سينمائيون استلهموا لوحات تشكيلية في أفلامهم

أبرزهم فيم فيندرز الذي جعل إدوارد هوبر قرينه الإبداعي

AFP
AFP
زوار يتأملون نسخة من لوحة "صقور الليل" للفنان الأميركي إدوارد هوبر.

سينمائيون استلهموا لوحات تشكيلية في أفلامهم

يُحسب للفن التشكيلي عراقته تاريخيّا إذا ما قورن بفن السينما، ومن البداهة القول باستقلالية كل منهما عن الآخر، مع تأكيد المشترك البصري الدامغ بينهما، بخاصة الخلق السينمائي الذي راكم أعمالا فنية باعتماد لوحات معروفة، فما يسترعي نباهة التلقي أمام الاشتباك الإبداعي للفنّين، وعلى نحو أشسع، توظيف العمل السينمائي للأثر الفني التشكيلي بوجوه متعدّدة، أوضحها مثالا أن تتأسس مشاهد أو لقطات سينمائية على لوحات تشكيلية.

حينما يلتفت العمل السينمائي في مشهديته إلى استثمار اللوحة لصالح إبداعه البصري، لا يقف عند حدود الاقتباس الأفقي أو الاستنساخ البارد، بل يعيد خلقها بالطريقة العمودية التي تغدو سينمائيا أثرا فنيا مغايرا، فاللوحة تغادر أفقها التشكيلي لتصير أخرى، أبدع وأغرب مما كانت عليه قيد إطارها البكر، متجددة في مدار بصري ثان، يدفع بحيواتها الطارئة إلى مآلات متعدّدة من التذوق والتأويل وإنتاج المعنى وفق خوارزميات بصرية متحولة.

أحلام كيروساوا

أوّل ما يبرق في الذهن حينما نصادف حكيا عن علاقة السينما بالفن التشكيلي، هو فيلم "أحلام" للياباني أكيرا كوروساوا، تحديدا عندما يعتمد المشهد اللوحة كخلفية مبتكرة، ونلفي في الحلم الخاص بفان غوغ ضمن الفيلم المشار إليه، المادة السينمائية المدهشة، حينما تتحوّل لوحات تشكيلية فاتنة إلى واقع بصري تخييلي سينمائيّا، بدءا بالجسر، وانتهاء بالغربان في حقل القمح. لا يكتفي أكيرا كوروساوا في مخاطرته بأن يحوّل عالم فان غوغ السحري إلى أثر سينمائي مذهل، بل يسافر بنا داخل مخيلته البصرية، اللوحة تلو الأخرى، بطريقة يتطابق فيها المشهد السينمائي مع شعرية الحلم.

لا نكاد نفصل بين اللوحة والمشهد السينمائي، بين فان غوغ وأكيرا كوروساوا، إلا بالروح العارمة التي ينفخها المخرج في عمل الفنان التشكيلي، وكأن رياحا سحرية تعبر اللوحة فتوقظها من نومها المستغرق لتغدو يقظة أكثر إدهاشا ولو على سبيل الحلم. هذا ما ينجح المشهد الأخير للغربان في حقل القمح به في إيقاظنا نحن الآخرين كمستغرقين في الحلم، ويلفتنا إلى انجرافنا في مدار المشهد السينمائي حدّ التماهي مع غرابته، دون نسيان تواطئه الفني مع جماليات عوالم فان غوغ الذي يشخص دوره المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي بأناقة ولذوعية.

يحول كوروساوا لوحات فان غوغ إلى واقع بصري تخييلي سينمائيّا، بدءا بالجسر، وانتهاء بالغربان في حقل القمح

من الشائع عن المخرج أكيرا كوروساوا أن أسلوبه في تصوير المشاهد يحتكم مسبقا إلى الرسم، ملتزما في مجمل أفلامه تخطيط المشاهد ورسمها أوّلا قبل أن يشرع في تصويرها، والبليغ في هذه الطريقة من العمل ما يضيئه عن تجاذب القطبين بين السينما واللوحة، والفيلم أعلاه يفشي أسرار مطبخ هذه العلاقة الهلامية.

