انشقاقات "الدعم السريع"... نهاية الحرب أم بداية فصل جديد؟

تساؤلات جوهرية حول مستقبل السودان

رويترز
رويترز
قائد "قوات الدعم السريع" محمد حمدان دقلو، لدى وصوله إلى اجتماع في قرية أبراج، على بعد 60 كيلومترا من الخرطوم، السودان، 22 يونيو 2019

انشقاقات "الدعم السريع"... نهاية الحرب أم بداية فصل جديد؟

يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024، أعلن القائد الميداني لـ "قوات الدعم السريع" في ولاية الجزيرة، أبو عاقلة كيكل، انشقاقه، وسلم نفسه لقوات الجيش السوداني.

كيكل لا يختلف كثيرا عن قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو المعروف بـ "حميدتي"، فهو لم يلتحق بالكلية الحربية، ولم يتلق أي تعليم أو تدريب عسكري نظامي، ولكنه انخرط محاربا في صفوف ميليشيات نظام البشير المختلفة، ثم عمل في ملفات مثل تهريب السلاح، وأتهم بأعمال إجرامية في منطقة "سهل البطانة"، شرق ولاية الجزيرة التي تنحدر أصول كيكل منها.

وفي أعقاب انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي أنهى مسيرة التحول المدني الديمقراطي في السودان، أعلن كيكل عن تشكيل "ميليشيا جهوية" تحت اسم "قوات درع الشمال". أعلنت هذه القوات أنها مكونة من 75 ألف مقاتل، وطالبت بإلغاء "اتفاقية جوبا للسلام" التي تم توقيعها بين حكومة الفترة الانتقالية، وحركات الكفاح المسلح في دارفور والمنطقتين (جنوب كردفان وجبال النوبة) في أكتوبر 2020. وكان من الواضح في تكوينها وخطابها، هيمنة المكونات التي كانت تنتمي إلى "قوات الدفاع الشعبي" وبقية الميليشيات الأيديولوجية التي تم إنشاؤها خلال عهد حكم الرئيس المخلوع عمر البشير على هيكلتها وصياغة اتجاهاتها.

وقد أعلنت قوات كيكل فور تكوينها، ولاءها ودعمها لقطبي الانقلاب، الجيش و"الدعم السريع"، المتحالفين حينها، والمتحاربين الآن. وفور اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، أعلن كيكل وقواته انضمامهما إلى "قوات الدعم السريع"، وتولى قيادة هجوم "الدعم السريع" على ولاية الجزيرة في 21 ديسمبر/كانون الأول 2023، وتولى منصب قيادة الميليشيا في الولاية. وبالإضافة إلى ذلك، قام كيكل في مارس/آذار 2024، بالإشراف على تكوين الإدارة المدنية لولاية الجزيرة التابعة لـ"قوات الدعم السريع"، والتي جاءت تنفيذاً لاتفاق "حمدوك-حميدتي" الموقع بين "تحالف تقدم"، و"قوات الدعم السريع" في أديس أبابا في يناير/كانون الثاني 2024.

تورط كيكل بشكل مباشر في كثير من جرائم الحرب في ولاية الجزيرة خلال فترة الحرب، مثل "مجزرة ود النورة" في 5 يونيو 2024

وقد تورط كيكل بشكل مباشر في ولاية الجزيرة خلال فترة الحرب، واتهم بدور في "مجزرة ود النورة" في 5 يونيو/حزيران 2024، حين قام مقاتلون باقتحام قرية "ود النورة" في هجومين متعاقبين، وقتل واعتقال وتعذيب المئات من سكان القرية، ذلك غير عشرات من اتهامات أخرى، كما أفادت شهادات الناجين والهاربين من الجحيم، الذي فتحت أبوابه الميليشيا على "ولاية دارفور"، بإشراف كيكل بشكل مباشر على الإتاوات التي فرضت على المواطنين والتجار الذين كانوا يحاولون الخروج من ولاية الجزيرة بعد اجتياحها، وفرض السيطرة عليها.

أ ب
عناصر من "قوات الدعم السريع" في شرق النيل في 22 يونيو

ومنذ إعلان انشقاق كيكل في 20 أكتوبر، شنت "قوات الدعم السريع" حملة عنف انتقامية واسعة النطاق ضد مناطق شرق الجزيرة، التي ينحدر منها قائدها المنشق. وأفاد "منبر مؤتمر الجزيرة"، وهو تجمع محلي لأبناء ولاية الجزيرة تأسس في يوليو/تموز 2024، بأن عدد القتلى في مدينة تمبول تجاوز 300 شخص في يوم واحد (22 أكتوبر 2024) جراء حملة العقاب الجماعي التي شنتها الميليشيا. كما سبق ذلك هجوم مماثل شنته "قوات الدعم السريع" في 21 أكتوبر على مدينة رفاعة، شمل عمليات قتل واسعة النطاق بلغ عدد ضحاياها 100 شخص، بالإضافة إلى نهب للمنازل والممتلكات، واغتصاب للنساء على نطاق واسع، وحالات غير محصورة من اختطاف الفتيات واختفائهن، وتواردت أنباء عن اتصالات من جنود الميليشيا لطلب فدية بمبالغ كبيرة، لإطلاق سراح المختطفات، وفي 23 أكتوبر، قامت ميليشيا "قوات الدعم السريع" باقتحام مدينة الهلالية، وارتكاب جرائم مماثلة.
وشهدت قرية السريحة، التي استمر هجوم الميليشيا عليها ليوم كامل منذ الساعات الأولى لفجر يوم الجمعة 25 أكتوبر، أكبر عدد للخسائر البشرية جراء حملة الميليشيا الانتقامية. وبلغ العدد الكلي للقرى التي اقتحمتها الميليشيا في تجريدة العنف الجماعي التي لا تزال متواصلة، 100 قرية في منطقة شرق الجزيرة وحدها.

