قراءة في خطابي "الوداع" لترمب وهاريس

بين منصتي "ماديسون سكوير" و"البيت الأبيض"

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رجل يرتدي زي إلفيس بريسلي يهتف للمرشح الجمهوري دونالد ترامب خلال تجمع انتخابي في 31 أكتوبر 2024 بولاية نيفادا

قراءة في خطابي "الوداع" لترمب وهاريس

الآن وبعد أن وضعت الحملة الانتخابية أوزارها، لم يبق أمام المتنافسين الجمهوري والديمقراطي سوى الانتظار بعد أن ألقيا الكرة في ملعب الناخب الأميركي، الذي بات أمام خيارين كلاهما مر في نظر الكثيرين.

الخطابان الأخيران اللذان ألقاهما كل من المرشح الجمهوري دونالد ترمب والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، يرسمان الملامح الرئيسة للمسار الذي ستسلكه الولايات المتحدة، والذي سيساهم في تحديد مستقبل العالم، الذي بات يرى النموذج الديمقراطي الأميركي مهددا بالانهيار، مع ما يعنيه ذلك من زوال الهيبة والتفرد على الساحة الدولية، وتجاسر القوى الكبرى الأخرى على التقدم لسد الفراغ، وانجرار العالم إلى دوامة من الفوضى.

هذا الخطاب هو بمثابة خطاب "الوداع" إذ ينذر بفنائه سياسيا. ومن هنا ستكون هذه الحملة الشرسة، إما بعثا لروح اليمين المتشدد الصاعد الذي تجسده الظاهرة "الترمبية" التي اجتاحت المشهد السياسي الأميركي على مدى العقد الأخير، ومن ثم الضغط على اليسار الذي يعاني تحت وطأة سيطرة الحرس القديم من الديمقراطيين، أو أفول المد الشعوبي الذي قاده ترمب، وانتقلت عدواه إلى أوروبا.

اختار المرشحان موقعين لإلقاء خطابيهما، يشكلان رمزا لما يجسده كل منهما من نهج سيضع البلاد عند منعطف تاريخي. ففي نيويورك، أقام ترمب منصته بميدان "حديقة ماديسون" أمام حشد من أنصاره، متوسطا أفراد عائلته، وطائفة من المليارديرات والمشاهير من أبرزهم إيلون ماسك، وعدد من الفنانين، منهم الكوميديان هينشكليف الذي تهكم على السود والفلسطينيين واليهود، وعلى سكان بورتوريكو التي وصفها بأنها "جزيرة عائمة من النفايات".

هذه النكتة السياسية كفيلة بأن تكلف ترمب ولاية بنسلفانيا المتأرجحة والحاسمة، والتي تضم نحو نصف مليون صوت من مواطني بورتوريكو. هذا التضامن الذي تجلى على منصة ماديسون بين المال والتصريحات المناوئة للأقليات والمهاجرين، يشكل السمة البارزة لحملة ترمب. وهذه القضايا، إلى جانب ادعاء أنه المنقذ الاقتصادي لأميركا والقادر الأوحد على تغيير حياة الأميركيين ماديا، هي محط جذب القطاع الأعظم من مؤيديه، علاوة على ما يمثله ترمب نفسه من نموذج مختلف، يتحدى كافة الصور النمطية السائدة عن الساسة، رغم ما ينطوي ذلك عليه من مخاطرات.

ركز ترمب خطابه على إذكاء الحماس بين قاعدته الجماهيرية، التي يتكئ عليها أكثر من مغازلة الناخبين على الجانب الآخر من الضفة السياسية. فاختار الأوتار التي يجيد اللعب عليها، حينما سأل أنصاره عما إذا كانت أوضاعهم الاقتصادية الآن أفضل مما كانت عليه قبل أربعة أعوام، فهو يعلم أنه على الرغم من أن البلاد كانت لا تزال في مخاض التعافي من الوباء، عندما غادر البيت الأبيض صاغرا، فإن قطاعا كبيرا من الأميركيين مستاؤون من تفاقم أوضاعهم المعيشية في ظل ارتفاع التضخم.

