في "معا في الجنون" واكين فينيكس يمتلك "الجوكر" ويتوّج نفسه الأفضلhttps://www.majalla.com/node/322985/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B9%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%83%D9%8A%D9%86-%D9%81%D9%8A%D9%86%D9%8A%D9%83%D8%B3-%D9%8A%D9%85%D8%AA%D9%84%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%88%D9%83%D8%B1-%D9%88%D9%8A%D8%AA%D9%88%D9%91%D8%AC-%D9%86%D9%81%D8%B3%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D8%B6%D9%84
خاب ظنّ كثر، من مشاهدين ونقاد، بالنسخة الثانية من "جوكر"، المعنونة "معا في الجنون"، وذهب بعضهم إلى حدّ وصمه بالفشل التام والسقوط المريع لمخرجه تود فيليبس (وكاتبه مع سكوت سيلفر) وممثليه الرئيسيين واكين فينيكس وليدي غاغا. لعلّ خيبة الأمل هذه نابعة في المقام الأول من طول الانتظار (صدر الجزء الأول في 2019)، ومن جبل التوقعات الذي تراكم حول ما قد يأتي به الجزء المكمّل، لتأتي النتيجة بحسب هؤلاء باهتة مفتقرة إلى التماسك، فاقدة للرؤية، خائنة لشخصية "الجوكر"، والأهم من كلّ هذا لعنصر الإدهاش الذي رافق الجزء الأوّل وسوّر توقّعات الجزء الثاني.
غير أن كلّ هذا يبدو آتيا من خارج الفيلم نفسه أو من هوامشه، وليس من الفيلم نفسه ولا من صنّاعه. فالفيلم كما ظهر أخيرا، لا ينشغل كثيرا بالإبهار والإدهاش ولا بالمشهديات الهوليوودية الضخمة، ولا بالجرعات الكافية من الجنون، الذي يعني هنا، بالنسبة إلى العيون المترقّبة، قدرا هائلا من العنف مصحوبا بالسيونوغرافيات المدينية المعتادة لهذا العنف.
من يبحث عن رفع منسوب الأدرينالين لديه لن يجده في هذا الفيلم، والأرجح أن يسيء قراءته والتفاعل معه من البداية وحتى النهاية الدراماتيكية، التي جاءت لتتوّج – بالنسبة إلى المستائين – سلسلة خيبات الأمل تلك. ربما كانت الهالة الإنتاجية التي استبقت عرض الفيلم، لأغراض تجارية ترويجية، مسؤولة بالقدر ذاته عن سوء التلقّي هذا. صدمة كهذه لطالما رافقت إنتاجات سينمائية غلفها القدر ذاته من الترقّب، ولعلنا نجد في "العراب" بجزءيه الثاني والثالث أو "بلايد رانر 2"، شيئا من هذا القبيل.
أيّ "جوكر" نريد
يتوقّف تلقي "معا في الجنون" إلى حدّ كبير، على أيّ نسخة من "الجوكر" نريد أن نرى. بالنسبة إلى عشاق الجزء الأول من "الجوكر" (2019)، الذي يفترض أنه يقدّم تفسيرا خاصا لأصل هذه الشخصية ونشأتها وتطورها، انطوت الشخصية على قدر كبير من الهالة التاريخية، فهو عصابي، سايكوباتي، كاره للمجتمع، ميّال إلى تدميره، وهذا المنحى الذي مضت به الشخصية، تقبّله كثر ممن يألفون قصة "الجوكر" من عوالم "دي سي كوميكس" كما ظهرت للمرة الأولى عام 1940 على يد الثلاثي بيل فينغر وبوب كاين وجيري روبنسون، أو من المسلسلات والأفلام التي جاءت بعد ذلك، كما تقبّله من يتعرفون الى هذه الشخصية للمرة الأولى.
الفيلم لا ينشغل كثيرا بالإبهار والإدهاش ولا بالمشهديات الهوليوودية الضخمة ولا بالجرعات الكافية من الجنون
بدا الجزء الأول تمهيديا لما يمكن أن تتطور إليه الشخصية، وللجنون الذي يمكن أن تصل إليه في أجزاء تالية من السلسلة، وقد تمكن واكين فينيكس من تقديم جوكر مقنع تماما للفئتين، لكنّ ما يغيب عن المتمسّكين بشخصية "الجوكر" الفانتازية المنتمية إلى عالم "الكوميكس"، هو أن الجوكر (والفيلم برمته) لا يقوم على هذه الشخصية حصرا، بل لا مبالغة في القول إنه يتأسّس بصورة أكثر جذرية على شخصية آرثر فليك، التي تطوّر منها "الجوكر"، أي الفتى الذي يعاني من الإساءة في منزله ومن التنمّر في مجتمعه، والذي لا يطمح إلا لأن يكون مقبولا كفنان كوميديّ وإنسان.
