العاصفة التي لم يمر بالفلسفة مثلها

الفلسفة التي يقبل بها الوضعيون يجب أن تكون علمية

العاصفة التي لم يمر بالفلسفة مثلها

مرت بي مقالة نُشرت في إحدى الصحف يبشر فيها الأستاذ الكاتب بموت الفلسفة، ويحيل إلى ستيفن هوكنغ، كأول من تحدث في هذه القضية. ومع كل التقدير لكل من يكتب ليُنير درباً، فإن الحديث عن نهاية الفلسفة يحتاج أولا وقبل كل شيء إلى قراءة تاريخ الفلسفة. هذا التاريخ العظيم، هو تاريخ الفكر عبر الألفيّات، واستيعابه بصورة جيدة تُكسِب المرء منهجية تَحْقيقية لا يجدها في مكان آخر، بالإضافة إلى ما تزوده به من معلومات.

تاريخ الفلسفة هنا يكشف عن خطأ إرجاع الأمر إلى ستيفن هوكنغ. ستيفن من أعظم علماء الفيزياء النظرية وعلم الكوزمولوجيا في القرن العشرين، لكنه ليس بفيلسوف. هو نفسه يقر بضعفه في الفلسفة، لكن ليس من الإنصاف تجريده من كل معرفة فلسفية، بل الواقع أن هوكنغ تلميذ بار لمدرسة الوضعية المنطقية التي نشأت في جامعة فيينا ولذلك سُميّت حلقة فيينا، في عشرينات القرن العشرين. وانتقل عدد من أعضائها إلى بريطانيا وأميركا مع تكشير النازي عن أنيابه. نتراجع إلى الماضي أكثر فنقول إن هذه المدرسة شبيهة بالوضعية التي أسسها أوغست كونت في القرن التاسع عشر فيمكن أن يكون هو أول داعية لقتل أم العلوم، بل يمكن إرجاع الدعوة تلك إلى زمن الفيلسوف الشكوكي ديفيد هيوم (توفي 1776) حين قال: "أينما وجدت كتاب ميتافيزيقا فألق به في النار"، والميتافيزيقا هي الفلسفة، على الصحيح. إذن التبشير بموت الفلسفة قديم، وأشدهم عليها هم الوضعيون المنطقيون الذين لم يروا لها وظيفة إلا إثارة الإشكالات أمام العلم الحديث لكي يحلّها.

مرت بالفلاسفة سنوات عصيبة عبر العصور فطوردوا ولوحقوا وقتلوا وأحرقوا وأحرقت كتبهم على الملأ، وعندما تولى جستنيان شؤون الإمبراطورية الرومانية قام بإغلاق أكاديمية أثينا للفلسفة سنة 529 على أساس أنها معارف وثنية (وهي حقا كذلك)، وأنه لا مكان في إمبراطوريته إلا للمسيحية. لكن الفلسفة لم تمر بصعوبة كالتي مرت بها مع الذين نقلوا المعركة إلى الأكاديميات وأروقة الجامعات ومقاعد الطلبة. سُمّوا بالوضعيين المنطقيين لأنهم حاولوا ربط اللغة بالتجربة، فاشتغلوا على صياغة الواقع الخارجي منطقيا، أي إن حاديهم للقبول والرفض هو المنطق.

مرت بالفلاسفة سنوات عصيبة عبر العصور فطوردوا ولوحقوا وقتلوا وأحرقوا وأحرقت كتبهم على الملأ

هدف الوضعيين كان التأسيس لعلم تجريبي موحّد تقوده الفيزياء، والميتافيزيقا عندهم لغو (كلام فارغ لا ينطوي على صدق ولا كذب) لأنه لا يمكن التحقق من صحة ما تدّعيه أو اختبارها بالتجربة، وهذه المقولة خاصة بالوضعية المنطقية فأوغست كونت لم يقل إن الميتافيزيقا لغو، بل قال إنها أقل وضوحا ولا حاجة لها.

والفلسفة التي يقبلون بها يجب أن تكون تحليلية، أي إنها لا تسعى لبناء نسق فلسفي جديد كما فعل الفلاسفة من أفلاطون إلى هيغل، بل تسعى لتحليل قضايا العلم تحليلا منطقيا (أو لُغويا عند بعضهم). يقصدون بالجملة التحليلية تلك التي يثبت صدقها بمقتضى معاني كلماتها فقط، دون الرجوع إلى العالم الخارجي. ويجب أن تكون علمية، أي أن تصير مثل العلم في الدقة في وصف العالم.

هذا هو غرضهم، يريدون فلسفة قريبة من العلوم الطبيعية والتجريبية، لكنهم مدوا نفوذهم لتطبيق منهج العلوم على الإنسان والعلوم الاجتماعية والنفسية والفلسفية، وغاب عنهم أن الإنسان يختلف، وهذه أكبر غلطاتهم.

والقضايا (الجُمل) ذات المعنى يجب أن تكون تحليلية أو تركيبية، ومعنى القضية هو منهج التحقق منها. أي إن الجملة التي يمكن الرجوع إلى الواقع المحسوس والتحقق منها هي وحدها ذات المعنى. ولم تلبث بهم الأيام حتى تواضعوا فاستبدلوا "التحقق" بـ"القابلية للتحقق".

لكن الفلاسفة ردوا عليهم بإيراد ما لا يُحصى من القضايا ذات المعنى ولا يمكن التثبت منها من خلال الحواسّ، وأن القوانين العلمية ومفاخر العلم، مثل قانون الجاذبية، أشياء لا نحسّ بها، ولم نر من هذا القانون سوى سقوط الأجسام.

ثم انتقل الفلاسفة لمهاجمة الوضعية المنطقية في عقر دارها حين قالوا إن المبدأ الذي تنطلق منه هو ميتافيزيقي بدوره، وأنها غارقة في الميتافيزيقا كغيرها، وأن مبدأ التحقق نفسه خالٍ من المعنى. وأن المنهج التجريبي لا غنية له أبداً عن المنهج العقلي، بل إن العودة إلى إيمانويل كانط عظيم الفلاسفة جعلتنا نجد أنه يرى المنهج التجريبي منهجا عقليا هو الآخر. ولو أن العلماء التزموا بخط الوضعيين لمات العلم صغيرا، فالعلم قد حلّق على أجنحة الميتافيزيقا معتمداً على الشعور بأن هناك عمليات سببية تتفاعل في العالم الطبيعي دون أن تتكون من عمليات الحس. ولا شك أنهم حين يقررون: (لا يوجد إلا المحسوس) يكونون قد أتوا بدعوى ميتافيزيقية أخرى.

دامت معركة الوضعية المنطقية عقودا ثم إنها انتهت كتيار في ستينات القرن العشرين، ولعل واحدة من أهم ما حققته أنها رسخت التمييز بين العلم والفلسفة. هذه حسنة لا يمكن لمنصف إنكارها.

font change
مقالات ذات صلة