رحيل راتب الشلاح... لماذا لُقّب بـ "شهبندر" تجار دمشق؟
قصة انتقال زعامة العائلة والتجار من الأب إلى الابن وعلاقتهما مع الرئيسين حافظ وبشار الأسد
رحيل راتب الشلاح... لماذا لُقّب بـ "شهبندر" تجار دمشق؟
توفى امس الدكتور راتب الشلاح، عميد تجار دمشق، عن عمر ناهز 92 عاماً. تاريخه وتاريخ أسرته التجارية يبقى ممزوجاً مع تاريخ مدينتهما العريقة وفي طياتها قصص كثيرة عن تجار الشّام في القرن الماضي. في السنوات التي سبقت الحرب ما كان لصحافي أجنبي أن يمر بدمشق دون أن يسعى جاهداً للقاء رئيس غرفتها التجارية و"شهبندر" تجارها، المتضلع من اللغة الإنكليزية والمشهود له بسعة علمه وخبرته الاقتصادية. كان طويل القامة، كريماً، وفي جعبته أحلام كبيرة لبلاده وطموحات في بناء اقتصاد متين ومزدهر عبر التجارة والصناعة والمصارف، وهي أحلام وطموحات انهارت وذهبت أدراج الرياح مع اندلاع الحرب السورية سنة 2011.
لا يمكننا فهم شخصيته اليوم ومعرفة دوره في تاريخ سوريا الحديث من دون الدخول أولاً في تاريخ أسرته، وتحديداً في سيرة أبيه الحاج بدر الدين الشلاح، الذي سبقه في الزعامة التجارية حتى وفاته سنة 1999.
ولد الشلاح الأب في عائلة ميسورة من الطبقة الوسطى سنة 1905 وعمل في سن مبكرة مع أبيه الحاج سليم الشلاح، الذي كان عضواً فاعلاً في غرفة دمشق التجارية، وهي الأقدم والأعرق في البلاد، ويعود تاريخ تأسيسها إلى ثلاثينات القرن التاسع عشر، وعندما دخلها الحاج بدر الدين خلفاً لأبيه سنة 1942 كان قد مرت عليها سنوات طويلة من الحكم التركي، والحرب العالمية الأولى والاحتلال الفرنسي، وكانت الحرب العالمية الثانية في أوجها. عمل بدر الدين الشلاح في التجارة مع السعودية ومصر والسودان والعراق، ونال شهرة واسعة في الأربعينات كأحد مؤيدي رئيس الجمهورية شكري القوتلي. عُرف بأعماله الخيرية الواسعة ومنها بناء المساجد وإنشاء الجمعيات وتبرعه ببناء كامل لصالح الجيش السوري أثناء أسبوع التسلح الذي دعا إليه الرئيس القوتلي في منتصف الخمسينات.
تعرض الشلاح الأب لضربة قاسية بسبب السياسات الاشتراكية التي فُرضت على الاقتصاد السوري في زمن الوحدة مع مصر، ومنها قانون الإصلاح الزراعي الصادر عن الرئيس جمال عبد الناصر في سبتمبر/أيلول 1958 وقرارات التأميم
كالكثير من أقرانه وأبناء جيله، تعرض الشلاح الأب لضربة قاسية بسبب السياسات الاشتراكية التي فُرضت على الاقتصاد السوري في زمن الوحدة مع مصر، ومنها قانون الإصلاح الزراعي الصادر عن الرئيس جمال عبد الناصر في سبتمبر/أيلول 1958 وقرارات التأميم التي تلته في يوليو/تموز 1961، التي طالت المصارف السورية الخاصة ومعها العديد من المصانع الكبرى.
العلاقة مع الرئيس حافظ الأسد
وفي 1 يناير/كانون الثاني سنة 1965 صدرت قرارات تأميم جديدة في عهد رئيس الدولة أمين الحافظ وأضرب تجار دمشق احتجاجاً. ردت الحكومة بتجميد نشاط غرفة التجارة لمدة أربع سنوات، فقدت خلالها أي دور حقيقي في الاقتصاد والمجتمع. وعندما تسلّم الرئيس حافظ الأسد الحكم سنة 1970 أعاد العمل بها وانتُخب بدر الدين الشلاح عضواً في مجلس إدارتها.
بعدها بسنتين انتُخب رئيساً للغرفة في 18 مارس/آذار 1972 وبقي في منصبه طوال عشر دورات متتالية الى عام 1993. شهدت مرحلته إعادة الاعتبار إلى القطاع الخاص السوري والسماح لشركات مساهمة بأن تعمل، ومنها "فندق الشام"، بعد عشر سنوات ونيف من تأمين سابقاتها في عهد الوحدة.
