباما. ارتكزت سياسة "ترمب الأول" على الانسحاب من الاتفاق النووي واتباع سياسة "الضغط الأقصى" وفرض العقوبات على طهران واعتبار الأسد "امتدادا عضويا" لـ "المرشد" الإيراني علي خامنئي. وهناك مؤشرات إلى نية ترمب الاستمرار في المقاربة ذاتها، لكنه أيضا تحدث في سبتمبر/ أيلول الماضي عن اهتمامه بالتفاوض مع طهران.كعادته يتأرجح بين الضربة والصفقة. يحصل هذا في قضايا أخرى في العالم مثل الصين وكوريا الشمالية.

هذا ليس كل شيء في الشرق الأوسط. على ترمب، مدمن الانسحابات العسكرية، ان يقرر ما إذا كان سينفذ الاتفاق بين بغداد وواشنطن لسحب القوات من العراق في خريف العام المقبل إلى أربيل، ثم الانسحاب الكلي في السنة اللاحقة، وعليه أن يقرر مصير قواته شمال شرقي سوريا، ومن سيملأ الفراغ: طهران، موسكو، أنقرة، أم دمشق.

كما هو الحال بالنسبة إلى "حل الدولتين"، فإن نتنياهو الذي انتقل مع خامنئي من "حرب الظل" الى المواجهة المباشرة، يريد أن يدفع ترمب، الانعزالي والمنسحب من الشرق الأوسط والحروب الطويلة، بالاتجاه الآخر وأن يخوض معه الحرب بأدواته، أي الضغط العسكري على إيران ومشاركة إسرائيل في توجيه ضربة للبرنامج النووي. رهانه في ذلك على سوابق ترمب في المنطقة، فقد وجه ضربتين عسكريتين للقوات السورية في 2017 و2018 وأمر باغتيال قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني في بغداد بداية 2020.

هذه وصفة لما يمكن أن تشهده الأسابيع المقبلة. مبادرات كثيرة لكنها حذرة. خليط بين التحرك والانتظار، بين خلق وقائع جديدة والجلوس على الثوابت. اختبارات وخيارات في انتظار "ترمب الثاني" الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأميركية.

font change