الانتخابات الأميركية... شراسة الأيام الأخيرة تضع "القمامة" في قلب الجدل السياسي

رسائل مصورة ذات معان سياسية مهمة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
ترمب يعقد مؤتمراً صحفياً من داخل ناقلة نفايات في مطار غرين باي أوستن ستراوبل الدولي في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2024 في غرين باي، ويسكونسن

الانتخابات الأميركية... شراسة الأيام الأخيرة تضع "القمامة" في قلب الجدل السياسي

كان لافتا دخول "القمامة" في السباق الانتخابي الأميركي الذي يقترب من يوم الحسم المفترض، إذ تبارت حملة المتنافسين، الديمقراطي والجمهوري، وجمهور مؤيديهما في تحويل القمامة إلى نقاط سياسية، في ظل سعي محموم للحصول على أصوات ناخبين، عبر توظيف القمامة، إما كدليل على التكبر والعنصرية، أو التواضع والتواصل مع الناس العاديين.

لم تفلح حملة المرشح الرئاسي الجمهوري، دونالد ترمب، في الرد على الكلام المهين الذي تفوه به أحد الكوميديين، توني هينشكلف، الذين استضافتهم في تجمع انتخابي لها في نيويورك عندما قال: "إن بورتوريكو- وهي أرض تابعة لأميركا ليس لها صفة ولاية- عبارة عن جزيرة عائمة من القمامة وسط المحيط الأطلسي". لم تستنكر حملة ترمب كلام الكوميدي بل اكتفت بالقول: "إن هذا الكلام لا يعبر عن موقفها". ازداد الأمر سوءا عندما فعل ترمب الشيء نفسه بقوله: "إنه لم يسمع كلام هينشكلف" معتمدا على قابلية الإنكار التي يستخدمها كثيرا: "لا أعرفه، أحدهم وضعه هناك على المنصة، لا أعرف من هو".

لا يحق لمواطني بورتوريكو، الذين هم مواطنون أميركيون، التصويت في الانتخابات الرئاسية الأميركية، إذ تقتصر مشاركتهم على الانتخابات التمهيدية، إذا كانوا يقطنون في الجزيرة الواقعة في البحر الكاريبي، والتي تبعد نحو ألف ميل عن أقرب نقطة برية أميركية، وهي مدينة ميامي في ولاية فلوريدا الجنوبية. لكن يحق لأكثر من خمسة ملايين بورتوريكي يقطنون في الولايات المتحدة أن يصوتوا في الانتخابات الرئاسية.

لا يؤثر تصويت هؤلاء في نتيجة هذه الانتخابات إلا في ولايات أربع متأرجحة: بنسلفانيا حيث يشكلون نحو 3.7 في المئة من المصوتين، ونورث كارولينا ويشكلون نحو 1.2 في المئة من المصوتين، وجورجيا وتشكل 1.1 في المئة من المصوتين، وويسكونسن وتشكل 1.1 في المئة. بنسلفانيا هي الأهم بين الولايات المتأرجحة، ففيها أكبر عدد من أصوات المجمع الانتخابي، 19 صوتا، وفيها أيضا العدد الأكبر من البورتوريكيين مقارنة بالولايات المتأرجحة الأخرى، نحو 472,000، فيما يتعادل المرشحان الديمقراطي والجمهوري فيها بـنسبة 49 في المئة لكل واحد منهما، حسب آخر استطلاعات الرأي. بحسب مؤشرات أولية فإن ثمة غضبا متناميا بين هؤلاء البورتوريكيين ضد حملة ترمب بسبب هذه التصريحات، قد يحفز المزيد منهم للتصويت ديمقراطيا. تقليديا يدعم البورتوريكيون، كما معظم اللاتينيين في أميركا، البالغ عددهم حوالي 63 مليون شخص، أي ثاني أكبر مجموعة ديموغرافية في البلد بعد البيض، الحزب الديمقراطي، لكنهم أيضا من أقل الجماعات الإثنية تصويتا في الانتخابات. هنا يكمن جزء من تحدي الديمقراطيين، الذي واجهوه بنجاح في انتخابات 2020، ويتلخص بإقناع أكبر عدد ممكن منهم، ومن بقية الأقليات التي تصوت عادة للحزب الديمقراطي، خصوصا السود، بالتصويت في هذه الانتخابات سواء بريديا أو حضوريا.

