الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك... القصيدة بوصفها مرآة للظل

الشاعرة التي حلمت بأن تكون خارج العالم

Shutterstock
Shutterstock
رجل جالس الى طاولة في غرفة مظلمة.

الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك... القصيدة بوصفها مرآة للظل

كتبت الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، ذات مرة: "أن تكتب يعني أن تعطي معنى للمعاناة"، وفقا لمقدمة مختاراتها الشعرية "غرفة وحيدة وقصائد أُخرى" الصادرة حديثا بترجمة مصطفى مجاهد، "دار خطوط وظلال".

هذا القول الراشح من أزمتها النفسية الحادة التي بدأت مكابدتها لها، والتي أفضت بها إلى الكآبة في بداية الثلاثينات من عمرها، المرحلة التي أنهت بها الشاعرة حياتها، وهي لم تتجاوز السادسة والثلاثين، يمكن أن يلخّص مجمل رؤيتها الشعرية وانعكاسها، أو ترجمتها بالكلمات، وما استتبع ذلك من قاموس تعصف به الرؤى السود، الغياب والتمزّق، واللايقين.

حيث "الكلمات تمارس الغياب" و"كل ما نقوله هو أكذوبة". هذا اليباب النفسي الذي عليه الشاعرة أثمر يأسا، ليغدو الإيمان بما هو حميم ومرتجى من قبل، إنكارا يحمل ضمنا الاحتجاج، بما في ذلك الكلمة:

الكلمات لا تمارس الحب

بل تمارس الغياب

فإذا قلت ماء هل سأشرب؟

وإذا قلت خبزا هل سآكل؟

الشعر لا يصنع المعجزات، والكلمة في القصيدة تبقى كلمة لا تملك سوى حروفها التي تشكل، مجتمعة، معنى ودلالة ما

الحقيقة العارية

تعرض الشاعرة، هنا، الحقيقة عارية، بلا مساحيق، وبلا أدنى مكابرة، فلا ترى في الكلمة تلك المقدرة السحرية والإعجازية لاستنهاض الأشياء أو استيلادها من العدم. فالشعر لا يصنع المعجزات، إذ ليس في وسعه ذلك، والكلمة في القصيدة تبقى كلمة لا تملك سوى حروفها التي تشكل، مجتمعة، معنى ودلالة ما، مجردة من كل قوة خارقة. فكلمة الماء ليست هي الماء وكلمة خبز ليست هي الخبز، فلا رائحة تتصاعد منها تشي بالخبز، ولا رذاذ يستتبع لفظ كلمة ماء. إنها صورتاهما فحسب.

وبقدر ما يكون معنى كهذا مقنعا بالمنظورين معا، الشعري والواقعي، ففي الوقت ذاته يمكن الإتيان بنقيضه ومن منطلق شعري أيضا، وهذا ما تحقق بالفعل على يد الشاعرة نفسها، وذلك بدحض معانيها الآنفة  بما يناقضها، والقول في هذا يصدق حدسا أو يشاهد، فالأمر سيّان، والشاهد الشعري هو الجملة التي تشبّه فيها الشاعرة "الجسد، بالكأس التي تشرب منها الماء المستحيل!". في قصيدة لها ـ من خارج هذه المختارات ـ وبغض النظر عن المحمول الحسي للجملة، فالكلام هنا يتعلق بمقدرة الشعر على الإقناع بالشيء ونقيضه، في الوقت ذاته. فهذا هو منطقه الذي لا يُحاكم وفقا لعلاقات الواقع وقوانين الممكن واللاممكن، بل يُناظَر بمنطق الفن والمخيّلة. وعلى الرغم من اعتبار بيثارنيك الشعر مع الرسم من بعض القيم الروحية التي تؤمن بها، إلا أنها في لحظة ما "كفرت" بالكلمة. إنه الصدع العميق لديها، فمع إقرارها بعقم الكلمة وعجزها عن تحقيق السحري، كما في المثال الشعري الذي استُهل به هذا المقال، إلا أنها لا تجد بدا من "معاقرتها"، فهي غير قادرة على الفكاك منها، إنها الترياق، وإن كان فاقدا جدواه:

ساعدني، اليوم، على أن أكتب القصيدة التي يمكن الاستغناء عنها

والتي لا جدوى منها

ساعدني على أن أكتب الكلمات

في هذه الليلة في هذا العالم.

بذلك، تناقض الشاعرة نفسها. إن نشدانها الكلمة بشيء من التضرع، يكشف عن تعلق خلاصي هو رديف الأمل هنا، وهذه "جدوى" في ذاتها.

