انتخاب نعيم قاسم... بين التحولات الإيرانية وتحوّل "حزب الله"https://www.majalla.com/node/322835/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8-%D9%86%D8%B9%D9%8A%D9%85-%D9%82%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%91%D9%84-%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87
إذا كان من معنى لنظرية "وحدة الساحات" التي روّج لها "محور المقاومة" منذ ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وفي توطئة لها، فهو ضرورة أخذ الحرب الحالية سواء في غزة أو لبنان ككل لا يمكن تجزئته، حتى إنّ أي قراءة لهذه الحرب وتداعياتها ومآلاتها يجب أن تأخذ في الحسبان "الساحة الإيرانية" من حيث المقاربات داخل نظام الحكم في طهران لهذه الحرب وكيفية التعامل معها، إذ يبدو وكأن هناك خطابين أو تيارين في إيران راهنا، وإن كان لا يمكن استبعاد فرضية التكامل أو توزيع الأدوار بينهما، لكن في مطلق الأحوال لا يمكن التقليل من الفارق في خطاب الرئيس الإيراني الجديد وفريقه من جهة، وخطاب "الحرس الثوري" وفريقه من جهة ثانية.
وبعد أن كان "محور المقاومة" يكثر في الحديث والتركيز على التناقضات والانقسامات داخل إسرائيل طيلة الحرب فقد تبين الآن أنّ الأهم هو فهم التوجهات المختلفة في دوائر الحكم الإيرانية كضرورة لفهم الأدوار الإيرانية في الحرب والتفاوض ولاسيما في جنوب لبنان.
والحال فإنّ نجاح واشنطن في "هندسة" الرد الإسرائيلي على إيران بحيث لا يستهدف منشآت نووية أو نفطية على ما كان قد توعد بنيامين نتنياهو وفريقه يفتح الباب أمام مسار تفاوضي جديد بين واشنطن وطهران مباشرة أو بالواسطة بعدما أظهرت الإدارة الأميركية أنّ هدفها لمنع توسع الحرب إلى حرب إقليمية بين إسرائيل وإيران يعني ضمنا أنها لا تضع إسقاط النظام الإيراني كأولوية راهنة في استراتيجيتها للمنطقة. وهذا يعطي دفعا ولو ببطء للمسار التفاوضي بين طهران وواشنطن، لكن السؤال هو عن معنى كل ذلك وتأثيراته عشية الانتخابات الأميركية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والتي تنتظرها إيران- كما العالم بأسره- لرؤية سيد البيت الأبيض الجديد وبناء حساباتها على أساس هوية الرئيس الجديد، فإذا انتخب دونالد ترمب سنكون أمام خلط للأوراق في الاستراتيجية الأميركية للمنطقة ولا يعرف كيف سيتعامل الرئيس الجمهوري مع إيران، وما مدى الانقلاب الذي يمكن أن تشهده استراتيجية واشنطن حيالها. أما إذا انتخبت كامالا هاريس فإنه يمكن توقع استمرارية لسياسات جو بايدن في المنطقة، وبالتالي فإنّ ما تأسس في عهده لناحية احتواء الصراع مع إيران من خلال الردع العسكري والدبلوماسية قابل للاستمرار والتبلور أكثر، مع أنه من الصعب جدا توقع خاتمة سلسة وسريعة للمفاوضات الأميركية الإيرانية خصوصا في ظل الحرب الدائرة.
لعل انتخاب نعيم قاسم أمينا عاما جديدا لـ"حزب الله" خلفا لنصرالله يؤشّر إلى التحولات المرتقبة داخل "الحزب" بوصف قاسم شخصية سياسية بحتة لا علاقة له بالعسكر
والأحرى أن لا ينظر وحسب إلى نتائج الانتخابات الأميركية وتأثيراتها على "العلاقات" الإيرانية الأميركية لفهم السياسات الإيرانية في المرحلة المقبلة، بل إنه لمن الضروري أن ينظر إلى ما يحصل في الداخل الإيراني ومحاولة فهم الديناميات الداخلية بين الإصلاحيين الذين يمثلهم الرئيس الجديد وفريقه وبين المتشددين ونواة النظام الصلبة الذين يمثلهم "الحرس الثوري"، مع الاحتفاظ ببعض الحذر في تصنيف تموضع المرشد علي خامنئي الذي لم يكن "بعيدا" عن انتخاب بيزشكيان الإصلاحي كما أنه أعطى ضوءا أخضر للتفاوض مع الغرب بعد أن تحول هذا التفاوض إلى البند الرئيس في أجندة الرئيس الجديد.
وحتى لو لم يكن ما يحصل داخل إيران واضح المعالم ويمكن تفسيره بسهولة فإن الأكيد أنه لا يمكن التعامل مع الوضع الإيراني إلا بوصفه وضعا مركبا ويؤشر إلى تحولات معينة إن لم يكن في بنية النظام ففي أولوياته وسياساته في الظرف الدولي والإقليمي الراهن وخصوصا بعدما تلقت الأذرع الإقليمية لإيران سواء في غزة ولبنان لضربات قاسية جدا وضعتها على سكة التحولات "الذاتية" أيضا، وبالأخص بالنسبة لـ"حزب الله" التي تطرح أسئلة كثيرة عن "الشكل" الذي سيكون عليه بعد الحرب بعدما استهدفت إسرائيل الهيكل القيادي المؤسس له وعلى رأسه أمينه العام السابق حسن نصرالله، وبعد أن تحول تدمير ترسانته العسكرية إلى هدف إسرائيلي رئيس وكل ذلك بغطاء أميركي واضح.
