قلب العالم... هذا الشرق الأوسط المتخم بإرثه التاريخي في حالة اصطدام عمودي مع جغرافيته المتوسطة "والمتوسطية" سيدفع الأثمان الباهظة أملا في قبض استحقاقات الدخول في عالم جديد ومختلف، عناصره المستحدثة قائمة على سلاسل التزويد الآمنة بين آسيا وأوروبا، وكذلك مفهوم جديد للطاقة التي تعمل على تشغيل الكوكب بكل ما فيه.
الحديث عن شرق أوسط جديد ليس حديثا مستجدا، للجدل حول ذلك تاريخ موثق بكتب ومقالات وأطروحات وقراءات كثيرة كان أكثرها لدى كونداليزا رايس مثلا، وقبلها شمعون بيريز وحتى بنيامين نتنياهو في مكانه المتخيل تحت الشمس.
كلها رؤى ونظريات وتصورات لم تصل إلى مراحل التجلي الأخير على أرض الواقع.
اليوم، هناك شرق أوسط جديد يتشكل، لكن ليس على أسس نظريات مطروحة أو سيناريوهات موضوعة مسبقا، بل على أساس ما يفرضه واقع التغيير المستحق الذي لن ينتظر أحدا، شرق أوسط ربما سيكسر حائط "سايكس بيكو" ويثبت أنه رسم طباشيري بسيط على الأرض، مما يعني أن هناك دولا ستتقلص وبالضرورة الفيزيائية لحالة التقلص فإن دولا ستتوسع.
باختصار، ليس هناك حتى اللحظة (ونحن في لحظة التغيير الحقيقي فعليا) أي تصور واضح لأي شيء، وكل ما يحدث اليوم أن الوقائع على الأرض هي التي تمهد الطريق لبناء أي تصورات قادمة.
منظومة العلاقات الدولية لها أدواتها الجديدة، لأن المعطيات تغيرت، وهي معطيات فرضتها الثورة المعرفية الجديدة القائمة على تكنولوجيا المعرفة والثورة الرقمية
ومن المعطيات التي يمكن اعتمادها في تحليل ما يحدث في تلك البقعة الجغرافية مفهوم "سلاسل التزويد" التي لم تكن مفهوما دارجا، حتى بدأت بالتكرار المستمر على أسماعنا قبل سنوات قليلة، بعد جائحة كورونا ثم تلك الحرب في أوكرانيا.
إن العالم لم يعد يحتمل اختناقات جديدة، والاقتصاد العالمي معرض للانهيار الكلي وهذا كله مرتهن بحساسية "سلاسل التزويد" تلك.
والشرق الأوسط هو الجسر الأكبر جغرافياً لربط الهند وآسيا بأوروبا والعالم الجديد، ولأنه كذلك، فإن التسويات ضرورة حتمية مهما بلغت الكلف البشرية، وهذا يعني مراجعات حتمية في إعادة بناء وتأهيل الدول لكي لا تستمر ظاهرة "الميليشيات" او ما يسميه خبراء السياسة "non state actors" بالتمدد والانتشار، والحرب اليوم– لو دققنا جيدا- هي حروب ميليشيات، وتستهدف القضاء على تلك الميليشيات. وهي ميليشيات سمح لها بالظهور فشل مفهوم "الدولة" في كثير من الأقطار.
مراجعات ضرورية لترسيخ مفاهيم جديدة مبنية على ضرورة التكامل في الإقليم ليخرج من صراعاته الأزلية مرة واحدة وإلى الأبد، والطريق قد يبدأ بحروب نشهدها اليوم، لكنها لن تنتهي بعد انتهاء الحروب، فالحرب الأخطر هي بناء ذلك الإنسان الذي يحتاج بناء وعيه الإنساني تكاليف تساوي كل تكاليف تلك الترسانة الحربية التي أبادت ودمرت ومسحت تفاصيل عن وجه الأرض.
مراجعات ضرورية لترسيخ مفاهيم جديدة مبنية على ضرورة التكامل في الإقليم ليخرج من صراعاته الأزلية مرة واحدة وإلى الأبد، والطريق قد يبدأ بحروب نشهدها اليوم
الحرب (وهي قائمة فعليا) هي حرب مفتوحة، والحروب المفتوحة تفتح المجال لتطبيق ما كان ممنوعا التفكير به، من هنا فإن عمليات التغيير الديموغرافي والسكاني وإعادة توطين البشر من جغرافيا إلى جغرافيا ستكون تحصيل حاصل تحت ساتر دخان الحروب والدم والرعب وبتسميات ناعمة وقانونية مثل "حماية المدنيين" أو "النزوح الآمن"، وهذا ليس مقتصرا على أكبر جبهات الترحيل وضوحا: الضفة الغربية أو غزة، بل سيشمل مناطق وجيوبا في سوريا المعرضة منذ بداية حربها الطاحنة إلى تقلصات في جغرافيتها التقليدية.
أردنياً كان هناك محاولات سعي لفتح جبهة الجولان من قبل "حرس ثورة" إيران، الثورة التي تصارع نفسها مع بوادر انتهاء الأيديولوجيا الدينية فيها للعودة إلى الأصول الحاكمية الراسخة في الوجدان التاريخي لإيران.
زيارة وزير الخارجية الأردني إلى دمشق ولقاؤه الرئيس بشار الأسد كانت لفرد أوراق سياسية حيوية وملف أمن الجنوب السوري في حال تصعيد تلك الجغرافيا المضطربة هناك، والبحث عن مفردات لغة مشتركة جديدة مع دمشق التي انقلبت على "حزب الله" وإيران وتسعى لتقديم أوراق اعتمادها من جديد في كل الترتيبات الجديدة.
تلك جبهة من جبهات "حرب" صامتة تخوضها الدولة الأردنية على حدودها من كل جانب إلا الجنوب، مستندة إلى الظهير السعودي الداعم والممتلئ بالحكمة والاستيعاب، وأخطر جبهة هي جبهة الأردن الداخلية التي تخوض فيها الدولة معركة إصلاح، التسريع فيها محفوف بمخاطر، والبطء في تطبيقها يمنح الخصوم "وهم كثر ومتنوعون" فرصة للدخول عبر الثغرات الكثيرة.
ستنتهي تلك الحرب، في غزة ستنتهي، وفي لبنان أيضا، لكنها ستفتح الباب واسعا لمراجعات عميقة ستكون كل تصورات الشرق الأوسط الجديد عنوانها، والعالم كله متورط في تلك المراجعات لأن العالم أيضا في طور التغيير الجذري والأعمق.
منظومة العلاقات الدولية لها أدواتها الجديدة، لأن المعطيات تغيرت، وهي معطيات فرضتها الثورة المعرفية الجديدة القائمة على تكنولوجيا المعرفة والثورة الرقمية، منصة جديدة للتعامل والتواصل مختلفة عن كل ما سبق، ومن المعطيات الجديدة ذلك التحول في مفهوم الطاقة من النفط إلى مصادر طاقة جديدة وحيوية أهمها ذلك الغاز الذي يموج تحت باطن الأرض والبحر، والمفارقة أنه متوفر وبكثرة في ذلك الشرق الأوسط المشغول بحروبه وقبائله وموروثه وتاريخه المتخم بالخيبات والثأر.