في كتابه "الضاحية الجنوبية أيام زمان"، كتب محمد كزما أن ساحل المتن الجنوبي في طفولته غداة الحرب العالمية الأولى كان "سهلا فسيحا أخضر، بيوته قليلة متفرقة بين البساتين وأشجار النخيل ورباعات الصبير بين حرج صنوبر بيروت شمالا ونهر الغدير في صحراء زيتون الشويفات جنوبا".
لكن هذا السهل الساحلي الأخضر، كانت فيه قرى عمرانها بلدي، محلي وريفي: برج البراجنة، الشياح-الغبيري، وحارة حريك. وهي نشأت عن حركة هجرات متعاقبة من قرى جبلية إلى المنخفضات والسهول للعمل والإقامة فيها، منذ القرن السادس عشر.
وفي شهادة خليل الفغالي- المولود حسب بطاقة هويته في برج البراجنة، حي المريجة، عام 1934، أوفي عام 1931، حسب ما جاء على باطن خزانة الثياب الخشبية في بيتهم العائلي القديم، وفق مدونات والده الأستاذ أنطون المتوفي سنة 2015- أن ساحل المتن الجنوبي الذي صار يسمى ضاحية بيروت الجنوبية نهاية ستينات القرن العشرين، كان يُعرف بـ"ساحل النصارى"، أقله منذ عهد نظام متصرفية جبل لبنان (1860-1914). ووردت هذه التسمية في وثيقة رسمية تعود إلى عهد آخر المتصرفين (الحكام) على جبل لبنان، أوهانس قيومجيان باشا، وتنص على أمر المتصرف تعيين الأمير حارث فارس شهاب مديرا لـ"ساحل النصارى". وعثر الفغالي على الوثيقة سنة 1958،عندما كان موظفا في جهاز الأمن العام اللبناني، في أحد أقبية قصر آخر الأمراء الشهابيين، بشير الثالث، في حارة البطم المتاخمة لبلدة الحدث القريبة من حارة حريك. والقصر تراثي شيد سنة 1697، وتحدر بالإرث إلى الأمير فريد حارث شهاب (1908-1985) مدير الأمن العام اللبناني (1948-1958) فباعه سنة 1964 للسفارة الإسبانية في لبنان. وفي الجولة الأخيرة من الحروب اللبنانية، قُتِل سنة 1989 بقصف مدفعي في القصر إياه الأديب اللبناني توفيق يوسف عواد الذي كان سفيرا سابقا للبنان في إسبانيا، وقتل معه زوج ابنته، السفير الإسباني في لبنان.
وتعبر تسمية "ساحل النصارى" عن واقعة ديموغرافية بطيئة طويلة الأمد، حيث توطن المسيحيون فيه، منذ ما قبل الحروب الطائفية الدرزية- النصرانية (1840-1860) في جبل لبنان، وفيما هم ينشؤون مزارع ساحلية تحولت قرى زراعية وتجمعات سكانية. لكن دولة لبنان الكبير في عام 1920، غيبت هذه التسمية تدريجيا، واستبدلتها بتسمية إدارية محايدة: ساحل المتن الجنوبي الذي توسعت قراه الزراعية. أما كثافة موجات المهاجرين الريفيين من جنوب لبنان والبقاع الشمالي إلى مناطق سكنية قريبة من العاصمة، فقلصت الاجتماع الريفي وحاصرته في تلك القرى الساحلية منذ مطالع خمسينات القرن العشرين، وحولتها ضواحيَ سكنية لبيروت. وفي أواسط ثمانينات القرن نفسه، أخذت تغيب عن القرى أسماؤها تلك، فشملتها كلها تسمية "الضاحية" التي نُزعت عنها كل صفة وإضافة، عندما شرع "حزب الله" في إنشاء ما سماه "المربع الأمني" في البلدة الأكثف سكنا مسيحيا في ساحل المتن الجنوبي: حارة حريك التي أُخليت من مسيحييها تماما بالخوف والتهجير القسري. وهذا ما أصاب مسيحيي الضاحية الجنوبية كلها.