بالتالي، ليس من "خداع" هنا، أعني في الجزء الثاني، ولا انحراف بالشخصية إلى مكان آخر كما رأى البعض. في الجزء الأول رأينا ظهور ونمو شخصية آرثر فليك وصولا إلى "الجوكر"، وفي الجزء الثاني رأينا مصير آرثر فليك و"الجوكر" معا، انسجاما مع الخطّ السردي الذي أرساه الجزء الأول وليس انقلابا عليه. ما يبدو مربكا هنا، هو خيار السينما الغنائية الذي انتهجه صنّاع الجزء الثاني. هذا النوع، ومع استثناءات قليلة (مثل "كلّ هذا الجاز") يغلّف الفيلم بطابع ملوّن متحرّك، والشخصيات بقدر من المرح والبهجة، وهذا كله ينزع الفيلم وشخصياته من الطابع (والمزاج) القاتم الذي استقرّت عليه شخصية "الجوكر" منذ زمن بعيد. العنصر الثاني الذي ربما يكون تسبّب بهذا التلقّي، هو تعدّد الأنواع السينمائية التي يتبنّاها ويجاور أو يوفّق بينها، من "سينما الدراما النفسية" إلى "سينما المحاكم" إلى "الفيلم الغنائي أو الموسيقي"، وصولا إلى النوع المتوقع، ولكن الغائب فعليا، وهو سينما الفانتازيا والأبطال الخارقين.
أما العنصر الثالث المربك فظهور ليدي غاغا بشخصية "هارلي كوين"، فإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة كونها مغنيّة في الأساس، لبدا حضور الغنائية في الفيلم في خدمة هذا الأمر لا العكس، علما أن جميع اللوحات الغنائية والراقصة أو التعبيرية التي تظهر بها، تنتمي غالبا إلى عالم آرثر فليك وإلى وجهه الآخر (الجوكر) أحيانا. فإذا ما أضفنا إلى ذلك عنوان الفيلم "معا في الجنون"، لاستقرّ الإيحاء والترقب على مشهدية عاصفة مغلّفة بالعنف والدمار، وليس على ما قدّمه الفيلم من قصة حبّ رومانسية ملتبسة بين رجل مكسور يريد أن يكون إنسانا عاديا ومقبولا ومحبوبا (آرثر فليك) وامرأة تسعى إلى الأسطورة والفانتازيا (الجوكر)، وبين الحدّين يتأرجح الفيلم، وصولا إلى نهاياته التي أكّدت أننا لسنا أمام نسخة جديدة من "الجوكر" بل أمام النسخة التكريسية لشخصية آرثر فليك.
ما يغيب عن المتمسّكين بشخصية "الجوكر" الفانتازية، هو أن الفيلم لا يقوم على هذه الشخصية حصرا، بل يتأسّس بصورة أكثر جذرية على شخصية آرثر فليك
قسوة النظام
إذن، "معا في الجنون" هو بالفعل استمرار ونمو للجزء الأول من الفيلم وليس افتراقا عنه أو "خيانة" لوعوده. في النهاية نحن أمام شخص قتل في لحظات غضب وجنون خمسة أشخاص، ولم يروّع مدينة بأكملها ولا قام بحيل سحرية تنمّ عن الذكاء الشرير المطلق، كما نجد في الكثير من قصص "دي سي" الأصلية عن "الجوكر". وهذا أمر منطقيّ تماما إذا ما أخذنا في الحسبان أن نقيض "الجوكر" أي "باتمان"، غائب عن السردية برمتها، وبالتالي فإن فكرة المواجهة بين "البطل" و"البطل المضاد" غير قائمة في الأصل.