ستكون هذه الحملة الشرسة إما بعثا لروح اليمين المتشدد الصاعد الذي تجسده الظاهرة الترمبية أو أفول المد الشعوبي الذي قاده ترمب وانتقلت عدواه إلى أوروبا

لقد واصل ترامب هجماته المعتادة على غريمته الديمقراطية كامالا هاريس التي اتهمها بإزالة الحدود الأميركية، وإطلاق مئات الآلاف من المهاجرين إلى داخل البلاد، وتدمير الطبقة المتوسطة، وجلب المجرمين والسفاحين إلى أميركا، وإشعال الحروب وبث الفوضى في العالم، محذرا من أن الاقتصاد لن يتعافى أبدا، إذا بقيت أربع سنوات أخرى في البيت الأبيض. أما هو فإذا فاز فسيبني سريعا "أعظم اقتصاد في تاريخ العالم"، وسيقضي على التضخم، ويوقف "غزو المجرمين" لأميركا، ويحيي الحلم الأميركي من جديد، ويدفع من أجل منح إعفاءات ضريبية لأرباب الأسر.

وفي المقابل اختارت هاريس إقامة منصتها قبالة البيت الأبيض، وفي الموقع نفسه الذي خاطب فيه ترمب أنصاره، قبل أن يشنوا هجومهم الشهير على مبنى الكونغرس في 6 يناير/كانون الثاني عام 2021، وذلك لكي تذكر الأميركيين بمدى الخطورة التي يشكلها ترمب على مستقبلهم وديمقراطيتهم. وأمام أكبر حشد انتخابي لها منذ إعلان ترشحها، أكدت هاريس على أن منافسها يضع مصالحه الشخصية فوق اعتبارات الوطن، وأنه أفنى العشر سنوات الماضية من عمره في بث الفرقة والفتنة بين الأميركيين.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري للرئاسة دونالد ترمب في ديزرت دايموند أرينا، أريزونا، في 31 أكتوبر 2024

وتعهدت هاريس في نبرة توفيقية بأن تكون رئيسا لكل المواطنين، ووضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار، سواء كان حزبيا أم شخصيا. وفي خطابها التصالحي جزئيا، طمأنت هاريس المتذبذبين الذين يشكلون شريحة مهمة من الناخبين، ومن بينهم جمهوريون معتدلون. فالديمقراطيون يرون أن ثمة شريحة كبيرة من الناخبين لا يزالون   متأرجحين بين الحيرة والتردد. فضلا عن قطاع آخر، توعد بالامتناع عن التصويت لهذا أو ذاك، إما احتجاجا على عنصرية أحدهما، أو استياء من تعامل الآخر مع حروب الشرق الأوسط.

هذه الشريحة سيكون لها النصيب الأعظم في حسم نتائج الانتخابات رغم ضآلتها العددية. وانتقلت هاريس إلى الفقرة الهجومية على منافسها، لتنعته من جديد بأنه غير متزن، ومختل ومهووس بالانتقام، ونهم للسلطة المطلقة، ومغرم بالشكوى وتفتقر خطاباته للبرامج الملموسة الواضحة، التي يمكن أن تغير حياة الأميركيين للأفضل. وإمعانا في مد يد المصالحة إلى الجانب الآخر، وعدت هاريس بتعيين وزير جمهوري في إدارتها، للتأكيد، على حد قولها، على أن من يختلفون معها سياسيا لا ينبغي اعتبارهم أعداء، أو وضعهم في السجون، مثلما يهدد ترمب خصومه. وعرجت هاريس على الساحة التي يجيد ترمب اللعب فيها، أي الاقتصاد، فتعهدت بشن حملة على ارتفاع أسعار السلع وبمساعدة الراغبين الجدد في شراء المنازل، وتخفيض أسعار الدواء.