وثق عدد من شهود العيان، بالإضافة إلى تسجيلات فيديو، حوادث انتهاكات ضد الأطفال والصبيان وتصفيتهم، وسط صيحات جنود "قوات الدعم السريع": "اقتل كيكل صغيراً قبل أن يكبر"

وقد وثق عدد من شهود العيان، بالإضافة إلى تسجيلات فيديو، حوادث انتهاكات ضد الأطفال والصبيان وتصفيتهم، وسط صيحات جنود "قوات الدعم السريع": "اقتل كيكل صغيراً قبل أن يكبر"، وهتافات أخرى تدعو إلى تصفية أهالي المنشقين والخونة على حد تعبيرهم. وامتدت حملات الميليشيا الانتقامية إلى مناطق الكاملين والحلاوين، وقرى أخرى في شمال ووسط الجزيرة، بالرغم من عدم ارتباطها بكيكل.

أ.ف.ب
شارع في مدينة أم درمان تضرر من الحرب الأهلية في السودان، 7 أبريل

وسارع صديق عثمان أحمد، رئيس الإدارة المدنية التي عينتها "الدعم السريع" لولاية الجزيرة لإصدار بيان صحافي وصف ما قام به كيكل بأنه: "خيانة للقضية والوطن لن يزيدهم إلا إصراراً وقوة وتماسكاً"، وأن قضيتهم "لن تموت بموت أحد، أو بذهاب أحد أو بخيانة خائن". وفيما سكت بيان صديق أحمد (الذي ينتمي لحزب "الأمة القومي"، أحد التنظيمات المكونة لـ"تحالف تقدم" الذي يرأسه رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك) عن تناول الانتهاكات والمجازر التي ترتكبها الميليشيا في أطراف ولاية الجزيرة، نجد أن تصريحاته هذه تتعارض بشكل كلي مع تصريحاته السابقة، التي حاول فيها نفي الارتباط بين إدارته المدنية وميليشيا "قوات الدعم السريع" والادعاء بأنها جاءت عبر الانتخابات من قبل المواطنين. 
وفي سياق مرتبط، ورغم انتقاد "تحالف تقدم" للجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها الميليشيا في ولاية الجزيرة منذ انشقاق كيكل، نجد أن "التحالف" لا يزال متمسكاً بعدم إلغاء اتفاق "حمدوك-حميدتي" الموقع في أديس أبابا في مطلع عام 2024، رغم أن مبرراتهم لهذا الاتفاق كانت في الحفاظ على حياة وأرواح المدنيين في مناطق سيطرة "الدعم السريع". وهو ما لم يترجم على أرض الواقع، بل ازدادت الأوضاع سوءاً منذ توقيع الاتفاق، وحتى انفجار حملة "الدعم السريع" الانتقامية بعد انشقاق قائدها كيكل. 

ولم تتوقف الانشقاقات في صفوف الميليشيا. ففي يوم السبت 26 أكتوبر 2024، وصل خمسة من مستشاري "حميدتي" إلى بورتسودان وأعلنوا انشقاقهم. وكشف أحدهم (وهو المسؤول عن شرق السودان في المجلس الاستشاري لحميدتي) في مؤتمر صحافي أقاموه فور وصولهم إلى بورتسودان عن أن الأسباب الكامنة وراء اندلاع الحرب، كانت مخطط قائد "الدعم السريع" للسيطرة على ساحل البحر الأحمر، لصالح دولة أجنبية أرسلت وفدها برفقة القوني شقيق "حميدتي" إلى السودان، للإعداد لمشاريع على الساحل الشرقي للسودان، منها ميناء "أبو عمامة" وهو ما كان يعارضه قادة الجيش، مما أدى إلى اندلاع الحرب. 
وأشار إلى أن" قوات الدعم السريع" كانت تخطط لإنشاء 16 معسكرا في ولاية البحر الأحمر، وثلاثة مطارات، وتأسيس قوات للبحرية. وأضاف: "أبلغنا حميدتي بأن هذه المشروعات مع شركاء خارجيين بتمويل قدره 30 مليار دولار على دفعتين". كما أبلغهم بنية "الدعم السريع" نشر 30 ألف مقاتل في شرق السودان، وأنه سيستولي على السلطة حال لم تتم الموافقة على هذه المشروعات.

