كثيرا ما يحلو للجرح البقاء في عتمة الذاكرة، موهما أنه اختفى أو شفي أو طاوله النسيان، لكنه في الحقيقة يستمرّ في التوغل فينا والتربّص باللحظة التي تعيد رسمه في أكثر تمظهراته قبحا وألما على أرض الواقع، وكأنه صرخة مظلوم تتأمل صمتا مدفونا تحت طبقاتٍ من الحروب والخيبات، في انتظار اقتناص فرصة تصطاد فيه صوتا يسمح لها بولوج عالم المسموع.
في رواية "حوريات" أو على نحو أدق "حور العين" للجزائري الفرنكوفوني كمال داود الصادرة أخيرا عن دار "غاليمار" الفرنسية والتي أعلن أمس الإثنين عن فوزها بجائزة "غونكور" كبرى الجوائز الأدبية الفرنسية، يحاول صاحبها منح وجه لهذا الجرح، فنجده ينسج خيوطا دقيقة بين الجسد المعذَّب والمجتمع الذي فقد صوته في صراعٍ لا ينتهي، فهذه الرواية لم تكتب لتكون سردا لتجربة فردية، بل لتشكل ما يشبه مرآة تعكس اضطراب الهوية الجزائرية وغوصها العميق في بحر الصمت الجمعي، ذلك الصمت الذي تركته العشرية السوداء في نفوس الجزائريين.
حين يصبح الجرح لغة
في قلب هذه الرواية، تقف أوب، المرأة التي تحمل ندب جرح غائر في عنقها، جرح لا يلتئم، تماما كما لا تلتئم جراح الماضي في الجزائر... تَشوّهُها الجسدي هو وجه آخر لجراح أعمق، عادة ما تتركها الحرب في الروح. جرحها يتحدث بلغة الصمت الذي جعلنا الكاتب نسمع صراخه في أعماقها، وكلّنا يقين أنه أيسر ما تقوله المعاناة التي تتجاوز الكلمات.
ترى أوب نفسها محاصرة داخل جسد لا يطيعها، وجزء من نفسها لا ينتمي إليها، كأن الجرح يعيد صياغة وجودها، أو ربما يعيد تذكيرها بأنها ليست وحدها من تحمل آثار حرب لا تزال تئن تحت وطأتها الجزائر.