"هنانه" لعايض البقمي... مغامرة مسرحية سعودية تستعيد سعد الله ونوس

حكاية واحدة وبطل بألف وجه

فريق العرض يتسلم جوائز مهرجان القاهرة الدولي للمسرح الجامعي.

"هنانه" لعايض البقمي... مغامرة مسرحية سعودية تستعيد سعد الله ونوس

"مغامرة رأس المملوك جابر"، من أشهر ما كتب المسرحي السوري سعد الله ونوس، الذي يُعَدّ من أبرز كُتاب المسرح في العالم العربي. صدرت المسرحية مطلع سبعينات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين، وعلى مدار ما يزيد على نصف قرن، لم تنقطع خشبات المسارح في مختلف البلدان عن استضافة النص الشيق وبتوقيعات متعدّدة لمخرجين من شتى المدارس، سواء بالإعداد والنقل أو في صورة إعادة تقديم. ولعلّ مسرحية "هنانه" واحدة من أحدث المعالجات المعروضة أخيرا.

المسرحية من إعداد وإخراج د. عايض البقمي، أما البطولة فهي لفريق جامعة الملك سعود. وقد عُرضت على خشبة "مسرح السامر" بالعجوزة، ضمن المشاركة السعودية في الدورة السادسة لمهرجان ملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي التي انتهت فعالياتها قبل أيام، لتحصد جائزتَي أفضل عرض جماعي وأفضل تمثيل. كما سبق وحصلت على ثلاث جوائز من مهرجان المسرح الخليجي لجامعات مجلس التعاون في دورته السادسة أيضا في مايو/أيار الماضي، وهي جائزة أفضل ممثل في دور أول، وأفضل أداء تمثيل جماعي، فضلا عن جائزة التميز في الإخراج.

بين الواقع والخيال

زخرت "ألف ليلة وليلة" بالعديد من الحكايات المروية أو التي تدور أحداثها في بغداد، من هنا ارتبطت المدينة العتيقة في مخيلة الشعوب بعوالم السحر والخيال، إلا أن ثمة أرضا أخرى للفانتازيا لم يطأها الكثيرون، ولا غرابة في أن الواقع فيها يفوق الخيال بكثير، حتى أن أناسها يستخدمون فروة الرؤوس البشرية في نقل الرسائل الشديدة الخطورة.

حدث ذلك حين استعان وزير الدولة برأس المملوك جابر لينقش عليها رسالة سرية إلى ملك المغول لمساعدته في الاستيلاء على السلطنة واقتناص العرش. وعلى الرغم من غرابة الفكرة، إلا أن الأغرب كان صاحبها، وهو جابر نفسه، فقد كان على علم بالخلاف الدائر بين الخليفة والوزير، فما كان منه إلا أن تودّد للأخير بهذه الفكرة، خصوصا مع التشديد الصارم للإجراءات الأمنية المفروضة من الخليفة على مداخل البلاد ومخارجها كافة، بما لا يدع مجالا لمرور بعوضة.

نجح المخرج في كسر الإيهام عبر هدم الحائط الرابع حيث قام بتشييد دراما متأرجحة في ما يشبه مسرحية داخل مسرحية

لم يكن هناك مجال للشك في براعة المملوك في التخطيط الذكي، الذي مكنه من اختراق صفوف العامة والدخول إلى مصاف الطبقة الحاكمة، ما ظنه سيكون ملاذه نحو حياة أفضل. إلا أن جابر لم يكن بالمهارة التي تمكنه من معرفة قوانين السياسة وخفاياها، لذلك لم يخطر بباله أن يحمل صليبه فوق رأسه، حيث اختتم الوزير خطابه بتأكيد قطع رقبة حامل الرسالة لضمان سرية المهمة. وهي المفارقة التي يطرحها العرض في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وخصوصا نحن أمام مجموعة من العامة، "يتمردون على ما يجري من أحداث، لكنهم لا يتدخلون فيها". ومع مرور الأيام واعتياد ما يجري، "اعتقدوا أنهم اكتشفوا سر الأمان في مثل هذا الزمان". من هنا نجح المخرج في كسر الإيهام عبر هدم الحائط الرابع كما يطلق عليه في المسرح، حيث قام بتشييد دراما متأرجحة في ما يشبه مسرحية داخل مسرحية.  