الرئيس جو بايدن، المعروف بضعف انضباطه الخطابي، وإطلاق العنان لمشاعره، منح حملة ترمب فرصة للتخلص من الحرج الذي واجهته بخصوص التعليق عن بورتوريكو

لكن الرئيس جو بايدن، المعروف بضعف انضباطه الخطابي وإطلاق العنان لمشاعره، منح حملة ترمب فرصة للتخلص من الحرج الذي واجهته بخصوص التعليق عن بورتوريكو، عندما قال في لقاء مع ناخبين لاتينيين إن "القمامة هي مؤيدو ترمب"، لتنطلق عاصفة من الإدانات تقابلها محاولات الالتفاف على الجملة المهينة، فيما تأكدت المرشحة الديمقراطية، كامالا هاريس، من إبعاد نفسها عن رئيسها عندما قالت: "دعوني أكن واضحة، أختلف بقوة مع أي انتقاد للناس على أساس المرشح الذي يصوتون له". وبسبب جملة بايدن هذه، لم تستطع هاريس استخدام التعليق الذي قاله الكوميدي المؤيد لترمب ضد خصمها الجمهوري.

الانشغال الإعلامي بـ"القمامة" ومعناها في هذا الموسم الانتخابي الساخن، منح ترمب فرصة إضافية من نوع آخر، للرد على واحد من أقوى الانتقادات الديمقراطية الدائمة له، بأنه شخص غني منذ الولادة، ولا يشعر بما يشعر به الناس العاديون. أمام الكاميرات في ولاية ويسكونسن، نزل الرجل من طائرته مرتديا ملابس جامعي القمامة، ليتجه إلى شاحنة جمع قمامة بانتظاره، عليها شعار حملته الانتخابية "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" ومن داخل الشاحنة التي تحركت، أجاب ترمب على أسئلة الصحافيين. 

كان ردا ذكيا على تعليق بايدن، ويتسق أيضا مع شخصية ترمب التي فيها ولع معروف بلعب أدوار في "تلفزيون الواقع" وفي متابعة هذا النوع من البرامج التلفزيونية. قبل ذلك بأيام، ظهر أيضا في ولاية بنسلفانيا، كعامل في مطعم ماكدونالد الشهير، يسلم وجبات الطعام من شباك المطعم للزبائن. تدرك حملة ترمب جيدا أهمية إرسال مثل هذه الرسائل الصورية لجمهور واسع في الولايات المتأرجحة يهمه الاقتصاد، ويعاني من غلاء الأسعار، وهي النقطة الأقوى في الحملة الرئاسية الجمهورية، لأنها تظهر مرشحها في موضع التعاطف والفهم، لمعنى مثل هذه التجارب التي يعيشها محدودو الدخل.

في حقيقة الأمر نجحت حملة ترمب عبر هذه الأساليب وغيرها، من ضمنها زيارات كثيرة لمناطق في هذه الولايات، وجهد ترويج إعلامي كثيف، في تقليل الفارق بينها وبين هاريس، وحتى التفوق البسيط عليها في بعض الولايات مثل جورجيا ونورث كارولينا. لكن الولايات الحاسمة للديمقراطيين بين هذه المتأرجحة هي بنسلفانيا وويسكونسن وميشيغان، فإذا استطاعت هاريس الفوز بهذه الولايات الثلاث- وحملتها تبذل جهودا كبيرة في هذه الولايات- إضافة إلى الولايات الأخرى الديمقراطية المضمونة، مما يعرف بالجدار الأزرق- فضلا عن صوت واحد مضمون تقريبا في ولاية نبراسكا، فإنه سيكون بمقدورها الحصول على 270 صوتا في المجمع الانتخابي لتصبح الرئيسة المقبلة للولايات المتحدة. وهذا هو الحساب الانتخابي الأسهل للديمقراطيين للاحتفاظ بالبيت الأبيض.

من هنا تظهر أهمية ولاية ميشيغان، وتصاعد الاهتمام الديمقراطي بالصوت العربي فيها، خصوصا بعد أن أظهرت استطلاعات مختلفة أن عددا كبيرا من العرب فيها، قد يتجاوز النصف، انتقلوا إلى المعسكر الجمهوري، في ضوء إحساسهم بالخيبة العميقة من الحزب الديمقراطي، ورفضه التعاطي مع مطالبهم، بخصوص إيقاف "حرب غزة" واتباع سياسة أشد صرامة نحو إسرائيل. لكن التصويت العربي ليس واحدا ومتناسقا بالضرورة، فمعظم اليمنيين الذين يبلغ عددهم في الولاية نحو 35 ألفا، سيصوتون لترمب لاعتبارات أخرى، بينها موقفه المتشدد من "الحوثيين" فضلا عن أجندته المحافظة اجتماعيا، ووعوده لهم بإزالة التمييز الذي يشعرون به في تولي المناصب العامة بمدينة ديربورن ذات الأغلبية السكانية العربية حيث يشكلون ثاني أكبر مجموعة عربية بعد اللبنانيين- الذين تدور بعض دعاوى التمييز اليمينية ضدهم.

