يعيش أهل المجتمع الشيعي اللبناني اليوم أهوالًا تفوق الوصف، وهم يعيشونها مروعين، مقتلعين ومشردين وفي صمت مهول، وسط الرعب والقتل والأنقاض، إنها نكبة كبرى من الصعب بعدُ التكهن بمآلها، طالما أنها لا تزال في طور الحدوث.
لكن بعد الذي حدث ولا يزال يحدث، هل يمكن الاكتفاء بالكلام على هول الوحشية الإسرائيلية في القتل والتدمير وارتكاب المجازر، من دون التفكير فيما فعله "حزب الله" طوال عقود في ضاحية بيروت الجنوبية، ومراجعته ووصفه، ولو جزئيا؟
في الحلقة الأخيرة من سلسلة هذه التحقيقات- الشهادات الوثائقية عن الأطوار والتحولات التي عرفتها الضاحية الجنوبية، نصف هنا وجهًا من وجوه العالم، الذي أنشأه وأرساه "حزب الله" في بعض أحيائها.
هادي نصرالله والحياة الشمولية
مطالع تسعينات القرن العشرين، تكاثر العمران الجديد في "حي الأبيض" على مساحات من بقايا بساتين "حارة حريك"، قبل أن يخترقها الأوتوستراد الجديد الذي سمي بـ "أوتوستراد هادي نصرالله"، نجل حسن نصرالله أمين عام "حزب الله"، والذي قتل في عملية عسكرية إسرائيلية سنة 1997. وفي النصف الثاني من التسعينات، ازدهر تشييد البنايات الجاهزة في الحي، فأقبلت فئات جديدة من الموظفين والمهنيين المتوسطي الحال الشيعة، على شراء شققها المتوسطة الجودة والأسعار، وغير الشعبية، بمعايير العمران في الضاحية الجنوبية. وقد يكون إنشاء الأوتوستراد الجديد من الأسباب التي عجّلت في تبدل نمط الحياة الخاص الهادئ و"المدني" في "حي الأبيض"، نحو تجانسه مع النمط العام السائد في ضاحية "حزب الله" وعاصمة سلطة "مربعه الأمني". فالأوتوستراد شكل مساحة عامة واسعة جديدة لاحتفالات "الحزب" ومناسباته الكثيرة التي يحشد فيها جمهوره العريض المدرب تدريبا آليا على الاحتشاد والتعبئة في أيامه المشهودة.
وحسب شهادة شخص من سكان "حي الأبيض"، كانت بنايات الحي قد امتلأت شققها السكنية بمن اشتروها بالتقسيط، وتملكوها في بداية الألفية الثالثة. كان الساكنون في معظمهم تقريبًا أسرًا نواتية شيعية فتية وجنوبية المنبت، لكن هذا الانتساب الموروث الذي يشمل معظم سكان الحي الجديد، لم يكن ليتجاوز التسمية والتعريف العاديين، فلا يشكل هوية أهلية وعضوية، حية ويومية وجامعة، لا في فضاء الحي العام، ولا في حياة ساكنيه الخاصة، فهم لم يجعلوا شيعيتهم وجنوبيتهم علمًا على تعارفهم وعلاقاتهم، التي لم تكن لتقتصر على الحي والمنطقة، بل تمتد إلى خارجهما، فتتوزع شبكاتها وتتنوع في بيروت.
فبعض بنايات الحي لم تكن تخلو من بعض ملاك وساكنين من طوائف ومنابت غير شيعية، ومن زواجات مختلطة بين شيعة وسنة ودروز. وهذه حال أخت الراوي المتزوجة من سني، والمقيمة وأسرتها في البناية التي يسكنها، وهناك قريب له متزوج من درزية ومقيم في بناية قريبة. لكن قلة الاختلاط الطائفي في السكن والزواج في الحي، ما كانت لتحمل سكانه على الشعور، بأنهم متجانسون طائفيا، أو أن شيعيتهم تشكل حدّا جامعًا مانعًا في سلوكهم ونمط حياتهم اليومية.
قد يكون الوسط الاجتماعي الشيعي هذا، هو الذي عمل "حزب الله" في بدايات ظهوره أواسط ثمانينات القرن الماضي، على تطهير الطائفة الشيعية منه، فشن عليه حملات حصار وترويع، وقام بتصفية ناشطيه من القوميين واليساريين، واغتيالهم في الضاحية الجنوبية وبيروت والجنوب. هذا قبل أن يخنق لاحقًا بقايا فئات هذا الوسط الشيعي، يحطمها أو يستتبعها، طوال التسعينات، وبعد أعراسه التحريرية سنة 2000. والأرجح أن "حي الأبيض"، بسكانه واجتماعه على تخوم مربع "حزب الله" الأمني، كان من ضحايا سعي "الحزب" المحموم إلى احتلال أو ابتلاع الطائفة الشيعية أمنيًا وجغرافيًا وسياسيًا، وتحويلها جمهورَ حزب شمولي وجمهورية عسكرية شمولية للخوف والتخويف.