بين 27 سبتمبر/أيلول و3 أكتوبر/تشرين الأول الماضيين انتقل "حزب الله" من حال إلى حال. ففي 17 سبتمبر حصلت حادثة تفجير أجهزة النداء "البيجر" التي حصدت في بضع ثوانٍ آلاف الإصابات بين قتيل وجريح من منتسبي "حزب الله" العاملين في القطاع اللوجيستي.
وفي اليوم التالي تكرر الأمر بتفجير أجهزة الاتصال اللاسلكي "آيكوم" وأصاب بضع مئات آخرين. وفي اليوم الثالث قصف الطيران الإسرائيلي أحد المباني في الضاحية الجنوبية من بيروت بقنابل خارقة للتحصينات حاصدا الأكثرية الساحقة من قادة "وحدة الرضوان" العسكرية التي تعتبر أهم وحدات النخبة العسكرية في "الحزب".
وبعدها بأيام قليلة أي في 27 سبتمبر اغتيل الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في مقر القيادة في حارة حريك في الضاحية الجنوبية ومعه عدد من القيادات الرئيسة. وفي 3 أكتوبر أودت غارة بحياة خليفة نصرالله كأمين عام لـ"الحزب" ومعه 25 من كبار القادة الذين بقوا عل قيد الحياة.
30 يوليو سقوط "الخطوط الحمراء"
سبق هذا المسلسل الأسود القاتل سقوط أكثر من 550 من قادة "الحزب" الميدانيين والمقاتلين في الجنوب والبقاع الغربي. من المحتمل أن هذه السلسلة من الضربات المزلزلة فعلت فعلها في الأوساط السياسية اللبنانية التي ظلت تراقب حال "حزب الله" منذ 8 أكتوبر 2023 تاريخ مباشرة "حزب الله" حرب "الإسناد" دعما لقطاع غزة وحركة "حماس" والفصائل التي تقاتل إلى جانبها. لكن بين 8 أكتوبر 2023 و30 يوليو/تموز 2024 ظل الانطباع راسخا بأن "حزب الله" قوي ومتمكن في مسرح العمليات، وقادر على فرض نوع من التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، من خلال فرض خطوط حمراء لا تتجاوزها إسرائيل، مثل قصف الضاحية الجنوبية لبيروت، أو اغتيال قيادات خارج منطقة المواجهة في الجنوب اللبناني.
الحياة السياسية اللبنانية مليئة بأمثلة عن تبدل الحسابات والمصالح السياسية، واستتباعا تبدل التحالفات مع تبدل الرياح، و"نقل البندقية من كتف إلى كتف"، أو "القفز من المركب الغارق"!
لكن مع اغتيال القائد العسكري الأول في "حزب الله" فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، بدأت "الخطوط الحمراء" بالسقوط. وفي 17 سبتمبر كرّت السبحة وتباعا تهاوت كل الخطوط الحمراء. ومن هنا يمكن القول إن تقييم مجمل المستوى السياسي اللبناني سواء كان متحالفا مع "حزب الله" أو معارضا له، لم يتغير طوال عام كامل، أن "حزب الله" هو الطرف الأقوى في لبنان، وحرب الاستنزاف لن تذهب إلى أبعد، لذلك وجب على الصديق والخصم على حد سواء أخذ هذا الواقع في الاعتبار بالنسبة إلى العلاقة مع "الحزب". إنما مع تراكم الضربات التي تلقاها "حزب الله" بدا واضحا لكل المستوى السياسي أن الحرب الراهنة ليست عابرة، وأن أهدافها الإسرائيلية لا تقتصر على إعادة سكان الشمال الإسرائيلي إلى بيوتهم، وبالتالي العودة إلى اليوم الذي سبق تدخل "حزب الله" في حرب غزة. ما بدا جليا هو أن إسرائيل قررت أن تخوض حرب إلغاء ضد "حزب الله"، وقد حققت "إنجازات" عسكرية وأمنية كبيرة أدت إلى إصابة "الحزب" المذكور بأعطاب عميقة ما عادت تخفى على أحد، لا سيما الطاقم اللبناني الحاكم وشريك "حزب الله" في السطلة وعملية "تقاسم الجبنة".
ولذلك رأينا كيف بُعثت القاعدة الذهبية في السياسة التي تقول: "لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، بل مصالح دائمة". والحياة السياسية اللبنانية مليئة بأمثلة عن تبدل الحسابات والمصالح السياسية، واستتباعا تبدل التحالفات مع تبدل الرياح، و"نقل البندقية من كتف إلى كتف"، أو "القفز من المركب الغارق"! وهنا نموذجان بارزان:
باسيل يتبرأ من "حزب الله"
أبرز مظاهر الابتعاد العلني عن "حزب الله" الأخيرة هي التي عكسها الحليف التاريخي الأهم من خارج البيئة الشيعية رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، خلال مقابلة أدلى بها قبل أسبوع لقناة "العربية"، حيث قال: "لسنا (التيار الوطني الحر) في وضع تحالف مع حزب الله". وذهب أبعد من ذلك بقوله: "إن (الحزب) أضعف نفسه وكشف قوته العسكرية فيما بات لبنان كله مكشوفا للاعتداءات الإسرائيلية". وعُدّ هذا التصريح كإعلان صريح من فريق سياسي ربطته علاقة تحالفية متينة مع "حزب الله" منذ فبراير/شباط 2006، واستفاد منها التيار المذكور بدعم "الحزب" لينتزع مكاسب في السلطة، سواء كان في الاستحقاقات الانتخابية، أو في التشكيلات الحكومية، أو في التعيينات الإدارية في مؤسسات الدولة، وصولا إلى خوض معركة ناجحة بتعطيل الاستحقاق الرئاسي بين عامي 2014 و2016 من أجل إيصال الجنرال ميشال عون إلى سدة الرئاسة.
