سطوة الصورة ودورها في الدعاية الحربيّة في عصر الإنترنت

تلعب دورا محوريا في الحرب النفسية

AFP
AFP
صورة تاريخية تُظهر هجوم جنود بريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى.

سطوة الصورة ودورها في الدعاية الحربيّة في عصر الإنترنت

لم يعد في إمكان البشر فهم أو حتى فرز هذا الفيض من المعلومات والصور والمشاهد. لا بل بتنا غارقين في بحر واسع منها، خاصة صور ومشاهد الحرب والعنف، يرافقها هطول غزير من التحليلات والخطابات والحوارات والأخبار وغيرها، على مواقع ومنصات باتت في متناول الجميع، حتى صرنا كمن يمشي ضمن الضباب الكثيف أو الدخان، غير قادرين على الرؤية أو الفهم.

الصورة هي أقدم طريقة تعبير عند الإنسان منذ رسومه على جدران الكهوف، وقد تطورت وتوسّعت مجالاتها الحياتية. فقبل عصر الكاميرا كانت هناك الرسومات التي تعبر عن الجوانب المتنوعة، ومنها المعارك والحروب، خاصة لناحية توثيق الانتصارات وتمجيد السلطة، أو الحاكم، على حساب الجوانب الأخرى من الحروب، وهي الضحايا البشرية والخسائر بأنواعها. أما الصورة الفوتوغرافية بعد اختراع الكاميرا، فيمكن القول إن انطلاقتها التأسيسية كانت في بدايات القرن العشرين.

الصورة والدعاية الحربية

منذ الحرب العالمية الأولى، قبل قرن وعقد، بدأت الصورة تشكل فعليا فكرة الحرب التي صارت مشهدا بصريا تصنع منه الصور وتنقل في مجموعة متنوعة من الوسائط، في حين أن الآثار على الناس ومعاناتهم لا تزال موضع تجاهل إلى حد كبير.

كانت النشرات الإخبارية آنذاك، أقدم أشكال الأخبار، ثم جاء استخدام الكاميرا. كان التصوير الفوتوغرافي للحرب العالمية الأولى رائدا، ليس فحسب بسبب اندماجه في دعاية الدولة، ولكن أيضا بسبب محتواه. لقد شكلت الصورة مثالا صارخا على ثورة إعلامية. هذا ما وصفه المؤرخ والديبلوماسي الأميركي جورج كينان (1904ـ2005) بقوله إنها أول حرب دعائية شاملة في تاريخ العالم في ما يتعلق باستخدام الأفلام والتصوير الفوتوغرافي.

كان التصوير الفوتوغرافي للحرب العالمية الأولى رائدا، ليس فحسب بسبب اندماجه في دعاية الدولة، ولكن أيضا بسبب محتواه


استخدم الإنكليز والفرنسيون المصورين في حرب القرم 1855/1856، وكانت الصور أيضا جزءا من ترسانة الدعاية في الحرب الأهلية الأميركية من 1861 إلى 1865، وفي حرب البوير الجنوب أفريقية (1899-1902). لكن الحكومات سيطرت خلال الحرب العالمية الأولى، على إنشاء الصور والرقابة عليها وإرسالها إلى وسائل الإعلام مع سلطات راسخة، للمرة الأولى في تاريخ الحروب. وإذا رجعنا إلى التاريخ فسوف نرى أن مكتب الصورة والأفلام في المانيا، "بوفا"، قام بتجميع دعاية الصور والأفلام من يناير/ كانون الثاني 1917، بينما كان المكتب الصحافي الحربي مسؤولا في النمسا. وكانت الحكومة البريطانية أسّست "مكتب الدعاية الحربية" في أغسطس/ آب 1914، وفرنسا "Maison de la Presse" في فبراير/ شباط 1916، وأنشأت الولايات المتحدة "لجنة الإعلام العام" بعد أيام قليلة من دخول الحرب في أبريل/ نيسان 1917.

GettyImages
صورة تظهر مشهدا من حرب القرم، أول صراع كبير موثق بالتصوير.