أمام الكاميرات في ولاية ويسكونسن، نزل ترمب من طائرته مرتديا ملابس جامعي القمامة، ليتجه إلى شاحنة جمع قمامة بانتظاره، عليها شعار حملته الانتخابية "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"

 كانت زيارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون إلى ميشيغان مؤخرا، دليلا على هذا الاهتمام الديمقراطي، المتأخر نسبيا، بالحصول على أقصى ما يمكن من دعم عربي. لكن يبدو أن الرجل أثار السخط بين الجمهور العربي هناك، عبر تناوله الموضوع الخطأ، والمستفز لهذا الجمهور، والمعبر عن الموقف الرسمي للإدارة والحزب الديمقراطيين، أي حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وضرورة تفهم موقفها، بدلا من التوقف عند المعاناة الإنسانية للفلسطينيين، وما الذي ستفعله إدارة ديمقراطية مقبلة في البيت الأبيض لإنهائها، ووضع نهاية لهذه الحرب، دخل كلينتون البالغ من العمر 78 عاما في محاججة سياسية وتاريخية طويلة لتبرير شن إسرائيل هذه الحرب، مستعيرا بعض الحجج الإسرائيلية، بخصوص سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين: "أفهم لماذا يعتقد الفلسطينيون والعرب الأميركيون الشباب في ميتشيغان أن عددا كبيرا جدا من الناس قتلوا. أفهم هذا، لكنك لو عشت في واحد من الكيبوتسات في إسرائيل المحاذية لغزة، حيث الناس الأكثر وداً نحو فلسطين، الأشد تأييدا لفكرة حل الدولتين من أي مجموعة إسرائيلية أخرى، وحماس قتلتهم".

أ.ف.ب
نائبة الرئيس الأميريكي والمرشحة الديمقراطية للرئاسة كامالا هاريس تتحدث خلال تجمع انتخابي في مركز رينو إكسبو في رينو بولاية نيفادا في 31 أكتوبر 2024

واصل الرجل إعادة إنتاج هذه الحجج، ليتركز كلامه حول سوء "حماس": "ما الذي ستفعله إذا كانت هذه عائلتك، ولم تفعل أي شيء سوى دعم دولة فلسطينية، لكنهم يأتون لقتلك في أحد الأيام... تتأكد حماس من أنها تختبئ وراء المدنيين، هي تجبرك على قتل المدنيين إذا كان عليك أن تدافع عن نفسك". وفي آخر المطاف، بعد لومه ياسر عرفات على عدم القبول بالصفقة التي عرضها عليه في 1999 لتنفيذ حل الدولتين، طلب كلينتون من جمهوره أن "يحتفظ بعقل مفتوح".

رغم سوء الأداء هذا، لا تزال فرصة الديمقراطيين معقولة في ميشيغان، فحسب آخر استطلاع للرأي فيها، تتقدم هاريس على ترمب بثلاث نقاط، بنحو 48 في المئة لها، في مقابل 45 في المئة لخصمها. مع ذلك، فإن استطلاعات الرأي نفسها أصبحت مثار شك، خصوصا أن الكثير من مؤيدي ترمب يتجنبون المشاركة فيها، معتبرين أن المؤسسات التي تجريها هي جزء من "الدولة العميقة". 

في ظل مشهد انتخابي شديد الاحتقان السياسي، يقترب من النهاية، ولا يزال الغموض يهيمن عليه، بسبب تقارب الأرقام، لا يبدو أن الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني سيكون حاسما إذا لم تنتج صناديق الاقتراع حينها فائزا واضحا، يمنع فوزه الطرف الآخر من المضي في درب المحاكم، لحسم النزاع على النتائج. حينها سيعني هذا التكرار لمشهد عام 2020 أن ترمب، كظاهرة وليس كشخص، ترتاب بالمؤسسات، وتهز ثقة الجمهور فيها، باقية وتمتد إلى سباقات انتخابية رئاسية مقبلة.

font change

مقالات ذات صلة