وفي المقابل استفاد "حزب الله" من الغطاء المسيحي الكبير الذي منحه إياه "التيار الوطني الحر" بزعامة الرئيس السابق ميشال عون، ومن دعمه في كل المعارك السياسية خلال قرابة عقدين من الزمن، أهمها خلق شرخ كبير في المجتمع المسيحي، وخوض حرب دعائية- سياسية ضد المحكمة الخاصة بلبنان التي حكمت على قيادات من "الحزب" بالتورط في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إلى مشاركة التيار في تعطيل المؤسسات كمجلس النواب أكثر من مرة، أو محاصرة مؤسسات أخرى مثل مجلس الوزراء كما حصل بين عامي 2007 و2008. والسؤال ما هي المؤشرات التي رصدها "التيار الوطني الحر" لكي يعلن صراحة عن سقوط التحالف؟
"انتفاضة" ميقاتي على إيران أم على "حزب الله"؟
اشتهر رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالي نجيب ميقاتي بأنه يحسن المناورة السياسية و"يعرف من أين تؤكل الكتف"، و "لا يقطع شعرة معاوية" مع أي فريق، ولا يبتعد أبدا عن مراكز القوة الفعلية في السلطة. هكذا كان عندما دخل الحياة السياسية في تسعينات القرن الماضي برعاية فريق من النظام السوري، تحضيرا له لكي يكون جزءا من الفريق اللبناني السني المنافس للرئيس رفيق الحريري. بدعم سوري عين عدة مرات وزيرا، ثم بعد اغتيال الحريري عام 2005، ومن أجل طمأنة سوريا و"حزب الله" جرى التوافق حوله ليكون رئيس حكومة مؤقتة مهمتها أول انتخابات نيابية بعد الانسحاب السوري من لبنان. وفي 2011 كان جزءا من الانقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري الذي قام به "حزب الله" وحلفاؤه في الحكم والسلطة وخارجها. إثرها كلف بتشكيل حكومة اصطلح على تسميتها "حكومة اللون الواحد"، أي حكومة يهيمن عليها "حزب الله". في عام 2021 تكرر الأمر مرة جديدة عندما فشل الرئيس سعد الحريري في تشكيل حكومة بعد رفض الرئيس ميشال عون توقيع مرسوم التشكيل، فخرج ليدخل ميقاتي مكانه وينجح بقدرة قادر بتشكيل حكومته الثالثة التي هيمن فيها "حزب الله" على أكثر من ثلثي مقاعدها.
علامات النأي بالنفس بدأت تظهر في أوساط قيادية من شريك "حزب الله" ضمن "الثنائي الشيعي"، أي حركة "أمل"
ومع قيام "الحزب" في 8 أكتوبر 2023 بشن حرب "الإسناد" ضد إسرائيل دعما لحركة "حماس" لم يشذ الرئيس نجيب ميقاتي عن قواعد التحالف مع "حزب الله"، فأمن له حاضنة حكومية شرعية لحربه أراحته في الداخل، وخلق له صماما حكوميا بالتنسيق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري أسهم في امتصاص الضغوط الخارجية. وعلى الرغم من أن "الحزب" بادر إلى شن حرب بقرار متفرد أسهم الرئيس نجيب ميقاتي لأكثر من 12 سنة في حماية موقف "حزب الله". لكن بعد الضربات من 17 إلى 27 سبتمبر الماضي، وإطلاق إسرائيل حربا شاملة ضد "حزب الله" في كل أرجاء لبنان، طرأ تحول دراماتيكي في سلوك ميقاتي، بدأت بوادره عندما أصدر بيانا لافتا لا يشبهه ولا يشبه طباعه انتقد فيه بشدة رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف على تصريح أدلى به في باريس بأن بلاده مستعدة للتفاوض مع فرنسا من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار في لبنان. فقال: "نستغرب هذا الموقف الذي يشكل تدخلا فاضحا في الشأن اللبناني، ومحاولة لتكريس وصاية مرفوضة عل لبنان...".
ولأن هذا التصريح يناقض شخصية ميقاتي في أسلوبه لا سيما لجهة تاريخ العلاقة بينه وبين "حزب الله" فإن البيان الذي ألحقه ميقاتي بتصريح قال فيه: "حبذا لو تخفف إيران قليلا من عاطفتها تجاه لبنان". اللافت أن هذا الموقف غير المسبوق يصدر بعد أن بدأ "حزب الله" يعاني من شدة الضربات التي تلقاها ابتداء من 17 سبتمبر الماضي. بعض المراقبين يعتبرون أن ميقاتي بانتفاضته على إيران إنما أراد أن يبتعد عن "حزب الله" من دون أن يصطدم به مباشرة. فالموقف المنتقد لإيران هو بمثابة إعلان الافتراق عن حليف قديم أسهم في مكان ما بمسيرته السياسية اللبنانية.
شخصيات تأخذ مسافة أيضا
الابتعاد عن "حزب الله" لا يقتصر عل الشخصيتين آنفتي الذكر. بل إن علامات النأي بالنفس عن "الحزب" المذكور بدأت تظهر في أوساط قيادية من شريك "حزب الله" ضمن "الثنائي الشيعي"، أي حركة "أمل". أضف إلى ذلك أن الكثير من قيادات متحالفة مع "حزب الله" ضمن تركيبة "8 آذار" الحزبية بدأت تبرز تمايزها الصريح عن مواقف "حزب الله"، ولا سيما عن قرار "حرب الإسناد". ولا يشذ عن مسار التحول الكثير من الوجوه الإعلامية كانت قريبة من "الحزب". وكأن المستوى السياسي اللبناني بدأ يشتمّ في مكان ما رائحة الموت؟