يُحسب للفن التشكيلي عراقته تاريخيّا إذا ما قورن بفن السينما، ومن البداهة القول باستقلالية كل منهما عن الآخر، مع تأكيد المشترك البصري الدامغ بينهما، بخاصة الخلق السينمائي الذي راكم أعمالا فنية باعتماد لوحات معروفة، فما يسترعي نباهة التلقي أمام الاشتباك الإبداعي للفنّين، وعلى نحو أشسع، توظيف العمل السينمائي للأثر الفني التشكيلي بوجوه متعدّدة، أوضحها مثالا أن تتأسس مشاهد أو لقطات سينمائية على لوحات تشكيلية.
حينما يلتفت العمل السينمائي في مشهديته إلى استثمار اللوحة لصالح إبداعه البصري، لا يقف عند حدود الاقتباس الأفقي أو الاستنساخ البارد، بل يعيد خلقها بالطريقة العمودية التي تغدو سينمائيا أثرا فنيا مغايرا، فاللوحة تغادر أفقها التشكيلي لتصير أخرى، أبدع وأغرب مما كانت عليه قيد إطارها البكر، متجددة في مدار بصري ثان، يدفع بحيواتها الطارئة إلى مآلات متعدّدة من التذوق والتأويل وإنتاج المعنى وفق خوارزميات بصرية متحولة.
أحلام كيروساوا
أوّل ما يبرق في الذهن حينما نصادف حكيا عن علاقة السينما بالفن التشكيلي، هو فيلم "أحلام" للياباني أكيرا كوروساوا، تحديدا عندما يعتمد المشهد اللوحة كخلفية مبتكرة، ونلفي في الحلم الخاص بفان غوغ ضمن الفيلم المشار إليه، المادة السينمائية المدهشة، حينما تتحوّل لوحات تشكيلية فاتنة إلى واقع بصري تخييلي سينمائيّا، بدءا بالجسر، وانتهاء بالغربان في حقل القمح. لا يكتفي أكيرا كوروساوا في مخاطرته بأن يحوّل عالم فان غوغ السحري إلى أثر سينمائي مذهل، بل يسافر بنا داخل مخيلته البصرية، اللوحة تلو الأخرى، بطريقة يتطابق فيها المشهد السينمائي مع شعرية الحلم.
لا نكاد نفصل بين اللوحة والمشهد السينمائي، بين فان غوغ وأكيرا كوروساوا، إلا بالروح العارمة التي ينفخها المخرج في عمل الفنان التشكيلي، وكأن رياحا سحرية تعبر اللوحة فتوقظها من نومها المستغرق لتغدو يقظة أكثر إدهاشا ولو على سبيل الحلم. هذا ما ينجح المشهد الأخير للغربان في حقل القمح به في إيقاظنا نحن الآخرين كمستغرقين في الحلم، ويلفتنا إلى انجرافنا في مدار المشهد السينمائي حدّ التماهي مع غرابته، دون نسيان تواطئه الفني مع جماليات عوالم فان غوغ الذي يشخص دوره المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي بأناقة ولذوعية.