مشهد من المسرحية.

على مدار ما يزيد على عقدين، قدم المخرج عايض البقمي زهاء 25 عملا مسرحيا، جلبت له العديد من الجوائز المحلية والعربية، يأتي في مقدمها عرض "مجلس العدل"، عن مسرحية توفيق الحكيم التي شارك بها في عدد من المهرجانات المختصة في المسرح الجامعي وحصد عنها 13 جائزة محلية وخليجية لجامعة الملك سعود، ليصبح بذلك صاحب أكبر عدد من الجوائز بحسب ما نشرته الجامعة. أتاح العمل الجامعي للبقمي احتكاكا مباشرا وتفاعلا عن قرب مع الشباب، وهو ما انعكس بالطبع على تعامله مع القضايا المطروحة في أعماله، فنراه على سبيل المثل يبدأ مسرحية "هنانه" بجدال مرتجل بين مجموعة من الشباب نتبين أنهم من عشاق المسرح، ولأنهم ما زالوا في مقتبل الحياة فربما لن يهتموا كثيرا بالقضايا الكبرى، لذلك يستحضر في حوارهم الدائر إشكالية كثيرا ما تصادفنا في البدايات حول التعصب للرأي والصراع مع الرأي الآخر، فهناك من المجموعة من يجد أن المسرح بدعة ولا ضرورة له، إلا أن الغالبية تنسجم حين تستمع إلى أحد الزملاء في استدعائه روح الفن من خلال مقدمة لأغنية قديمة شائعة، "أنا بعشقك"، مع نجمة هذا الحفل ميادة الحناوي، في أروع ما كتب ولحن الموسيقار بليغ حمدي.

يحتفي ونوس بالرمزية والتجريد منذ عمله الأول مطلع الستينات، حين اصطدم مع الجميع بهزيمة 1967

يؤكد المخرج في حوار سابق أن "الشباب السعودي شغوف بكل عملٍ إبداعي أدائي، سواءٌ كان جماعيا او فرديا، لما يملك من طاقاتٍ ومواهب، كما أن لديه الاستجابة لأي تحفيزٍ ولو كان بإذكاء روح المنافسة مع أقرانه". وفي مسرحيته الجديدة "هنانه"، يختار البقمي اسما يشتبك بالمفهوم الجمعي، وهي لفظة محلية للإشارة إلى المكان، بمعنى "هنا والآن" يستخدمها العامة في بغداد والسعودية وغيرها من الأماكن.

الحكاية... هنا والآن

انشغل سعد الله ونوس مثل مجايليه من كُتاب الستينات بالهمّ السياسي الذي صبغ تلك الفترة في سوريا ومصر وغيرهما، انطلاقا من حلم القومية ومرورا بالهزيمة ثم تحولات ما بعد حرب 1973 التي شهدت تغيرا ملحوظا للهوية العربية. وربما كانت تجربة ونوس مثلا جيدا على ذلك، فنراه يحتفي بالرمزية والتجريد منذ عمله الأول مطلع الستينات، حين اصطدم مع الجميع بهزيمة 1967. أما في مرحلته الأخيرة بمصاحبة مرض السرطان، فنجده يتحول إلى الذاتي أكثر منه إلى المجتمع، الإنسان أينما يكون هو ما يستحق الاهتمام والرعاية... "وليس السلطة كما شغلت أعماله من قبل"، على ما تقول الكاتبة المصرية عبلة الرويني في كتابها "حكي الطائر – سعد الله ونوس".    

