تشرّدٌ بين اللغات

إن اعتناءنا بلغتنا من شأنه أن يجعلنا نتنزه بثقة بين غيرها من اللغات

تشرّدٌ بين اللغات

تراءى لي، وأنا أحوّل وجهة سفري من الرياض إلى أميركا، بدلاً من بيروت، أن تشرّدنا في مختلف الجهات يسبب لنا تشرّدا في كل حقل، وخصوصا بين اللغات. والتشرّد بين اللغات له منافعه عندما يقود أحيانا إلى أنواع من المعرفة أو التعارف. ولكنه ليس كذلك عندما يكون تلعثما أو تلمسا لتفاهم أو ارتباكا. تراءى لي ذلك وأنا في طريقي إلى أميركا التي أتيتها أول مرة في العام 1990، ثم زرتها مرارا لفترات قصيرة. ولكنني هذه المرة جئتها قسرا، لأن ظروف الحرب منعتني من العودة إلى بيروت.

حفيدتي التي قاربت السنتين، باتت تفهم ما يوجّه إليها من كلام بالفرنسية، وكذلك بالعربية وبالإنكليزية، وهي بالكاد تتلفظ ببعض الكلمات في كل من هذه اللغات. أما أختها التي قاربت الست سنوات، فهي تتحدث بطلاقة باللغات الثلاث المذكورة، وهي في أول تعلّمها القراءة والكتابة. حفيدتاي تلقّتا الفرنسية من أمهما، وتلقّتا العربية من أبيهما. والعربية هنا ليست الفصحى بالطبع، وإنما هي إحدى لهجات العامية أو المحكيّة. أما الإنكليزية فهي اللغة التي أخذت الحفيدتان تتلقيانها من دار الحضانة أولا، وبعدها من المدرسة. وربما هي مزيج من لهجات عديدة، نظرا لتعدد الجماعات العرقية التي تعيش في أميركا، والتي يتلاقى أبناؤها في المدارس، ليتعلموا على أيدي مدرّسين ومدرّسات من أصول ومشارب شتى.

أنظر إلى حفيدتيّ، وهما تنشآن على طريق المعرفة بلغات ثلاث، فأقول: إن هذا امتياز أو نعمة من جهة، ولكنه قد يكون تشتتا أو تشردا من جهة ثانية. خصوصا أن الذي أفضى بهما إلى هذا الوضع لم يكن خيارا من والديهما، وإنما كان نتيجة لظروف بلادنا الصعبة، التي تدفع بنا إلى الهجرة.

ومن جهة أَوْلى، رحت أفكّر : هل تَلقّي لغات عديدة على هذا النحو يؤدي بالمتلقي إلى حب واحدة منها... أو أكثر؟ هل يؤدي به إلى إتقان واحدة منها أكثر من غيرها، وإيثارها وطنا له، وطنا لأفكاره وأحلامه وتصوراته، كما هو الحريّ بكل لغة يطمئن إليها محبّوها، ويجدون فيها أمانهم؟

والترجمة هي الأخرى تشرّد بين اللغات. تشرّد له منافعه الجمّة إذا كان المترجم متضلعا من اللغتين، التي ينقل منها والتي ينقل إليها. فهو إذّاك يعطي للنصوص التي يتناولها أكثر من حياة واحدة، بل يجعلها تتنزه من لغة إلى أخرى، وتحظى بجماليات كل منهما. أما إذا كان المترجم ضعيفا في إحدى اللغتين، وإن كان قويا في الثانية، فإنه يجعل النص متشردا، متهالكا في هجرته. وهذا للأسف ما يحصل لمعظم النصوص التي تترجم إلى العربية من لغات أجنبية. وخصوصا في ما يتعلق بالنصوص الأدبية، التي تتطلب من المترجمين أكثر مما تتطلب النصوص الفكرية أو العلمية على سبيل المثال.

هل تَلقّي لغات عديدة على هذا النحو يؤدي بالمتلقي إلى حب واحدة منها... أو أكثر؟ هل يؤدي به إلى إتقان واحدة منها أكثر من غيرها

بعد هذا الكلام على التشرد اللغوي، لا أريد تكرار ما هو معروف من أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتفاهم، وإنما هي عقل و(ذات) مفكِرة. والمعرفة بأكثر من لغة إنما هي غنى للتفكير واتساع للرؤى. إلا أنني أود التركيز على ضرورة الاعتصام بلغة واحدة أو أصلية، اعتصاما يقتضي ما هو أكثر من الإلمام بها، يقتضي الإتقان والعشق والتمرس والتغلغل في أسرارها وجمالياتها. وفي هذه الحالة يكون الانطلاق من هذه اللغة إلى غيرها من اللغات قويا ومجديا وممتعا. فاللغة، كما ذكرت سابقا، هي أشبه ما يكون بالسكن الآمن لمن يحبها ويتلذذ بالسفر في مجاهلها. وهذا للأسف ما بتنا نفتقده إلى حد بعيد لدى الناطقين بالعربية الفصحى، الذين باتوا في معظمهم لا يولون المعرفة بها ما تقتضيه من اهتمام وحب. وقد بلغ الأمر بنا، نحن العرب، أن تغافلنا عن تراجع لغتنا في مؤسسات التعليم وفي مؤسسات الإعلام، أي حيث ينبغي لها أن تكون في أقوى حالاتها.

إن اعتناءنا بلغتنا ليس مسألة نافلة أو ذات شأن هيّن. إنه، على العكس من ذلك، ذو أهمية كبرى، لأنه من العوامل الأساسية في معرفة الذات (فردية كانت أو جماعية) وفي معرفة الآخَر. هذه المعرفة بتنا نفتقر إليها، ونحتاجها حاجة ماسة، في خضم المشاكل والمآسي التي نعيشها.

إن اعتناءنا بلغتنا من شأنه أن يجعلنا نتنزه بثقة بين غيرها من اللغات.

font change
مقالات ذات صلة