"سانشيرو سوغاتا" للمخرج أكيرا  كوروساوا.

بعد فيلم "أحلام" لأكيرا كوروساوا سنصادف لوحة أخرى لفان غوغ "مدار السجناء"، اعتمدها المخرج الأميركي ستانلي كيوبريك في فيلمه الشقيّ "البرتقالة الآلية" الذي عانى ويلات سطوة الرقابة عبر سيرورة عرضه.

ولعلّ ألمع مخرج ضاهت إبداعية مشاهده السينمائية اللوحة التشكيلية هو الروسي أندره تاركوفسكي، ومع ذلك فقد اعتمد هو الآخر لوحات في جمالية مشاهده، ومنها فيلمه "المرآة" الذي استلهم لوحة "الصيادون في الثلج" لبيتر بروغل الأكبر.

هوبر وفيندرز

لوحات الفنان التشكيلي الأميركي إدوارد هوبر، هي الأكثر حضورا كخلفية إيهامية في تاريخ السينما، حدّ أن المخرج الألماني فيم فيندرز ولع به الى درجة أصبح قرينا إبداعيا، لا في توظيف آثاره التشكيلية ضمن أعماله السينمائية، كما في فيلميه "باريس، تكساس" و "نهاية العنف"، بل خصّص له فيلما مفردا عام 2020 تحت عنوان "شيئان أو ثلاثة أعرفهما عن إدوارد هوبر".

"نهاية العنف" للمخرج الألماني فيم فيندرز.

مع انتشار ظاهرة أفلام الجريمة والغموض ذات المنحى الأسود بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت في أعمال إدوارد هوبر الذخيرة الفاتنة لكنوز خرائط الليل، كأنما هذا الفنان التشكيلي المدهش خُلق بإفراد لهذا النوع السينمائي اللافت، أو الفيلم الأسود ولد من التخييل القصصي للوحاته بالأحرى.

AFP
المخرج الألماني فيم فيندرز يتحدث على المسرح خلال حفل الختام في الدورة الـ77 لمهرجان كان السينمائي في 25 مايو 2024.

فما من لوحة تنتصر للعزلة، للضوء، للرماد، لجزيئة من هندسة الفضاء العاتم، حانة أكان أو محطة أو فندقا أو قطارا... إلا وتضمر حكاية بوليسية، لغزية جريمة مفترضة، مصائر إنسانية سوداوية، صمتا على أهبة انفجار بركاني جارف العواقب، تلصصا من زوايا هامشية تكتنز في رصدها قلب المشهد الكلي،. وبذا، فهي لم تولد وحسب لتنزوي إلى ظلالها في معارض ومتاحف بعينها، بقدر ما ولدت لتصنع حيوات سينمائية منذورة لمخرجين يحسنون الإنصات الى خام الحكاية بنظرتهم المنزلقة إلى مراتعها الملغومة في المناطق الجحيمية الخفية للوحة.

لم تولد لوحات هوبر لتنزوي إلى ظلالها في معارض ومتاحف بعينها، بقدر ما ولدت لتصنع حيوات سينمائية منذورة لمخرجين يحسنون الإنصات

أسطع دليل لهذا المنحى المركب، ما قام به المخرج الأميركي أبراهام بولونسكي حين اصطحب مصوره جورج بارنز إلى معرض إدوارد هوبر قائلا: "على هذا النحو أطمح أن يبدو فيلمنا"، ويقصد فيلمه "قوة الشر" 1948.

وهذا ما يضاعفه المخرج فيم فيندرز حينما يفصح أنّ لوحات إدوارد هوبر محض مشاهد من أفلام لم تُنجز أبدا، متسائلا أمام كل لوحة: ما القصة التي تبدأ هنا؟ وماذا سيحدث لهذه الشخصيات في اللحظات الموالية؟

AFP
لوحة "شوب سوي" لإدوارد هوبر في دار "كريستيز" بباريس.