يضاف إلى ذلك، أن العناصر الخارقة الموجودة في قصص "دي سي" المصورة، بما فيها أن "الجوكر" اتخذ هذا الشكل بسبب سقوطه في محلول كيميائي تسبّب بابيضاض بشرته واخضرار شعره واحمرار شفتيه (ليصبح الجوكر)، ففي نسخة تود فيليبس تختفي حتى المدينة المتخيلة، غوثام، التي ألفناها سابقا، ونجد أنفسنا في نيويورك الفعلية وليس في صورة متخيلة عنها، ولعله ليس من المصادفة أننا في الجزء الثاني، خلال مشهد إعلان الحكم النهائي على آرثر فليك، نسمع اسم نيويورك لا غوثام.
نحن إذن أمام عالم واقعي تماما، أما لمحات الفانتازيا الوحيدة، فنجدها في المقاطع الغنائية، التي ترتفع فيها الشخصيات أو تبتعد، عن واقعها إلى واقع حلمي سحريّ. عدا ذلك، ما يقدّمه الفيلم هو القسوة الخالصة، قسوة النظام السياسي والشرطي والاجتماعي والقضائي، الذي يطحن الأفراد ولا يترك لهم فسحة للخلاص. القاتم هنا ليس شخصية "الجوكر" بل الواقع الذي ينتمي إليه آرثر فليك، السجين المجرّد من كلّ أسباب القوة وأشكال الكبرياء. حين يقرّر فليك، مدفوعا بالعالم الساحر الذي رسمته له "هارلي كوين"، أن يصبح "الجوكر" حقا، وأن يحقّق لها تلك الصورة الفانتازية المستحيلة، فإنه سرعان ما يصطدم بالنظام الذي جعله أقرب إلى الشبح منه إلى الإنسان. فهذا النظام يحرص طوال الوقت على أن يبقي "الجوكر" في حدود المزحة أو النكتة، أي أسير صورة كاريكاتورية، صورة المهرج المضحك، أما حين يبدي شيئا من القوة والاعتداد بالنفس، فإن النظام ،متجسّدا في رجال الشرطة الأشدّاء، ينبري فورا إلى معاقبته وتذكيره بحدوده بوصفه مجرد فرد ضعيف معزول يمكن تحطيمه في أيّ وقت. وهكذا فإن الشخصية التي تنتصر (تظهر) هي صورة آرثر فليك، ضحيّة تنمّر النظام الأبديّ، وليس صورة "الجوكر" الذي ينتصر على هذا النظام.
ينتقل الفيلم بفضل واكين فينيكس من كونه سردا مسليا حول شخصية كاريزماتية تتسلّى بنشر الشرّ، إلى كونه بيانا احتجاجيا ضد مظالم الحياة
يدفعنا "معا في الجنون" إلى تأمّل جوهر الشرّ، وإلى الأسئلة التي لطالما شغلت الفلسفة والآداب والفنون، هل من نسميهم أشرارا هم كذلك بالفطرة والطبيعة، أم هم نتاج شرّ أكبر وأشمل وأشدّ فتكا وهيمنة؟ تود فيليبس في تفسيره الخاص لـ"الجوكر" ينحو المنحى الثاني، فلا تصبح الحكاية حكاية احتجاج على السلطة وتمرّد على المجتمع ومؤسساته، بل حكاية القوة الطاغية والجبروت الهائل الذي يمثّله النظام. ليس من مخرج هنا، ولا فسحة للحلم. لا بدّ هنا من الإشادة بأداء واكين فينيكس المذهل الذي بالنسبة إليّ مضى تصاعديا في الجزء الثاني، وبدا أكثر قوة وإقناعا حتى من أدائه في الجزء الأول الذي أكسبه جائزة "أوسكار"، فسواء في تعبيرات وجهه، أو هزالة جسده، أو طريقة مشيه وحركته، أو نظراته أو ضحكه الهستيريّ، استطاع فينيكس منح نسخته عن "الجوكر" ملامح نهائية صلبة، لا بوصفه السايكوباتي الساخر، بل بوصفه المأسوي المهزوم الذي لا يجد مخرجا من ورطاته الكثيرة.
هذا، في نهاية المطاف، ما يمنح "معا في الجنون" قوّته العظمى، فهو ينتقل بفضل واكين فينيكس من كونه سردا مسليا يتمحور حول شخصية كاريزماتية تتسلّى بنشر الشرّ، إلى كونه بيانا احتجاجيا، ليس ضد مظالم النظام والمجتمع فحسب، بل ضدّ مظالم الحياة نفسها.