عودا على بدء...استراتيجيات قديمة - جديدة لتشكيل الشرق الأوسط

حسابات خاطئة مكلفة لديناميكيات المنطقة

ناش فيراسكرا/المجلة
ناش فيراسكرا/المجلة

عودا على بدء...استراتيجيات قديمة - جديدة لتشكيل الشرق الأوسط

تستعيد واشنطن من جديد الحديث عن تغيير النظام بعد انقضاء 22 عاما فقط على بداية الكارثة في العراق. ففي عام 2002 قرر الرئيس الأميركي بوش الابن أن العمليات الإرهابية التي ضربت نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا في 11 سبتمبر/أيلول 2001، تبرر اتخاذ إجراءات عسكرية قوية لتدمير نظام صدام حسين في العراق. ولقد شجع رئيس الوزراء الإسرائيلي الرئيس بوش بقوة. وعمل الأميركيون على خلق نظام جديد في المنطقة تعزز فيه واشنطن وأصدقاؤها مصالحهم الجيوسياسية دون أن يعترضهم أحد من "محور الشر".

إلا أن أميركا أدركت بعد احتلالها للعراق، أنها في الواقع لا تعرف ثقافة المجتمع العراقي ولا تاريخه ولغاته. فقد قللت من أهمية ما تشعر به الجماعات الدينية والعرقية من سخط واستياء في العراق، ولم تدرك أن انهيار دولة صدام البوليسية الهشة سيؤدي على الفور إلى الفوضى. ولم تفهم أن "الحرس الثوري" الإيراني وسوريا بشار والإسلاميين المتشددين سوف يستغلون هذه الانقسامات الاجتماعية وهذه المشاعر لصالحهم. والأسوأ من ذلك أن الأميركيين أظهروا على الدوام سوء تقدير في اختيار القادة العراقيين فجاءوا مثلا بنوري المالكي، ما مهد الطريق– عن غير قصد منهم– لمزيد من الاضطهاد الطائفي، ومن ثم صعود "داعش" عام 2013 وما نتج عن ذلك من تبرير لتوسع الميليشيات الموالية لإيران في البلاد.

لقد نجح الأميركيون بالفعل في خلق نظام إقليمي جديد، سوى أنه لم يكن النظام الذي كانوا يريدون. فإيران باتت أقوى وبشار بات أقوى، وكذا حال "داعش"، مولود "القاعدة"، التي بدورها باتت أقوى. ولم يبدأ العراق بالتعافي إلا الآن فقط، إنما تحت عيون إيران التي تراقبه على الدوام.

في عام 2024، استغلت إسرائيل، بالتعاون الوثيق مع واشنطن، الهجوم الإرهابي المروع الذي شنته "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كي تسحق "حماس" وتمزق "حزب الله" في رد انتقامي على هجماته التي أجبرت 60 ألف إسرائيلي على إخلاء منازلهم في شمال إسرائيل.

ولا تتمتع إسرائيل بالتفوق العسكري فحسب، بل أيضا بالتفوق الاستخباراتي كما اتضح من اغتيالها لقادة إيرانيين وقادة "حزب الله" و"حماس". وإذا كانت طهران حريصة على إعادة إرساء الردع والخطوط الحمراء في المنافسة مع إسرائيل، فإن إسرائيل، وليس إيران، هي من ستحدد مناحي المنافسة المستقبلية، بينما هي في الوقت نفسه تفرغ شمال غزة من سكانه وتشن هجماتها على لبنان.

لدى كامالا هاريس من العمر ما يكفيها لتتذكر أخطاء التدخل الأميركي في العراق، كما أن مستشارها الرئيس للأمن القومي ألف كتابا ينتقد فيه الجهود الأميركية لتغيير الأنظمة في المنطقة

تفكر إسرائيل وواشنطن، في ظل هذا التفوق، في إرساء نظام جديد في المنطقة يقتضي منهما تغيير الأنظمة لفرضه. وقد كانت زلة لسان هوكشتاين، المبعوث الخاص للرئيس بايدن إلى لبنان، وهو يتحدث إلى وسائل الإعلام أمام آلات التصوير يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول، زلة كاشفة عندما قال: "علينا أن ننتخب رئيسا لبنانيا جديدا". وسرعان ما أدرك ذلك الجندي الإسرائيلي السابق خطأه، فاستدرك قائلا: "على اللبنانيين أن ينتخبوا"، وكأن في جملته صدى لكلمات جورج بوش حين قال: "يجب على العراقيين أن يختاروا".

ويأمل المحافظون في الكونغرس ومعاهد الأبحاث الأميركية أن تؤدي الضربات الإسرائيلية على إيران إلى انهيار الجمهورية الإسلامية. (وهم لا يدركون ما قد يحدث بعد ذلك ولا يكترثون). وفي هذه الأثناء، أعد معهد أبحاث يضم قدامى محاربي إدارة بوش في واشنطن، خطة لقطاع غزة بعد الحرب، تتضمن أن تفرض واشنطن وتل أبيب، بدعم من الدول العربية، حكومة على سكان غزة من دون أي آلية تشاور محلية ناهيك عن اتخاذ أي خطوات ملموسة نحو تشكيل حكومة فلسطينية مستقلة. والهدف الإسرائيلي-الأميركي من كل ذلك ليس خلق حل الدولتين، بل عزل الفلسطينيين، وإيران وحلفائها، وإنشاء نظام إقليمي جديد، يأتي التطبيع فيه بين الدول العربية وإسرائيل، وتتكامل فيه اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وتنضم إلى أميركا في المنافسة الكبرى ضد الصين.

