بالتوازي مع تصاعد وتيرة العنف في الحرب بين إسرائيل و"حزب الله"، تصاعدت حدة خطاب الكراهية، الممزوج بشحنات هائلة من التحريض على العنف والشحن المذهبي والطائفي والاتهامات بالتخوين والعمالة تجاه وسائل إعلام لبنانية وعربية ودولية، وكذلك صحافيين وناشطين سياسيين وقادة فكر ورأي، تجمع بينهم معارضة "حزب الله" والحرب التي أطلقها من جنوب لبنان لدعم حركة "حماس" في غزة.
هذه التهديدات ارتفعت وتيرتها بشكل يثير القلق في الأيام القليلة الماضية، بعدما بلغت حد التلويح باستهداف وسائل إعلامية بعينها، أو صحافيين معينين. الأمر الذي أعاد إلى أذهان اللبنانيين شبح الاغتيالات التي طالت عددا من الصحافيين والمفكرين والمثقفين البارزين، كان آخرهم الباحث والمفكر لقمان سليم عام 2021، والذي احتفت حاشية "حزب الله" باغتياله، وفي مقدمتها نجل أمينه العام الأسبق حسن نصرالله، المعروف بكونه أحد قادة جيوشه الإلكترونية.
سيادة السردية الواحدة
يشهد لبنان تراجعا مخيفا في منسوب حرية الإعلام، مقابل نمو الفكر القمعي والإلغائي بأدوات عديدة. يأتي على رأسها توظيف هيمنة "حزب الله" على قرار الدولة، لتطويع القضاء والأجهزة الأمنية، من أجل ملاحقة واضطهاد معارضيه، عبر استدعائهم للمثول أمام القضاء أو إصدار مذكرات توقيف سريعة بحقهم، بما يخالف القوانين المرعية الإجراء في لبنان، والتي تنص على مثول الصحافيين حصرا أمام محكمة المطبوعات، التي لا تصدر أحكاماً بالسجن، بل تكتفي بفرض غرامات مالية في حالة إثبات حصول مخالفة. مقابل إسباغ الحماية على من يتعرض للصحافيين ووسائل الإعلام باعتداءات جسدية أو كلامية.
ومن بين المؤشرات البارزة على انخفاض مستوى الحريات الإعلامية في لبنان، تراجع ترتيبه ضمن "التصنيف العالمي لحرية الصحافة" لعام 2024، حيث احتل المرتبة 140، من أصل 180 دولة يشملها التصنيف، بعدما كان يحتل المرتبة 119 في العام 2023. هذا ويبرز اسم "حزب الله" في غالبية الاستهدافات. فرغم امتلاكه نفوذا كبيرا على عملية صناعة السردية التي تقدم إلى الرأي العام، فإنه يسعى عبر سياسات التخويف وإثارة الرعب هذه إلى تقويض تأثير كل السرديات المعارضة له، وتدجينها عبر فرض إملاءاته على الخطاب الإعلامي والسياسات التحريرية، وحتى المصطلحات المستخدمة في عمليات التغطية.
أحدث الاستهدافات في هذا الصدد، والتي تمثل انتهاكا فاضحا للقوانين والحريات، طالت الكاتبة في "المجلة" الأستاذة عالية منصور، والمعروفة بمقالاتها ومواقفها المعارضة لهيمنة "حزب الله"، حيث تعرض منزلها لعملية مداهمة من قوة تابعة لجهاز أمن الدولة بلا مقدمات، وجرى التحفظ عليها لمدة قصيرة، على خلفية استخدام صورتها على حساب مزيف يشارك منشورات إسرائيلية وبطريقة بدائية ومفضوحة. ناهيكم عن مخالفة القوانين بعدم إبلاغ الأستاذة منصور بالاستدعاء وفق الأصول القانونية، وصدور الإشارة القضائية عن مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية لا عن محكمة المطبوعات، فإن تنفيذ الإجراء يوم السبت تحديدا هو عمل متعمد ومتكرر من قبل السلطات الأمنية والقضائية في لبنان. القصد منه إبقاء الشخص المعني قيد التوقيف الاحتياطي لمدة يومين، لكون السبت والأحد عطلة رسمية، إلا أن منصور عادت إلى منزلها بعدما جرى الاستماع إليها.
نموذج الصحّاف و"حزب الله"
وفي الأسابيع القليلة الماضية، أعاد اللبنانيون استحضار نماذج إعلامية عربية آفلة اشتهرت بـ"البروباغندا"، مثل محمد سعيد الصحاف، وزير الإعلام في نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وأحمد سعيد، المذيع المصري الأشهر في إذاعة "صوت العرب" إبان حكم الرئيس جمال عبد الناصر، لإسقاطها على الخطاب الإعلامي التحريضي والتخويني لـ"حزب الله" وحاشيته الإعلامية، والتهديدات العلنية والمباشرة التي ترد على ألسنة بعض مسؤوليه وشريحة واسعة من جمهوره.
وفي المؤتمر الصحافي الأخير لمسؤول العلاقات الإعلامية في "حزب الله"، محمد عفيف، بدا نافراً للغاية، حيث أفرد مساحة واسعة من خطابه للتهجم على وسائل الإعلام المعارضة لاستبداد حزبه وهيمنته على القرار في لبنان، واتهامها بالتماهي مع الإسرائيليين، في الوقت الذي كان من المفترض التركيز على الضربات العنيفة التي تلقاها "حزب الله" والتي أدت إلى خسارته بنيته القيادية.