مشهد من المسرحية

على أن فكرة التمرد لم تخلُ منها غالبية أعمال ونوس، سواء على مستوى الشكل أو المنهج. يتجلّى ذلك في علاقته المميزة مع التراث العربي، مستلهما تارة ومسترشدا تارة أخرى ومفسحا المجال أمام العديد من الرمزيات والتأويلات، من هنا نجد ونوس يستلهم ثيمة الحكواتي التراثية في أكثر من عمل، مثل "سهرة مع أبي خليل القباني" و"مغامرة رأس المملوك جابر"، فقد لعب الحكواتي قديما دورا مهما في توجيه الوعي الجمعي وتشكيله. في مسرحيته، اختار ونوس فضاءه داخل مقهى شعبي لسرد حكايته، وهي الصورة الشائعة لتجمع الأهالي أو المواطنين في ذلك الحين. الآن ونحن نعيش داخل فضاء رقمي ضخم يضم أشكال وأنواع التواصل كافة، لم يعد هناك حاجة لتحديد المكان بل ربما وجب تجريده، وهو ما تقدمه مسرحية "هنانه" من خلال سينوغرافيا متقشفة لا تمثل سوى مجموعة من سعف النخيل المتدلي على الخلفية السوداء للمسرح، تشكل المعادل الرمزي لغالبية صحراء البلدان العربية، فيما توزعت الإضاءة عن طريق كشافات مسلطة، درامية ووصفية، استُخدمت في أكثر من مستوى.  

نحن إزاء مسرح ملحمي أغرى المخرج بالاستعانة بطاقم تمثيل كبير وظفهم في صور مجاميع تتقاسم البطولة بالتساوي

ومن الملاحظ أن غالبية المعالجات السابقة للمسرحية سارت على الثيمة الثنائية التي اختارها ونوس لنصه، والتي تعتمد على حكواتي يروي في مقابل مجموعة تستمع، لذلك يُحسب لعرض "هنانه" انتهاجه الصيغة الجماعية للحكاية وما يحمله هذا من مدلولات مجتمعية، حيث بدأ طاقم التمثيل العرض بالتعريف بنفسه: "أنا فلان من البصرة. الواسط. بغداد. الكوفة. كركوك..."، وهو ما يمكن توسعته على نحو أشمل وأعم. تجدر الإشارة هنا إلى عرض مصري قديم لفرقة "قصر ثقافة شبرا الخيمة" وإخراج أحمد شحاتة، قدّم معالجة شبيهة في تتبعها ثيمة الحكي الجمعي للأحداث.

يعتمد النص الأصلي للمسرحية على الدمج بين إطاري الزمان والمكان في شقيهما التاريخي والمعاصر، فهناك حدث راهن للأهالي وهو استماعهم الى الحكاية التاريخية لسقوط الدولة العباسية التي تجري أحداثها في مكان وزمان مختلفين، مما أفسح المجال لاستدعاء منهجية بريخت في الأداء وتعددية مستوياتها النفسية بين أنا الشخصية، وأنا الممثل، وأنا الإنسان، الأمر الذي نتجت منه ديناميكية أدائية دائرية بين الممثلين، وخصوصا نحن إزاء مسرح ملحمي أغرى المخرج بالاستعانة بطاقم تمثيل كبير (تسعة ممثلين) وظفهم في صور مجاميع تتقاسم البطولة بالتساوي تقريبا، حيث لا يوجد بطل محدد أو حتى مجهول. لقد زخرت الليالي بالعديد من النماذج والبطولات من كلا الطرفين: الإنس والجن، إلا أن أحدا لم يلتفت إلى صورة أخرى من البطولة في شكلها الجماعي، وهذا ما يراهن عليه العرض. لذلك مثلما تبدأ المسرحية بخروج الممثلين من بين الجمهور، تنتهي بعودتهم إلى الصالة وكأنه التحام أبدي فرضته أخوة الدم المجتمعي أو الإنساني في عمومه.

font change

مقالات ذات صلة