كرسي... طاولة... حرية

"حوريات" ترنيمة الأنوثة والحرية والشجاعة

كرسي... طاولة... حرية

من أهم صفات الروائي أن يكون شجاعاً، وأصف الروائي الفرنسي الجزائري كمال داود صاحب رواية "حوريات"، بالروائي الشجاع، خاصة بعد أن توفر لديه الثالوث الإبداعي (كرسي. طاولة. حرية) وبلا شك إنها أهم ما يحلم به أي كاتب جاد وطموح في العالم.

كمال داود في روايته "حوريات"، يكشف بقوة عن طموحه التأليفي الكبير، ويواجه شيطانه، ويطرد مخاوفه، فلم يعد يرغب بالصمت حول حرب أهلية خاضتها بلاده وأصبحت من المحرمات بموجب قانون المصالحة الوطنية، ومُنع الحديث عنها أو الكتابة، لأنها حرب أهلية منسية بقرار، فباتت غير مرئية، كي لا يتم تأجيجها بين أناس تصالحوا، وهي من القرارات الإدارية المسالمة في الأوطان، إلا أن الذاكرة لدى الروائي والباحث والمؤرخ... لا تعترف بالمنع، ليس تمرداً، بل هو فقط شعور القول بالتدوين، وبأمانة، لتلك الجراح، كي يدون تأريخاً أو سرداً، تُودع على رفوف المكتبات من أجل المعرفة والدرس.. للأجيال القادمة.

وها هي رواية "حوريات"، كتبها كمال داود بمشاعر عالية، وعقل يفكك الفكرة، لتأتي روايته متعددة الألحان، وكأنه يبني قبراً جديداً لضحايا الحرب الأهلية، وهم فوق الـ200 ألف ضحية خلال عشر سنوات (1990–2000)، والتي سميت بالعشرية السوداء، فكيف لمؤلف "الحوريات" أن يدفن هذا الكابوس وحفرة نارية سقطت فيها أرواح بريئة، وأحداث كان يغطيها يومياً وهو صحافي، بقيت جاثمة على صدره، وضغطت في أعماق الذاكرة، فلم تعد الفكرة ترغب في الهروب، ولا أن تفلت منه.

كل ما يفعله الروائي طوال السرد هو مقاومة النسيان، باستحضاره المطلق، متجاوزاً شجاعته، وكأنه يكتب صفحة من تاريخ مقطوع 

واليوم "حوريات" كتاب لا نقرأه، بل نستمع له، وتلتصق الأذن بالصفحات، وإلا كيف يتوتر القلب؟ وتتأهب جميع الحواس؟ لرواية ذات تأثير عميق منذ الصفحة الأولى، وجدية مستمرة.. والغريب في الأمر القوة الغنائية السردية والمظهر الجمالي، أتت في سرد بكثافة عاطفية عالية، ومشاهد متقنة في رحلة الجحيم اللانهائي، يراها البعض رواية صعبة للغاية حيث لا ترفيه، بل عنف وعاطفة، والحقيقة أنك كلما تقدمت بها، وكلما رغبت في المزيد من الحياة في الحاضر والمستقبل، ظهرت أشباح الموتى ليسهروا معك بين السطور.  
ومن تجليات الرواية أيضاً أنها تتحول إلى قصيدة للنساء، منذ البطلة التي تم قص أحبالها الصوتية ونجاتها، يتحول السرد إلى بعض المرونة، وكأنها مرثية حميمة وتذكار.. وكل ما يفعله الروائي طوال السرد هو مقاومة النسيان، باستحضاره المطلق، متجاوزاً شجاعته، وكأنه يكتب صفحة من تاريخ مقطوع. يأتون جميعاً أولئك الموتى من قبورهم، وتصبح اللغة الشعرية هلوسة، أو كلمات لا يمكن التنبؤ لها وهي تتدفق بتهور... ومع ذلك هو عمل أدبي رفيع المستوى، مبني على تدفق فكري، ومونولوج داخلي، ولقاءات مع شخصيات لا تنسى، ليثير الذكريات. 
يكتب كمال داود بالفرنسية، ويعتبر اللغة العربية مؤطرة بالأيديولوجيات والمحظورات الكثيرة، خاصة في هذا الزمن، وهو رأي يجعله يؤكد انعدام الهوية العربية بعد قرون من قوتها، سواء اللغة أو الهوية، ليهاجر إلى فرنسا ولغتها، ويصبح مواطناً رسمياً فيها منذ عام 2020، ويتفرغ للأدب ويكتب هذه الترنيمة الفائزة بجائزة الغونكور الفرنسية قبل أيام. 
رواية "حوريات" هي ترنيمة الأنوثة والحرية والشجاعة، لنساء مقاومات وفتيات صغيرات من الجزائر.. ترنيمة ممنوعة في بلاد كثيرة، ليصبح داود بعد الفوز، من الأدباء الذين باتت حياتهم مهددة. إذن الأدباء المهددون قصة تاريخية لن تنتهي، فهم فقط يبحثون عن كرسي وطاولة وحرية.

font change