أ.ف.ب
نائبة الرئيس الأميركي والمرشحة الرئاسية الديمقراطية كامالا هاريس في تجمع انتخابي في بوجانجلز كوليسيوم في شارلوت بولاية نورث كارولينا، في 12 سبتمبر 2024

 

في خطابها التصالحي جزئيا، طمأنت هاريس المتذبذبين الذين يشكلون شريحة مهمة من الناخبين، ومن بينهم جمهوريون معتدلون

ووسمت هاريس ترمب بأنه "طاغية" سيدخل البيت الأبيض يحمل قائمة بأسماء خصومه لتصفية الحسابات معهم، بينما ستحمل هي قائمة من الأولويات للأميركيين، مذكرة بأنه حاول من تلك البقعة التي تتحدث منها، ومن خلال غوغاء مسلحين أن ينقلب على إرادة الشعب، التي عبر عنها في انتخابات حرة ونزيهة. كما حذرت من أن أولى أولوياته هي إطلاق سراح المتطرفين المدانين من السجون، ممن شاركوا في هجمات 6 يناير، وذلك في إشارة إلى تعهدات ترمب خلال حملته الانتخابية بإصدار عفو عام عن المتهمين في هذه الأحداث.

وفي معرض نهجها التصالحي، ذكّرت هاريس بمدى الاستياء الذي يشعر به قطاع من الجمهوريين إزاء وجود مرشح مثل ترمب يمثل الحزب، ومن بينهم النائبة الجمهورية السابقة ليز تشيني التي أعلنت دعمها لهاريس، إلى جانب ما يقرب من 230 مسؤولا عملوا في إدارة ترمب السابقة. هاريس دعت إلى طي هذه الصفحة من الصراع والخوف والفرقة، مؤكدة أن الوقت قد حان لتولي جيل جديد القيادة في أميركا.

أما حملة هاريس فأشارت إلى أن خطاب هاريس الختامي يستهدف شريحتين من الناخبين المترددين الذين يشكلون ما بين ثلاثة إلى خمسة في المئة من جملة الناخبين، والذين يمكن أن تحسم أصواتهم المعركة الانتخابية. تضم الشريحة الأولى الشباب الذين يميلون للتصويت لهاريس، لكنهم في حاجة إلى التحفيز، وأيضا محدودي المعرفة ممن لا يتابعون أخبار الانتخابات. أما الشريحة الثانية فتضم المستقلين والجمهوريين ممن كانوا يدعمون المرشحة الجمهورية السابقة نيكي هيلي، لكنهم ليسوا على النسق نفسه مع هاريس.

ينهي هذان الخطابان حملة جرت وسط انقسام لم يشهده الشارع الأميركي من قبل، بل لم تسلم منه حتى أروقة الصحف الأميركية الكبرى، مثل "واشنطن بوست" و"لوس أنجليس تايمز"، والتي أعلنت تخليها عن تقليد دأبت عليه منذ أكثر من 30 عاما يقضي بإعلان دعمها لمرشح بعينه.

بيد أن ثمة صحفا أخرى ثبتت على مبدأ تبني مرشح رئاسي معين، مثل "نيويورك تايمز"، و"بوسطن غلوب"، و"سياتل تايمز"، و"ذا نيويوركر" التي أعلنت تأييدها لهاريس، فيما حظي ترمب بتأييد صحيفة "نيويورك بوست". أما صحيفة "فيلادلفيا إنكوايرر" فقرنت إعلان دعمها لهاريس بهجوم شديد على ترمب وصفته فيه بأنه "مجرم مدان وانقلابي، ومتهرب من الضرائب، ومعتد على النساء، وكذاب أشر، وحليف للروس". يكتمل هذا المشهد الهزلي بتجديد ترمب لهجومه السابق على وسائل الإعلام، التي وصفها بعدو الشعب، بل وهدد بإلغاء رخصة شبكة "سي بي سي" التلفزيونية.

وبعد أن ألقى كل ما في جعبته، تقف أميركا على موعد مع يوم الحسم لأصعب سباق انتخابي في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، حيث لا يفصل بين المرشحين سوى هامش ضئيل قد يميل بصعوبة لصالح هاريس، وهو ما ينذر بصراع مرير على التسليم بالنتائج، لا يستبعد أن يدخل البلاد في دوامة صراع لا تعرف عقباه.

font change

مقالات ذات صلة