Wikicommons
أليخاندرا بيثارنيك

إن نبرة بيثارنيك بصدقها البيّن، لا يمكن أن تحيل إلى ما يمكن توهمه لعبا شعريا بالكلمات، بقدر ما تشير إلى التضارب، وتكشف عن هوّة عميقة تفصل بين ذاتين للشاعرة، ولم يكن الحوار الدائر بين صوتين في كثير من القصائد نوعا من الحوار الداخلي المعهود (المونولوغ) بل هو حوار خارجي بالمعنى المتعارف (الديالوغ)، وهو هنا بين الشاعرة وشخصها النقيض، المستقل. إذ ثمة التعارض دائما، ما يجعل قصائدها في هذا الاتجاه ذات سمة تركيبية، كما في قصيدة "كولاج الظل" التي تُكنّي فيها عن الذات الأُخرى لها بـ"شخص ما"، في الحوار الذي تديره، ما يعطي الانطباع للقارئ بأنه إزاء حوار مسرحي بين شخصيتين. وهذا يعود إلى ما وصفته الشاعرة ذاتها بـ الصدع، الشرخ، والتمزق، مدركة أن لا رأب أو علاج لهذه التصدعات إلا بالأغنية. إنها الكلمة ثانية، ذات الأثر السحري، رغم كل شيء.

نبرة بيثارنيك لا يمكن أن تحيل إلى ما يمكن توهمه لعبا شعريا بالكلمات، بقدر ما تشير إلى التضارب، وتكشف عن هوّة عميقة تفصل بين ذاتين للشاعرة

المعاناة كأمثولة

إن التأرجح بين اليأس والأمل، بين الانتماء إلى العالم ونبذه، بين الرغبة في القول والشعور بالعجز عن موافاة الكلمة مَقاسات الألم، وسواها من ثنائيات التضاد التي يحفل بها شعر بيثارنيك، كل ذلك كان أشبه بالصراط الذي انتظمت عليه كلمات الشاعرة وصولا إلى مبتغى المعنى، بغضّ النظر عن وجهته، عدمية أكانت أم تشبثا بالوجود. وقد يكون في المقتبس من فرانز كافكا الذي استهلت بها مجموعتها "نصوص الظل" ما يضيء هذا التأرجح والتردّد. فعلى قتامة ما اكتنف عالمها، إلا أن ذلك لم يعجزها عن استخلاص الضوء من العتمة التي خبرتها، وكأنّها على الرغم مما وصلت إليه من طريق مسدود، آثرت أن تقدم حياتها بما أثقلت به من معاناة وآلام، كأمثولة من أجل التخطي، خاصة للأجيال التي ستعقبها، إذا ما نُظر إلى مقتبس كافكا كنص يتخلل مرامي النصوص ويندغم بها، لا مجرد استحضار للزينة "إنه حث للشباب كي لا يكونوا تعساء، ما دام هناك الطبيعة، الحرية، غوتة، شيلر، شكسبير، الورود، الحشرات، إلخ". ما يؤيد ذلك، أي التماهي بقوة مع كافكا، أنه يحضر لدى بيثارنيك أيضا، بوصفه أنموذجا في الانفصال والعزلة، فضلا عن كون مثل هذه الإشارات والتضمينات تؤشر الى بعد أسلوبي لا تتوانى الشاعرة عن إشهاره بما يغني النص ويسبغ عليه صفة ثقافية. فإلى جانب كافكا، ثمة أيضا كتاب وشعراء وعلماء نفس وفلاسفة، كما في قصيدة "غرفة في علم الطب النفسي"، وسواها، مستعينة بقبسات صريحة من هؤلاء، أو محاورتهم كأعلام تضيء بدلالاتها قصيدتها وتتكامل بها: دوستويفسكي، سترندبيرغ، رامبو، إيلوار، كيركيغارد، نيتشه، ماركس، فرويد، هيغل. أما لوتريامون، صاحب "أناشيد مالدورور"، فقد حاز منزلة خاصة لدى الشاعرة، فيحضر بوصفه شفيعا، في أكثر من موضع في قصائدها، تارة باسمه الشعري الذي عُرف به، وثانية باسمه الحقيقي "إيزيدور دوكاس"، وأُخرى عبر عنوان قصيدته. فلربما تجد فيه نوعا من توأمة روحية، شعرا ومعاناة، وسوداوية وعطبا نفسيا. على أن بيثارنيك، ومع مكابدتها أشد حالات الكآبة، حدّ أن لا تعود تفرق بين "الطائر والقفص"، وفقا لإحدى قصائدها، فإنها لم تصل إلى الحد الذي كان عليه لوتريامون من الاختلال العقلي، بشهادات العديد ممن درسوا حالة الشاعر من محللين نفسيين أو أدباء.

MAFA - AFP
رجل يشاهد تمثال فرانز كافكا في براغ في 5 ديسمبر 2003، بعد يوم من تدشينه.