كانت الصور الحربية تحت رقابة السلطة الحاكمة وهي التي تديرها، ففي ألمانيا على سبيل المثل، لم يُسمح للمصوّرين بالتقاط الصور في المقدمة إلا من خلال قانونية وجودهم، التي تتكون من بطاقة هوية تحمل صورة وسوارا، وفي الوقت نفسه كانوا يتعهدون بتقديم صورهم الملتقطة إلى سلطات الرقابة، التي تنقل المواد بعد ذلك إلى الصحافة. اختفت من الصور، الأسلحة الثقيلة أو العلامات الموجودة على الطائرات، وقبل كل شيء صور الجنود الألمان القتلى. "لقد رفض الجانب الألماني بشكل جذري صور موتاه"، يقول جيرد كروميش، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة دوسلدورف، في تحقيق نشر في موقع "شبيغل" عام 2004: كانت حكومة برلين تخشى على معنويات السكان و"الهدنة السياسية". أما الفرنسيون فكانوا أسخى مع صور ضحاياهم إذ "كان الهدف من ذلك تعزيز روح المقاومة ضد المعتدين".

وضعت أيقونات الجنود، وبطولاتهم القتالية وتدهور العدو، كمعايير خلال الحرب العالمية الأولى، ولا تزال سارية حتى اليوم. لكن الكاميرات الصغيرة الأولى، مثل Vest Pocket Kodak، سمحت لعشرات الآلاف من الهواة بالمشاركة في التقاط الصور. "كان هناك جنود يحملون كاميرات خاصة في كل مكان"، كما يقول مؤرخ دوسلدورف، كروميش. "لقد التقطوا الصور مثل السياح".

تطور الدعاية الحربية

مع التطور التقني، صارت هناك وسائل أخرى للخبر والدعاية، كل وسيلة لها إمكاناتها الخاصة في التصميم، وتصور الواقع بطرق متنوعة، تختلف من حيث ما تعكسه من الواقع وكذلك في تأثيرها على المشاهد. فهناك فرق بين قراءة نص عن حدث في الحرب أو النظر إلى صورة عنه أو مشاهدة فيلم عنه. هذا كله يمكن إدراجه في ما يسمى مفهوم الصورة، أو نظرية الصورة. فالمصطلح يستخدم ضمن مروحة من المعاني، فهناك التمثيلات المجردة والتمثيلية (اللوحات والصور الفوتوغرافية وما إلى ذلك)، وهناك الصور الطبيعية (صور المرآة، والظلال، وما إلى ذلك)، والصور الذهنية (الأفكار، وصور الأحلام، وما إلى ذلك)، والصور اللغوية (مثل الاستعارات).

مفهوم الصورة مهم في تاريخ الفلسفة في السياقات الجمالية وكذلك في الوعي ونظرية المعرفة، أو في السياقات الميتافيزيقية وحتى الأخلاقية


وفقا لهذا اللاتحديد، فإن مفهوم الصورة مهم بالقدر نفسه في تاريخ الفلسفة في السياقات الجمالية، وكذلك في الوعي ونظرية المعرفة، أو في السياقات الميتافيزيقية وحتى الأخلاقية.

لكن ما يهم هنا هو استخدام الصورة في الدعاية السياسية أو البروباغندا، إن من طريق النصوص المكتوبة أو المسموعة، والصور التي تحدثها في ذهن المتلقين، او الصور البصرية من الفوتوغرافية حتى الصور السينمائية وصولا إلى الصور الرقمية اليوم.

GettyImages
صورة تظهر مصورين على دبابة تابعة للجيش البريطاني.

فالنص المكتوب هو، غالبا، الشكل الأكثر رصانة لنقل المعلومات، أو إشهار الأفكار. مع ذلك، لا ينبغي الاستهانة بتأثير الكلمات. يمكن للنص في بعض الأحيان أن يصف مزاج حدث في الحرب بشكل أكثر واقعية من الصور التلفزيونية، وبالتالي أن يلامس المشاعر، ويمكن أن تشجع النشرة المكتوبة النشاط والمقاومة من خلال خيال المرء، إذ تنشأ الصور في الرأس عند القراءة، التي يمكن أن يكون لها تأثير أقوى من الصورة المتحركة.

أما التسجيلات الصوتية الأصلية فتنقل المستمع إلى مكان الحدث. كما هو الحال مع قراءة النص، تنشأ الأفكار والصور التي تكوّنت في خيال المستمع. بالإضافة إلى ذلك، يوفر النص المنطوق إمكان التركيز، مقارنة بالنص المكتوب: من خلال التحدث بصوت عال وهادئ، بسرعة وببطء، يمكن التحكم بمشاعر المستمع ويمكن إثارة الذعر الشديد. تنتج من هذا إمكانات كبيرة لتأثير النص المنطوق، وغالبا ما استخدم الراديو لأغراض الدعاية في أثناء الحرب. تهدف المعلومات الأحادية الجانب أو الخاطئة أو المضلّلة إلى التأثير على سلوك السكان وتفكيرهم بالطريقة المطلوبة.