الأطماع السياسية، والأجندات الخارجية التي طالما حرص قائد ميليشيا "الدعم السريع" على تحقيقها وخدمتها، كانت هي دافعه وراء التخطيط للانقلاب في 15 أبريل 2023

تبدو هذه التصريحات من قبيل التزيد من قبل المستشارين المنشقين في إدانة "الدعم السريع" باندلاع الحرب، في محاولة بائسة لتبرئة ذمتهم، وتجنب تحمل المسؤولية عن القرارات التي شاركوا في اتخاذها، وتصريحهم بها الآن بعد أكثر من 18 شهراً على اندلاع الحرب، ينزع عنها أي منزلة أخلاقية سامية أو صوابية سياسية في تقييم موقفهم الأخير، ولكنها تشير إلى الدور الأساسي للصراع حول السيطرة على شواطئ البحر الأحمر، في النزاع والأزمة السودانية. وكما أن طموحات ميليشيا "قوات الدعم السريع" في التوسع والسيطرة على السودان كانت واضحة للعيان قبل اندلاع الحرب. وأبرزها كان إرسال قواتها لمحاصرة "قاعدة مروي الجوية" الواقعة في شمال السودان في الثالث عشر من أبريل 2023، أي قبل يومين من اندلاع الحرب بشكلها الشامل الحالي، والتي كانت بمثابة إعلان صريح عن نواياها العدوانية. 
كما أن الحشود العسكرية الضخمة للميليشيا، والتي شهدتها الخرطوم خلال الأسابيع التي سبقت الحرب، والتي تضمنت آلاف المقاتلين من المرتزقة، كانت دليلاً قاطعاً على استعداداتهم المسبقة لشن هجوم شامل واسع النطاق للسيطرة على الخرطوم، والمناطق الاستراتيجية فيها، فإن الأطماع السياسية، والأجندات الخارجية التي طالما حرص قائد "ميليشيا الدعم السريع" على تحقيقها وخدمتها، كانت هي دافعه وراء التخطيط للانقلاب في 15 أبريل عام 2023، وتنفيذه. وأدى فشل هذا الانقلاب إلى اندلاع هذه الحرب الطاحنة التي دمرت البلاد. ولكن مع تفكك الميليشيا، وتقدم الجيش لاستعادة المناطق التي سيطر عليها "الدعم السريع" سابقاً بدأ الهروب من السفينة الغارقة. كما يأتي هذا الهروب العظيم من صفوف الميليشيا بعد خطاب حميدتي الأخير، والذي صعّد فيه لهجة الخطاب والتهديد بالحرب الشاملة- وكأن الوضع يمكن أن يسوء أكثر- بشكل جاء على خلاف لهجة خطابه في السابق. وكل هذا يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل السودان.

رويترز
الدخان يتصاعد فوق المباني بعد قصف جوي خلال اشتباكات بين "قوات الدعم السريع" والجيش السوداني في الخرطوم، 1 مايو 2023

فكيف يمكن التعامل مع بقايا "الدعم السريع" التي قد تستمر في القتال بدعم خارجي قد يقامر باستمرار الحرب في جيوب متفرقة من البلاد؟ وما هو مصير القيادة السياسية لـ "السريع"، خاصة بعد فرض العقوبات الأميركية على القوني حمدان دقلو، الشقيق الأصغر لقائد "الدعم السريع"، والذي كان يُنظر إليه كخليفة محتمل في قيادتها ومشروعها السياسي؟ وكيف يمكن منع تحول انزلاق السودان إلى دوامة شمولية عسكرية جديدة؟
يطرح الواقع السوداني الحالي تحديات اجتماعية عميقة، حيث أدت السياسات الاستقطابية إلى تعميق الخلافات القبلية والإثنية، وهو ما يحتاج إلى عمل جاد، وعملية مصالحة وطنية على المستويات القاعدية، تكون قادرة على تجاوز هذه الانقسامات، وبناء مجتمع سوداني متماسك. كما ستظل قضايا العدالة والمحاسبة، ونماذج العدالة الانتقالية والحقيقة، والمصالحة المطلوبة للواقع السوداني والملائمة له، قضية عالقة بخصوص ما حدث خلال هذه الحرب وما سبقها. 
أخيرا، يبقى التحدي الأكبر هو حماية مسار التحول الديمقراطي المدني وإصلاح مؤسسات الدولة، بحيث تصبح خادمة للمواطن بعيدا عن التجاذبات السياسية والأيديولوجية، وهو ما يتطلب بناء دولة مؤسسات قوية، تحترم سيادة القانون، وتضمن العدالة الاجتماعية.
يجمع المتابعون والمعنيون للشأن السوداني، ان ما نشهده اليوم يمثل نكسة كبيرة لتطلعات الديمقراطية والسلام في السودان بل والمنطقة بأسرها، فالحرب التي أشعلتها الأطماع الشخصية والأجندات الخارجية، دمرت الكثير من المكتسبات التي حققها الشعب السوداني خلال مسيرة ثورته منذ ديسمبر 2018. وإذا لم يتم وقف هذا النزيف، فإن تداعياته لن تقتصر على السودان فحسب، بل ستمتد لتؤثر سلبا على استقرار المنطقة بأسرها.

font change

مقالات ذات صلة