وفقا لذلك، يمكن الاستنتاج أن اتخاذ الشاعرة قرار إنهاء حياتها بشكل مبكر، ربما كان سعيا منها للتماهي بـ"ابن الرابعة والعشرين"، حتى النهاية. وهنا لا بد من الأخذ في الاعتبار ما رشحت به قصائدها عن نيتها وتصميمها الواعي على الانتحار، وهو ما تردّد في أكثر من قصيدة وبشكل لا لبس فيه: "أريد أن أضع نهاية لهذا الاحتضار الذي أضحى سخيفا بإطالة أمده/ أريد أن أكون أبعد من ذاتي، مع الأشباح/ أنا شبح نفسي/ لا يجب أن نلعب دور الشبح لأننا سنكونه". وإذا كانت ترى أنها لا تنتمي إلى هذا العالم، بروحها التي تعاني اغترابا ونفيا مزدوجا، مكانيا ووجوديا، العالم الذي لم يكن في وسعها سوى إعلان خوفها منه، ما حملها على أن تطوي الجسد، ليُحمل بعيدا إلى عالم الماوراء الذي تنشد وتصفه بـ"الحديقة". ما وراءٌ، هو رديف الصمت المتجذر في قصائدها، سوية مع الظل والحب الملتبس، مع الغياب بحضوره المركزي في قصائدها، تقول: "مركز القصيدة/ هو قصيدة أخرى/ مركز المركز/ هو الغياب/ في مركز الغياب/ ظلي هو المركز/ مركز القصيدة". ولكثافة هذا الغياب الذي تتبدّى عبره مجرد "ظل" في "مرآة مكسورة"، يختفي العالم المحسوس، بما يعنيه من نفور لها حيث يُقاس الزمن، حسب وصفها، بواسطة الساعة والرزنامة وغيرها من الأشياء المعادية، التي هي من شأن "المزعجين الزائفين".

لا بد من الأخذ في الاعتبار ما رشحت به قصائدها عن نيتها وتصميمها الواعي على الانتحار، وهو ما تردّد في أكثر من قصيدة وبشكل لا لبس فيه

من هي أليخاندرا بيثارنيك؟

فلورا أليخاندرا بيثارنيك، المولودة في بوينس آيريس لعائلة روسية مهاجرة غيرت لقبها، ما إن استقرت في الأرجنتين من "بوثارنيك" إلى "بيثارنيك"، تُعَدّ شاعرة كبيرة بكل المقاييس، إلى جانب غزارة نتاجها، شعرا ونثرا، رغم رحيلها المبكر.

Shutterstock
بوينس آيريس، الأرجنتين، 1 يناير 2024

وهي من بين أهم وأبرز شعراء الأرجنتين الحداثيين في القرن العشرين، على مدى اتساع وأهمية المشهد الشعري الأرجنتيني، بل ما يتعدى الحدود الوطنية إلى القارة اللاتينية، ومن ثمّ العالم، بالضرورة، بدليل الحديث عنها، هنا، وانتشارها بلغات عديدة أُخرى. ومع أهمية نتاجها الشعري الذي اتصف بالجدة والغرابة والعمق، وما يعنيه ذلك من تأثير، لصدوره عن موهبة أصيلة كبيرة، يشهد بذلك الكتاب، موضوع هذا المقال، بما يمثله من مختارات، إضافة لما أُتيح لكاتب هذه السطور من اطلاع على أعمال أُخرى للشاعرة، بالعربية أو بلغة أُخرى.

يلاحظ القارئ حيوية الصورة الشعرية لدى بيثارنيك واللغة على حد سواء، اتساقا مع جو الستينات الأدبي المزدهر في أمريكا اللاتينية الذي اتسم بالتجريب وحضور الصوت النسائي، واطلاع الشاعرة على المدارس والاتجاهات الحديثة في الأدب والفن، وقربها منها، كما في علاقتها بالسوريالية، من خلال الرسام السوريالي "باتلي فلات" إضافة إلى اهتمامها بالتحليل النفسي وما يعنيه ذلك من تخصيب لشعرها، وهو ما جعل النقاد يعقدون الصلة، بسبب من اهتماماتها الآنفة بين أعمالها وأعمال أنطونين آرتو وسيلفيا بلاث. وقد كان لوجودها في فرنسا وأوروبا، عموما، في بداية الستينيات وتجربتها الحياة والدراسة والعمل هناك أثره في منحها أفقا آخر أثرى تجربتها الشعرية، وإن كان ذلك على حساب سلامها النفسي، وهي التي عُرفت بالرهافة والارتياب في الوقت ذاته. إذ لا يمكن هنا إغفال معنى أن تكون الشاعرة وحيدة وغريبة، يفصلها عن أرضها الأولى وعائلتها، محيط شاسع. وهكذا  تحولت هذه المسافة الهائلة لدى بيثارنيك إلى هوة تفصلها عن الواقع والعالم الذي تحيا، مع استعداد قبْلي، إذ بدأت أعراضها النفسية منذ الثامنة عشرة.

 "غربان داخل ذهني"، تكتب الشاعرة، وفي موضع آخر، تقول: "حلمت كثيرا بأني لست من هذا العالم". وكيف يكون لمثلها وجود في هذا العالم الظاهر، في الوقت الذي تضرب جذورها في ما هو كامن ولا مرئي، وجنينيّ، كما كتبت: "صورة قلب يحتوي على صورة حديقة، حيث سأبكي".

ومع ما يتأكد من أهمية استثنائية للشاعرة، غير أن الملاحظ هو أن وصولها إلى القارئ العربي قد تأخر كثيرا. لكن بالمقابل يجدر التنويه بالجهود العديدة والدأب على ترجمة أعمالها، وإن كانت قليلة، حتى الآن، نسبة إلى مجمل نتاج الشاعرة، التي من بينها هذه المختارات، مدار الحديث هنا.

font change

مقالات ذات صلة