ثم هناك الوسيلة التي تجمع بين الصوت والصورة، وهي التلفزيون، الذي احتل مكانة راسخة في حياة العامة، وفي الدعاية وفي التأثير بالجمهور وصناعة الرأي العام، ولا يزال إلى اليوم، كما استفاد من التقنيات الحديثة وطوّر أدواته، وصار المراسل الحربي والمصور ركنين أساسيين من الأداء الخاص بهذه الوسيلة الإعلامية، وأصبحت الحروب أحداثا إعلامية عالمية. لا ننسى غزو العراق عام 2003، والصور الغزيرة التي اجتاحت الشاشات، ومنها صور المراسلين: صحافيون على الدبابات وفي الخنادق، جنبا إلى جنب مع الجنود.

الصورة الرقمية والأجهزة الذكية

منذ إنشاء التصوير الفوتوغرافي للحرب في القرن 19، نُقلت أعمال الحرب بشكل متزايد بصريا من خلال العمليات التكنولوجية. ومن خلال القيام بذلك، كانت تتشكل أيضا على نحو كبير فكرة الحرب وتوقعات الجمهور لصور الصراع العنيف. من الأمور المركزية في الوساطة البصرية، مستويات مراقبة القوة والهيمنة، لأنها تحدّد وجهة النظر وتستخدم وظيفيا استراتيجيات الشرعية والعاطفية من الطرف الذي يصوغها لتأكيد المصالح.

هناك كثير من الأدوات المتاحة للجميع في عصر الإنترنت، تحاول الأنظمة السياسية باستمرار وضع معايير ناظمة لعملها والتدخل فيها


يجب فهم الحروب على أنها حالة خاصة من النزاعات التي تلجأ فيها الوحدات الاجتماعية الكبرى مثل الدول أو الجماعات العرقية إلى القوة المسلحة على مدى فترة زمنية مفتوحة. لذلك تلجأ هذه الجماعات المتحاربة إلى تكوين الرأي والسيطرة على وسائل الإعلام. لا يمكن التسليم بشكل مطلق بأن منع وجود قوة رأي مهيمنة هو هدف المجتمعات الديمقراطية، وأن وسائل الإعلام والصحافة والميديا بأدواتها المختلفة تخلق شرطا مسبقا للتنوع الاجتماعي والثقافي للمجتمعات الحديثة. هذا ما لمسناه وشاهدناه في المواقف العديدة من الأنظمة الديمقراطية، حول التعبير عن الرأي في ما يخص الحرب الإسرائيلية في غزة.

Eyad BABA - AFP
صورة تظهر رجلا فلسطينيا يُعد الشاي مع أطفاله وسط أنقاض منزلهم في مخيم البريج، غزة، 2024.

لكن هناك كثير من الأدوات المتاحة للجميع في عصر الإنترنت، حيث تحاول الأنظمة السياسية باستمرار وضع معايير ناظمة لعملها والتدخل فيها، وأحيانا كثيرة بالتعاون والتناغم مع مشغلي المنصات أو أصحابها، فتسعى هذه إلى فرض رقابتها من طريق استخدام معاييرها الملزمة للمستخدمين. لكن أيضا من طريق حجب أو حظر أو تقييد بعض المنصات، كما جرى الحديث في الفترة الماضية عن منصة "تيك توك" على سبيل المثل، ولو أن الأسباب هي أكثر من الأسباب المعلنة.

منذ تسعينات القرن العشرين، أصبحت أجهزة الكومبيوتر منتشرة على نطاق واسع في العالم، ثم توفّرت اتصالات الإنترنت. وبعد وقت قصير، في مطلع الألفية، أضيفت الهواتف الذكية والأجهزة المحمولة الأخرى تدريجيا حتى صارت تغزو الحياة بغزارة، مما أدّى إلى أشكال جديدة من التبادل والمعلومات، وتشمل هذه الشبكات الاجتماعية وخدمات المراسلة (خدمات المراسلة للهواتف الذكية)، ومنصات جديدة مثل "البودكاست" التي تتوسع بشكل لافت.

