بعد سنة أو أكثر بقليل من "نكبة" فلسطين سنة 1948، أُنشئ مخيم اللاجئين الفلسطينيين بين قريتي برج البراجنة وحارة حريك. والأرجح ليس من تفسير واضح لإنشاء السلطات اللبنانية آنذاك المخيمَ في ذاك المكان، سوى الخيار القصدي أو العشوائي الذي عزل القريتين أو البلدتين المتجاورتين، الشيعية والمسيحية.
وفي منزلٍ بضاحية الحدث التي هُجّرت إليه عائلته من حارة حريك المجاورة في أواسط حروب الثمانينات بلبنان، روى عبدو دكاش- المولود سنة 1958، وابن أكبر عائلات حارة حريك المسيحية وأقدمها توطنا فيها- أنه في طفولته وفتوته بحارة حريك، مع كثرة من أطفالها وفتيانها (المسيحيين طبعا)، كانوا قبل سنوات من بدء الحرب الأهلية بلبنان سنة 1975، على عداوة شبه غريزية موروثة مع أمثالهم الفلسطينيين في مخيم برج البراجنة المجاور.
لقد ولدنا ونشأنا- قال عبدو- على كراهية الأولاد الفلسطينيين، كأننا رضعناها مع حليب أمهاتنا. وبعدما تصلّب عودنا قليلا، وصرنا نخرج من بيوتنا لنلعب على تلال رملية مقابلة لمخيمهم، رحنا نقذفهم بحصى النقيفات (فاذفة حصى من كاوتشوب وخشب) التي نحملها لنصيد بها العصافير. لكنه استدرك قائلا: كان شبان ورجال ونساء كثيرون من آباء الأولاد الفلسطينيين وأمهاتهم وإخوتهم الكبار، يشتغلون في أرضنا وحدائقنا وبيوتنا، وتقوم علاقات يومية بينهم وبين أهلنا.
أما نسيب سعادة- ولد في حارة حريك سنة 1952، ونشأ في عائلة توطنت فيها منذ بدايات القرن العشرين، ووالده محازب شيوعي- نَسَبَ كراهية الفلسطينيين إلى حساسية أهلية مسيحية عامة لابست إقامة مخيمهم على حدود الضيعة. وروى أن أهالي الحارة كانوا يحرّضون أبناءهم على ضرب أولادهم بالأحذية (كناية معنوية عن العنف الممزوج بالاحتقار)، كلما صادفوا ولدا منهم في مكان، ولو في بستان يقطف منه نبات الحميض البري الداشر، ليأكله. وحين كانت سحنة ولد أو خلقته تنبئ بأنه قد لا يكون من الحارة، فكنا- تابع نسيب- نوقفه ونستنطقه صارخين في وجهه: شو (ما هو) اسمك ولاه؟ فإذا أوحى اسمه ولهجته بأنه فلسطيني، كنا نبادر فورا إلى الاعتداء عليه، فنضربه ونسحقه. ووحدهم أولاد أبو نادر الفلسطينيون (والدهم صاحب طنبر: عربة يجرها حصان لنقل الخضار) كنا نصاحبهم، لأنهم مسيحيون".
وتذكر نسيب مشهدا يعود إلى حوادث 1958الطائفية، يتصل بكراهية مسيحيي الحارة الفلسطينيين وعنفهم عليهم: كان والدي جالسا على كرسيّ صغير من قش أمام بيتنا في البستان. مسدسه ظاهر في جيب بنطلونه الخلفي. وظهر في طرف البستان رجل يركض نحوه صارخا مستجيرا: "دخيلكم بدن يقتلوني" (يريدون قتلي). وظهر خلف الرجل شبان سبعة أو ثمانية يحملون بنادق صيد. ولمّا قال الرجل المطارد لاهثا إن اسمه أبو محمد، ويعمل بائع مكانس جوّال، والشبان الراكضون خلفه يريدون قتله لأنه مسلم، شهر والد نسيب مسدسه في وجه شبان بنادق الصيد، فقال أحدهم: "عطينا ياه (إياه) بدنا نقتلو". كانوا يعرفون الرجل وهو يعرفهم ويعرف أهلهم، فزجرهم وصرفهم.
وعرف أن الرجل المسكين كان من ركاب بوسطة قادمة من صيدا، أوقفها مسلحون مسيحيون في الحدث القريبة. ولمّا علموا أن بائع المكانس مسلم، أرادوا إنزاله من البوسطة، فأبى خائفا مرتاعا، فهددوه ببنادقهم، ثم أطلق أحدهم النار عليه، فأصاب خطأ شخصا مسيحيا. ذُعر الركاب وتدافعوا خارجين من البوسطة، ففرّ أبو محمد، وظل الشبان المسلحون يطاردونه.
ولادة فتّوات شيعة
كان النزاع الأهلي- الطائفي في ربيع 1958 قد أطلق طفرة قوية من توسع العمران العشوائي ومن إقبال أبناء عشيرة المقداد وسواهم عليه في حيّهم على تخوم حارة حريك. واستمر تمدد حي المقداد حتى صدر قانون مسح الأراضي وترتيبها سنة 1964 (في العهد الرئاسي الشهابي الإصلاحي) فنظم استعمالاتها والبناء عليها.
لم تقوَ المدارس وأنظمتها على حمل رستم المقداد وإخوته الـ18 على تجاوز المرحلة الابتدائية من التعليم. فقد ضرب مدرسا وطُرد من مدرسته، فشغّله والده سنتين أو ثلاثا في مشغل حدّاد سيارات في وادي أبو جميل بوسط بيروت. وحوادث 1958وأخبارها الطائفية والأهلية في أحياء بيروت، ألهبت مخيلته وغذّت ميله إلى الفتوّة.
والمعروف أن الرئيس كميل شمعون كان في عهده الرئاسي (1952-1958) واسع النفوذ لدى وجوه من العائلات الشيعية المحلية والمفاتيح الانتخابية في برج البراجنة (آل عمار خصوصا) والغبيري والشياح (آل الخليل والحاج). لكن حوادث 1958- وهي جيّشت الشارع الإسلامي (السني البيروتي خصوصا) ضد العهد الشمعوني في نهاياته، على قاعدة العروبة الناصرية الجماهيرية- قد تكون لجمت ولاء العائلات الشيعية الشمعوني في الساحل وكتمته.