أ.ف.ب
المبعوث الأميريكي الخاص آموس هوكستين بعد اجتماع مع رئيس مجلس النواب اللبناني في بيروت في 21 أكتوبر 2024

ولدى كامالا هاريس من العمر ما يكفيها لتتذكر أخطاء التدخل الأميركي في العراق، كما أن مستشارها الرئيس للأمن القومي ألف كتابا ينتقد فيه الجهود الأميركية لتغيير الأنظمة في المنطقة. ومن غير المرجح كما يبدو أن ترسل جنودا أميركيين لغزو لبنان أو إيران أو سوريا. بيد أنها لم تظهر مقدرة على التمييز بين مصالح الأمن القومي الإسرائيلي والمصالح الأميركية الأساسية، وبالتالي فهي تدعم سياسة تمنح إسرائيل شيكا على بياض. وليس مرجحا أن تواجه هاريس تل أبيب بطريقة ملموسة تتجاوز مجرد إبداء الشكاوى اللفظية من التغييرات التي تطرأ على حدود غزة أو إنشاء مستوطنات جديدة، بينما ستواصل تقديم المساعدات العسكرية لإسرائيل. وإذا اندلعت حرب كبرى بين إيران وإسرائيل، فمن السهل علينا أن نتخيل أنها ستأمر الجيش الأميركي بأن يستخدم القوة لإجبار إيران على التراجع. وجدير بالذكر أن هاريس أيدت إرسال بايدن نظام دفاع صاروخي أميركيا متطورا ومكلفا إلى إسرائيل، وأيدت نقل السفن البحرية الأميركية المكلفة من آسيا إلى الشرق الأوسط. وليس من الصعب أن نتخيل كيف تجر إسرائيل المتغطرسة الأميركيين إلى حرب مع إيران.

بينما قد تخطط إسرائيل وأميركا لترتيب حكومات جديدة في لبنان وغزة، أو حتى في سوريا وإيران، فإنهما تخاطران بتجاهل الانقسامات والنقمة التي قد تولدها تدخلاتهما عند محاولة فرض حلفائهما

أما ترمب فهو يمتلك فهما أوضح لموارد واشنطن المحدودة، وهو ما يضطره إلى اختيار معاركه بعناية. فالرجل حذر في تعامله مع الحرب. لهذا لم يرد عسكريا، عندما هاجمت إيران منطقة "بقيق" في المملكة العربية السعودية عام 2019، مع أن السعودية شريكة له. كما يحب ترمب عقد صفقات مفاجئة؛ فهو يريد الفوز بجائزة نوبل للسلام. وقد يحاول التفاوض مع إيران، تماما كما تفاوضت إدارته مع طالبان عام 2019. وهو في الوقت نفسه سيئ الاطلاع ويفتقر إلى المعلومات الكافية، كما أنه مدير غافل عن حكومته ويسهل خداعه. ومن المرجح، في حال فوزه، أن يستقدم إلى إدارته صقورا مثل مدير وكالة المخابرات المركزية السابق ووزير الخارجية مايك بومبيو، والسيناتور توم كوتون، وهما مثل هاريس لا يميزان بين المصالح الأميركية والمصالح الوطنية الإسرائيلية. وسيميل الصقور الذين يعينهم ترمب في إدارته إلى دعم الخطط الطموحة للصقور الإسرائيليين وليس كبح جماحها.

وهنا تكمن المشكلة، فالأميركيون والإسرائيليون لم يفهموا بعد بشكل حقيقي تاريخ شعوب المنطقة وثقافتها. والمخابرات الإسرائيلية، رغم مستوى خبرتها العالي، ليست معصومة عن الخطأ، ولعل السابع من أكتوبر خير مثال على ذلك. وبالمثل، فإن للمخابرات الأميركية حدودها، كما ظهر في تقليلها من شأن صمود الحوثيين في اليمن. وتواجه واشنطن وتل أبيب صعوبة في إدراك أن شعوب المنطقة تتمسك بقيم العدالة والتوازن ولا ترغب في الانحياز ضمن المنافسة الكبرى بين الولايات المتحدة والصين.

وبينما قد تخطط إسرائيل وأميركا لترتيب حكومات جديدة في لبنان وغزة، أو حتى في سوريا وإيران، فإنهما تخاطران بتجاهل الانقسامات والنقمة التي قد تولدها تدخلاتهما عند محاولة فرض حلفائهما. وإذا تجاهل القادة المتشددون في تل أبيب وواشنطن دروس الماضي من عامي 1982 و2004، فقد يُجبرون على إعادة تعلمها من خلال حسابات خاطئة مكلفة لديناميكيات المنطقة وحدود قدرتهم.

font change

مقالات ذات صلة