هذا التأثير نلفي له صدى مسبقا لدى المخرج الأميركي ألفرد هيتشكوك أيضا، خاصة في فيلمه "النافذة الخلفية"، وأكثر من ذلك جسّد لوحة البيت عند السكة في فيلم "سايكو"، ولدى المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، كما في فيلم "نقطة زابريسكي"، ولدى المخرج الأميركي ديفيد لينش، كما في فيلمه "المخمل الأزرق".

تأثيرات أخرى

لاحقا سيستعير المخرج الأميركي بروس مالموث لوحة "صقور الليل" لفيلمه الشهير  بالعنوان نفسه، وسيغدو هذا الفيلم ملهما للبريطاني ريدلي سكوت في عمله السينمائي "بلايد رانر" (1982) المصنف ضمن نزعة الخيال العلمي مع استمزاج منحى جماليات الفيلم الأسود.

AFP
زوار يتأملون أعمال فان غوغ خلال الافتتاح الرسمي لمقر "كريستيز" في هونغ كونغ في 20 سبتمبر 2024.

فيما أعاد المخرج النمساوي غوستاف دويتش تشخيص لوحات هوبر في فيلم "شيرلي، رؤى عن الواقع"، ساردا قصة امرأة ترصد أميركا القرن العشرين سياسيا واجتماعيا وثقافية عبر يومياتها القلقة. الفيلم يضيء 13 لوحة هوبرية كاستعادة جمالية يحتوي أثرها التشكيلي لصالح الأثر السينمائي.

سبق للمخرج فيم فيندرز أن أوجز فرادة أعمال هوبر في كتابه حول بول سيزان وتأملات حول فنانين آخرين: "يمكن أخذ جميع لوحات إدوارد هوبر محمل فيلم واحد عن أميركا".

هذا ما يضاعفه المخرج فيم فيندرز حينما يفصح أنّ لوحات إدوارد هوبر محض مشاهد من أفلام لم تُنجز أبدا

بالتأثير الخلاق نفسه، أثْرَتْ لوحات الفنان السوريالي البلجيكي رينه ماغريت الفن السينمائي ذي المنحى الغامض، الإيهامي والمخادع بصريا، كما في فيلم "طارد الأرواح الشريرة" للمخرج الأميركي ويليام فريدكن الذي يستلهم لوحة "إمبراطورية النور"، وفيلم "قضية توماس كراون" للمخرج الأميركي جون مكتيرنان الذي يستلهم لوحة "ابن الانسان". وكذلك فيلم "عرض ترومان" للمخرج الأوسترالي بيتر وير الذي استلهم لوحة "هندسة معمارية في ضوء القمر".

AFP
رئيس أكاديمية الصور المتحركة سيد جانيس وكازوتاكا هوري يعرضان الأعمال الفنية المقدمة للأكاديمية خلال تكريم أكيرا كوروساوا.

لا يمكن الحديث عن المشهد السينمائي في علاقته باللوحة التشكيلية دون الإشارة إلى أفلام ويس أندرسون المهووس باللعب البصري، وتشظية بنية العمل السردي إلى مجزوءات تنتصر لبلاغة التناظر وشعرية التقابل، هاربا بالأبعاد غير الواقعية إلى أقصى الهلام. هذا ما يمثله اشتغاله على لوحة أليكس كولفيل، "جزيرة الأمير إدوارد" في فيلمه "مملكة مونرايز".

ما يفعله العمل السينمائي إذ يلتفت إلى لوحة عظيمة كيما يشتغل عليها كخلفية في أحد مشاهده، هو أن يضخ فيها حركية حياة جديدة ويجعل كيمياءها تشتعل خارج إطاريتها الساكنة صوب واقع تخييلي متماوج. فالمشهد السينمائي واللوحة التشكيلية يتفاعلان ويتكاملان، ضمن حوارية تجعل من قلق الأشياء طي غموضهما معا، مصدرا متواصلا لإنتاج المعنى، سواء بنفي هذا لذاك، أو مضاعفة الوجود من ذاك لهذا، وفي كلتا الحالتين، الأثر البصري يغتني ويتشعب ويصخب منزاحا إلى اللانهائي.

font change

مقالات ذات صلة