حسب القراءة التاريخية، فإن الانصهار في المجتمعات المتعددة الأجناس والثقافات، لم يصمد طويلاً، فلماذا انهارت يا ترى؟ ونحن نعلم أنه لا تخلو دولة في العالم، إلا والتعدد الإثني والعرقي فيها أساس البنية الاجتماعية، بجانب اختلافها الفكري والثقافي والتكويني... فهل لضعف قوانين المساواة دور في الانهيار؟ أم ثمة أسباب أخرى؟
قد يظن البعض أن القوانين العادلة في الدولة المتعددة والمتنوعة، نتاج العالم المعاصر، ويفترضون أن المفاهيم مثل العولمة والتعددية الثقافية والتنوع الثقافي، هي من اختراعات المجتمعات الحديثة، فكل من يتجاهل التاريخ القديم والجذور القديمة، يتناسى أن التعدد والتنوع طابع الحضارات الرفيعة، حيث تؤكد الإمبراطورية الأموية والعباسية والعثمانية، وقبلهم الإغريق والرومان وبلاد الرافدين ومصر، بأنها كلها كانت تحمل التعددية الثقافية، بدءاً من بنية هذه المجتمعات العرقية والمتميزة بعاداتها وتقاليدها المختلفة، إلى اختلاف أعرافها وجذورها ولهجاتها أو لغاتها، مروراً بالذوق والفن والملبس، وانتهاءً بالديانات الروحية والمذاهب المادية والفكرية.
فهل كان لتصنيف هذه المجتمعات الواسعة، دور في انهيارها، أي تصنيفها استناداً على السلف والإرث البدني واللوني، وبالتالي انعكست المعاملة الاجتماعية والمنافسة، وفق تلك الاختلافات، على الرغم من أن الدول الإثنية والعرقية شكلت يوماً قاعدة حضارية بمشاركة هؤلاء المختلفين، بوصفهم مواطنين، فكان تعميرهم للأرض، إيماناً بأنها لهم جميعاً، فكان الانصهار والصمود والاستمرار، ولكن لفترة ما...
لنتساءل من جديد وحسب القراءة التاريخية: لماذا لم تصمد بعض المجتمعات المتعددة الأجناس والأعراق بالمثل مع نجاح المجتمعات الأخرى؟
قد يظن البعض أن القوانين العادلة في الدولة المتعددة والمتنوعة، نتاج العالم المعاصر. ويفترضون أن المفاهيم مثل العولمة والتعددية الثقافية والتنوع الثقافي، هي من اختراعات المجتمعات الحديثة
لنأخذ مثالاً، وهي الأندلس الإسلامية، وكيف انهارت وتفككت أعظم نهضة حضارية عرفها التاريخ، وكيف تبخر انصهار الأجناس والأعراق والإثنيات، والتي كانت هوية أندلسية واحدة؟ فلم يكن سوى التعصب بين العرب والصقالبة والمولدين والأمازيغ والمستعربين... وكان التعصب سبباً رئيساً لإضاعة دولة، وتناسوا مع فورة التشدد والتزمت والمقارنات أنهم أمة واحدة. وهو من أهم أسباب ذهاب مدنها الواحدة تلو الأخرى، إلى يد الممالك الأوروبية، بدءاً من طليطلة الموجودة في قلب الجزيرة الإيبيرية، تلتها سرقسطة وقرطبة وإشبيلية حتى المعقل الأخير غرناطة.
ما دام هناك ارتحال وهجرات ونزوح ومفارقة مع قبول الأفكار، وخلق تيارات أخرى، فالدول مستمرة بتنوعها الديني والطائفي والقبلي واللغوي والعرقي في أي أرض
ولعل البعض يعتقد أن التعصب مقتصر فقط على الشرق، لكن الغرب له تاريخه العنصري العصبي والعرقي أيضاً، وخاصة عند الإغريق والرومان قديماً، نتيجتها أن تفككت هذه الدول المعروفة بتعددها الطبقي المعروف، كما لم تصمد بسبب التعصب والعنصرية الاجتماعية بين الأفراد، ما أثر على الإدارة الرسمية أو الحكومية ورجالها، خاصة لمن يحاول البحث عن النقاء، والثقافة الأحادية، حتى يصل بعضهم إلى الانعزالية، ويقرأون مجتمعاتهم من بعيد، مما يؤدي إلى تراجع هذه المجتمعات، لتبقى التعددية الثقافية درساً للتعايش والانصهار بين المجموعات العرقية المختلطة، والمختلفة والمتميزة، مع تطبيق القوانين العادلة على جميع الفئات، فهي من أفضل الحلول للمجتمعات المتعددة الثقافة، ولا بد أن تكون هناك قاعدة، تتكل عليها الإدارة الرسمية للاستمرار، فالدولة الأحادية الثقافة هي استثناء نادر، على الرغم من أنه لا وجود اليوم لهذه الدولة الصافية الجذور بالكامل.
وأخيراً، ما دام هناك ارتحال وهجرات ونزوح ومفارقة مع قبول الأفكار، وخلق تيارات أخرى، فالدول مستمرة بتنوعها الديني والطائفي والقبلي واللغوي والعرقي في أي أرض.. ومن المفترض أن يكون التنوع البشري غِنى وارتقاءً، لا مأزق.