عندما اندلعت المواجهات مع حركة "الإخوان المسلمين" ودعت الجماعة إلى إضراب عام في أسواق دمشق مطلع الثمانينات، تمكن الشلاح من فك الإضراب ورد الرئيس الأسد الجميل بزيارته في مقر الغرفة في سوق الحريقة، وبات الشلاح ملاصقاً للرئيس السوري
وعندما اندلعت المواجهات مع حركة "الإخوان المسلمين" ودعت الجماعة إلى إضراب عام في أسواق دمشق مطلع الثمانينات، نزل الشلاح بنفسه إلى المتاجر وجال عليها بمعطفه الأبيض الطويل وطربوشه الأحمر الذي لم يفارقه يوماً، وأمر أصحابها بفتحها وعدم مناصرة "الإخوان" مهما كانت المغريات أو الضغوط. تمكن الشلاح من فك الإضراب، فرد الرئيس الأسد الجميل بزيارته في مقر الغرفة في سوق الحريقة، وبات الشلاح ملاصقاً للرئيس السوري، يصلي معه في عيدي الفطر والأضحى كل سنة، ممثلاً عن تجار الشّام.
انتقال زعامة العائلة والتجار من الأب إلى الابن
في سنة 1990، وضع بدر الدين الشلاح مذكراته في ثلاثة أجزاء حملت عناوين مختلفة وتضمنت صورا تذكارية له مع شخصيات عربية كبيرة، مثل الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز آل سعود والعاهل الأردني الحسين بن طلال ورئيس دولة الإمارات الشيخ زايد والرئيسين المصريين جمال عبد الناصر وأنور السادات، إضافة الى الرئيس الأميركي جيمي كارتر الذي زار مزرعة آل الشلاح في ريف دمشق بعد خروجه من البيت الأبيض وحلّ ضيفاً على الحاج بدر الدين. تقاعد الشلاح الأب من الغرفة التجارية سنة 1993 وانتخب نجله الدكتور راتب رئيساً.
كان الشلاح الابن يحمل شهادات علمية عليا وقد درس الاقتصاد في جامعة أوكسفورد البريطانية العريقة ونال شهادة الدكتوراه من جامعة بيركلي الأميركية، عكس أبيه، خريج الكتّاب ودروسها القرآنية في حارات دمشق القديمة. عمل راتب الشلاح بداية بشكل مستقل عن أبيه ودرّس في جامعة دمشق وفي جامعة بيروت الأميركية، وعندما أفلس سنة 1969 رفض أبوه دعمه مادياً لكي يعتمد على نفسه. وبعد سنوات قال له: "لو أنقذتك يومها لما أصبحت الرجل الذي أنت هو اليوم.".
عندما تولى الرئيس بشار الأسد الحكم سنة 2000، كبر دور راتب الشلاح مع الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته سوريا في حينها، والذي أدى إلى افتتاح مصارف خاصة وجامعات
دعا راتب الشلاح إلى تحرير الاقتصاد السوري من الإرث الاشتراكي القائم منذ ستينات القرن العشرين، والاستفادة من قانون الاستثمار الرقم 10 الذي أصدره الرئيس الأسد سنة 1991 وسمح بموجبه لرجال الأعمال بتحويل أموالهم من الخارج واستثمارها في سوريا، على أن تكون معفاة من الضرائب لمدة سبع سنوات، مع السماح لهم أيضاً بتحويل جزء من أرباحهم إلى الخارج. تدفق مال سوري وفير من الخارج ومعه مال من دول الخليج، وتحديداً بعد وقوف سوريا مع الكويت في حرب تحريرها من الاحتلال العراقي.
محاولة تحرير الاقتصاد السوري من الإرث الاشتراكي
وعندما تولى الرئيس بشار الأسد الحكم سنة 2000، كبر دور راتب الشلاح مع الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته سوريا في حينها، والذي أدى إلى افتتاح مصارف خاصة وجامعات، وصولاً إلى سوق خاص للبورصة (سوق دمشق للأوراق المالية) الذي انتخب الشلاح رئيساً لمجلس إدارته، إضافة الى كونه رئيساً لاتحاد غرف التجارة السورية ورئيساً لمجلس إدارة بنك سوريا والمهجر.
قاد الانفتاح الاقتصادي على العراق وشارك في كسر الحصار عن بغداد قبل الغزو الأميركي سنة 2003، وبقي في منصبه في غرفة التجارة لغاية عام 2008، يوم تقاعده بسبب تقدمه في السن ورغبة منه بفتح المجال أمام جيل جديد من رجال الأعمال والتجار. وعندما اندلع العنف في بلاده وبدأت صواريخ الهاون تتساقط على مدينته سنة 2012 غادر راتب الشلاح إلى بيروت ولكنه ظلّ يزور دمشق مرة واحدة في الأسبوع كل يوم أربعاء إلى أن أقعده المرض في أيامه الأخيرة.