هذا كله ساهم في إغراق المجتمعات البشرية بالمعلومات والأخبار والصور ومقاطع الفيديو من دون توفر إمكان معرفة المزور أو المفبرك منها بالنسبة إلى العامة. هذه الإمكانات التي أتاحتها الأجهزة الذكية والتطوّر الرقمي، أتاحت لها ان تشمل النص المكتوب والمقروء والمسموع بالإضافة إلى الصور في الوقت نفسه، وصار إمكان التأثير في الوعي أكبر الى درجة تشوشه، خاصة أنه يمكن للمستخدمين حاليا أن يقرّروا بأنفسهم ما ينشرونه وكيف. تؤدّي هذه الاحتمالات إلى رواج منصات إعلامية جديدة تماما مثل "البودكاست" أو مدونات الفيديو، التي ينشرها الأشخاص العاديون إضافة إلى المؤسسات أو الهيئات العامة أو الرسمية.

الحرب النفسية

بات معروفا أن الدعاية والمعلومات المضللة تلعب دورا رئيسا في أوقات الحرب والصراع. يمكن أن يكون التلاعب بالرأي العام حاسما في كسب الدعم للحرب أو ترسيخ الصور النمطية للعدو. ومنذ تأسيس الدعاية الحربية والتوثيق بالصور في الحرب العالمية الأولى إلى اليوم، أصبح القادة السياسيون يدركون بشكل متزايد أن هناك مكونا آخر في الحرب - علم النفس - وهو العنصر الحاسم في كثير من الأحيان، واستغلاله في الدعاية وخدمة الأجندة، وبالتالي فإن الحرب النفسية من أخطر أوجه الحروب، ولم يعد خطرها يقتصر على الجيوش والمقاتلين وتوجيه المعارك فحسب، بل الشعوب والشرائح المجتمعية، أحيانا في الدولة الواحدة أو في الشعب الواحد، بعضها ضد بعض.

من يستطيع لجم هذا الطوفان الغزير من الأخبار والمعلومات المضللة والصور المفبركة ومقاطع الفيديو


الحرب النفسية هي أكثر بكثير من مجرد السيطرة على المعلومات، بل يتعلق الأمر بالتحكم في سلوك الناس وردود أفعالهم النفسية، في الانتباه والاهتمام والعاطفة والتفكير والسلوك، بهدف إضعاف أو زعزعة استقرار أو تدمير هذا الطرف من الداخل، وإضعاف القدرة على العمل والتحفيز، وعدم اليقين، وفقدان الثقة، وزعزعة التماسك، والصراع، وعدم الاستقرار. هذا من أخطر المظاهر التي تهدد المجتمعات العربية، خاصة في مناطق النزاع والحروب، وأكبر مثل عليها لبنان اليوم، وقبله سوريا، بل سوريا إلى اليوم. لكن، من يستطيع لجم هذا الطوفان الغزير من الأخبار والمعلومات المضللة والصور المفبركة ومقاطع الفيديو، والأكثر تضليلا فيها البرامج الحوارية والتحليلات التي تتكاثر مثل الفطر، وأكثرها فطر سام، وما تحدث من اضطراب معرفي ونفسي ووجداني لدى الشرائح المجتمعية.

AFP
دمار في بيروت، 2024: صورة لرجل يسير أمام مبنى مدمر بعد غارة جوية إسرائيلية.

لقد حدّد اللورد آرثر بونسونبي (1871 - 1946)، وهو سياسي ومؤلف بريطاني، عشرة مبادئ للدعاية الحربية في كتابه "التزييف في زمن الحرب: أكاذيب الإعلام في الحرب العالمية الأولى"، لا تزال فعّالة إلى اليوم. هذه المبادئ العشرة للدعاية الحربية هي بمثابة تذكير مهم بمدى سهولة التلاعب بالرأي العام. في أوقات الصراع، خاصة في عصر الإنترنت مع وسائل التواصل الاجتماعي.

لقد ولّت أيام إسقاط المنشورات من الطائرات وإعلانات مكبرات الصوت على الجبهة العسكرية ومحطات الإذاعة التي تبث إلى "أراضي العدو". استٌبدلت بالتأثير على وسائل التواصل الاجتماعي واختراق المواقع الإخبارية وإرسال الرسائل النصية مما يستدعي الاهتمام بالتفكير النقدي، والتحقق من المعلومات، وعدم الانخداع بالدعاية. بهذه الطريقة فحسب يمكننا أن نخلق مستقبلا أفضل قائما على الحقيقة والسلام. فهل هذه المهمة مستحيلة في لحظتنا الراهنة وما تخلق من عنف وقتل وتدمير وتهجير وفوضى؟

font change

مقالات ذات صلة