يايوي كوساما لا تزال حية. يخبرنا نصبها وهو الأكبر بلندن بذلك. ما أن يخرج المرء من محطة "ليفربول ستريت"، وهي كبرى المحطات بلندن حتى يرى ذلك النصب الذي يحمل عنوان "التراكم اللانهائي".
بالنسبة إلى لندن، يمثل النصب الكبير شيئا أشبه باللعبة المخاتلة بسبب تعدّد المرايا التي يتكون منها غير أنه بالنسبة إلى الفنانة المولودة عام 1929 لا يشكل إلا واحدة من الخلاصات التي كانت أبهرت من خلالها عالم الفن، فتحولت أعمالها إلى واحد من أهم مراجع الفن المعاصر.
تلك امرأة شغفت بالنقطة بحيث صارت مفردتها الوحيدة. ولكن كيف يمكن للفنان أن يتجدّد من خلال مفردة واحدة؟
هنا بالضبط تكمن عبقرية كوساما. المدهش في فنها أنه إضافة إلى تأثيره على فناني "البوب آرت" وفي مقدمتهم الأميركي أندي وارهول فإنه امتد بتأثيره إلى الأزياء والأثاث والحقائب كما حدث من قبل مع الهولندي بيت موندريان.
تعرف كوساما أن نقطتها صارت فكرة تصويرية مشاعة، غير أنها كانت في الوقت نفسه متيقّنة من أن أحدا لا يمكن أن يسبقها إلى خيالها. كل عروضها التي مزجت الفنون المعاصرة بعضها بالبعض الآخر تؤكد أن سحر الفكرة لا يزال مصدر إلهام مؤثر. كوساما تلعب بفكرتها كأن تلك الفكرة لا تزال نضرة ولم تنضب بعد. نصبها الجديد في لندن يؤكد ذلك. لا يزال في إمكان اليابانية أن تلعب بكراتها بطريقة فاتنة.
نزهة حلمية لا نهاية لها
من النقطة إلى الدائرة إلى الكرة يمتد عالم كوساما في استرسال استلهامي مع الظاهرة الكونية. لذلك كان من الصعب أن تُعرض أعمالها بطريقة تقليدية. كان على المتاحف وقاعات العرض أن تنفق كثيرا من أجل إقامة كون صغير يضيق ويتسع في انسجام حركي مع أعمال كوساما. ذلك هو مصدر التناغم الداخلي الذي يستشعره المرء وهو يعيش الظاهرة الفنية من الداخل من غير أن يكون معنيا بالتعامل معها بصريا كما يحدث مع أعمال الآخرين. إنها تسبقه إلى خلخلة حواسه من غير أن تهبه لحظة تفكير استفهامي في المعنى لمحاولة الفهم.
أعمال كوساما عصيّة على الاحتواء. يدخل إليها المتلقي فيشعر أنه خفيف كأنه يمضي في نزهة حلمية لا نهاية لها. يمكن استبدال مفردة الدخول بمفردة الانزلاق. ينزلق المتلقي على ظهور الدوائر والكرات من غير أن يتمكن من إيقاف انزلاقه ليتأمل. لا تقترح الفنانة على متلقي أعمالها أن يقوم بشيء محدد، فهي تستولي عليه، على حواسه وعلى ذاكرته البصرية وعلى قدرته على أن يستقل عنها. تصف فنها بأنه المرض والعلاج ولا تخفي أن ما صارت ترسمه كانت قد رأته في أحلام يقظتها عبر مراحل مختلفة من حياتها التي لم تكن هانئة على الرغم من أنها ابنة عائلة ثرية. وما من مفردة يمكنها أن تلخص العدوى التي يصاب بها المرء حين يدخل إلى أعمال كوساما مثل "الهلوسة" وهي المرض الذي أصيبت به في سن مبكرة واستطاعت كما تقول أن تعالجه عن طريق الفن.
هوس باللانهائي
الفنانة اليابانية التي أقامت أكثر من مئة معرض، إضافة إلى أنها نشرت أكثر من عشرة كتب، وفازت الأفلام التي أنجزتها بجوائز عالمية، تحولت مع الوقت إلى واحدة من أهم أساطير الفن المعاصر في العالم وكانت رائدة في فن التركيب. غير أن كل ذلك لا ينفي حقيقة أنها لم تدرس الفن إلا سنة واحدة في اليابان ويوم غادرت مدرسة الفنون لم تشعر بالأسف. لا لشيء إلا لأنها شعرت أنها نجت بموهبتها وخيالها من السقوط في الولع الياباني بالفن الشعبي.
حين هاجرت كوساما إلى نيويورك كان عنوان معرضها الأول الذي أقامته هناك عام 1959 "شبكات اللانهاية". يومها ولد مفهوم "اللانهائي" الذي نجده في عنوان عملها النصبي بلندن "التراكم اللانهائي". نقديا، يمكن وضع ذلك العمل في سياق سلسلتها عن "اللانهائي" الذي صار بمثابة هاجسها في البحث عن معنى الوجود الذي يراكم صوره وأشكاله من غير أن يستقر على حالة بعينها. وليس من قبيل الخطأ أو السخرية لو تخيل أحدهم أن الفنانة تلعب وتلهو وتتسلى وتناور وتمرح. ذلك صحيح، غير أن الصحيح أيضا أنها لا تجد ضرورة للكآبة حين ينفتح المرء على معجزات كونية، تدهشه وفي الوقت نفسه تُسره وتفتح عينيه على ما لا يراه. في نصب "التراكم اللانهائي" هناك مزيج من اللعب والفكر الجاد. فالعمل النصبي الذي يضم أكثر من مئة كرة معدنية مرآتية بمختلف الأحجام يُلهم المشاة طاقة إيجابية، بعض منهم يبتسم والبعض الآخر يتساءل.
وهبت يايوي كوساما لندن واحدة من أهم معجزاتها وهي تدرك أن المدينة التي تحتضن نصبها تتمثل اللانهائي في تركيبتها السكانية وطرق عيشها وتلاقح الثقافات فيها بما يسمح للغات بأن تفارق قواميسها لتلتقي في نقاط افتراضية.
استفادت كوساما من المرايا التي عادة ما توضع في المنعطفات الحرجة للشوارع، فكانت كل كرة من كراتها عبارة عن مرآة يسخر الداخل إليها من نفسه لأنه يعرف أنه سيكون مفقودا ما أن يغادر موقعه. ولأن الكرات عبارة عن شبكة متصلة فإن كل مشهد من مشاهدها يفضي إلى المشهد الذي يليه. يرى المرء نفسه مرات عديدة وبصور مختلفة وينسى أن يتساءل في أية صورة من تلك الصور تكمن حقيقته. أتوقع أن كوساما وقفت أمام كراتها المرآتية لترى نفسها ولتتأكد من إمكانية هروب المرء من حقيقته. إذ أدركت الفنانة المطاردة بهلوساتها أن ما نعثر عليه في الحياة الواقعية يظل رهين حياة لم نعشها. تلك حكمتها التي صارت مرئية.