ولعل انتخاب نائب الأمين العام لـ"الحزب" منذ عام 1991 الشيخ نعيم قاسم أمينا عاما جديدا له خلفا لنصرالله يؤشّر إلى التحولات المرتقبة داخل "حزب الله" بوصف قاسم شخصية سياسية بحتة لا علاقة له بالعسكر لا من قريب ولا من بعيد بخلاف نصرالله، الذي وإن لم يكن عسكريا بالمعنى الكامل للكلمة فإنه يحمل خلفية عسكرية بحكم التجربة في قيادة "الحزب" والعلاقة مع القيادات العسكرية طيلة المراحل السابقة وبأقل تقدير بما لا يقارن مع قاسم. كذلك فإن إدارته للماكينة الانتخابية لـ"حزب الله" طيلة السنوات السابقة تعطي فكرة واضحة عن طبيعة مهامه السياسية داخل "الحزب"، وهذا فضلا عن تحدثه باسمه في محطات رئيسة قبل الحرب وبعدها خصوصا بعد اغتيال نصرالله، وهذه مهام سياسية أيضا في إعلان موقف الحزب السياسي وبلورته إعلاميا.
لذلك كله لا يمكن النظر إلى انتخاب نعيم قاسم بوصفه إجراء "بيروقراطيا" داخل "الحزب" بل هو يحمل على الأغلب مؤشرات إلى "الشكل" الجديد الذي سيكون عليه "حزب الله" في المرحلة المقبلة، أي إن "الحزب" يستعد للمرحلة المقبلة بعد انتهاء الحرب على قاعدة أنها ستكون مرحلة سياسية بالدرجة الأولى، ولا ريب في أن قاسم "السياسي" والذي لا يتمتع بكاريزما عسكرية هو أحد أبرز وجوه "حزب الله" المؤهلة لمواكبة هذه المرحلة. ولو كان يفترض من زاوية معينة قراءة انتخاب قاسم بوصفه خيارا اضطراريا لناحية ضيق الخيارات داخل "الحزب" بعد تصفية إسرائيل القيادات الرئيسة ذات البروفايل العسكري- السياسي وأبرزها هشام صفي الدين الذي كان يتوقع أن يخلف نصرالله.
انتخاب قاسم لا يجب أن يقرأ من زاوية إمكانات الرجل ومواصفاته وحسب بل من زاوية دلالة هذه المواصفات كإشارة إلى تحوّل مفصلي في مسيرة "حزب الله"
لا بد هنا من العودة إلى السؤال الأساسي الذي طرح عقب اغتيال نصرالله وهو ما إذا كان "حزب الله" سينحو أكثر نحو الراديكالية في إعادة بناء هيكله القيادي، أقله من الناحية السياسية، أم إنه سيتجه نحو "الاعتدال". في الواقع إن انتخاب قاسم لا يفسّر كل توجه "حزب الله" في المرحلة المقبلة، إذ هو يغطي الجانب السياسي في "الحزب" لا الجانب العسكري الذي يمكن أن تتولاه قيادات شابة أكثر راديكالية وأقل خبرة سياسية من الجيل المؤسس، لكن هذا يتوقف أيضا على المستقبل العسكري لـ"الحزب" لناحية قدرته على مواصلة العمل العسكري وإعادة بناء قدراته التسليحية بالوتيرة السابقة. وهذا لا يتوقف وحسب على نتائج الحرب وحسابات النصر والهزيمة فيها، بل أيضا على "هندسة" المنطقة بعد الحرب، وعلى الاستراتيجية الإيرانية في المرحلة المقبلة، ولاسيما لجهة تركيز الفريق الرئاسي في طهران وربما "الدولة العميقة" أيضا بقيادة "المرشد" على تعافي الاقتصاد وتمتين شرعية النظام وذلك يتطلب حكما سياسة خارجية جديدة تقوم أولا على بناء تفاهمات مع أوروبا وأميركا.
بالتالي لا يمكن فصل انتخاب نعيم قاسم أمينا عاما جديدا لـ"حزب الله" عن التحولات والأولويات الإيرانية، وذلك باعتبار هذا الانتخاب إشارة إيرانية واضحة إلى الرغبة في التفاوض والتهدئة، ولو كان "الحرس الثوري" حاضرا بقوة في إدارة "الحزب" والجبهة في جنوب لبنان بعد اغتيال نصرالله. ولذلك يجب اعتبار انتخاب قاسم قرارا إيرانيا محض ولا علاقة له بالديناميات الداخلية في "حزب الله".
فإذا كان صحيحا أن تسمية قاسم جاءت في توقيتها في لحظة كثر فيها الحديث عن الإدارة الإيرانية لـ"الحزب" كما لو أن هذه التسمية محاولة إيرانية للتنصل من هذا "الاتهام"، فإن الأهم أنّ انتخاب قاسم يجب أن يقرأ من زاوية الأولويات والحسابات الإيرانية الراهنة، وهي أولويات وحسابات لا يمكن فهمها خارج السياسة الأميركية للتعامل مع الملف الإيراني، محليا وإقليميا، بمعنى أنه لا يمكن استبعاد مراهنة واشنطن على صعود التيار الإصلاحي داخل إيران وتمتين حضوره في أروقة القرار هناك. وهو ما يحيل إلى "الهندسة" الأميركية للرد الإسرائيلي على إيران ليل الجمعة- السبت الماضي، إذ إنه وبالرغم من الأهمية العسكرية للمواقع المستهدفة ونجاح إسرائيل في اختراق المجال الجوي الإيراني بهذه السهولة، فإن المهم أيضا كان امتناع إسرائيل عن استهداف المنشآت النفطية التي كان استهدافها سيتسبب في ضربة قاسية للعهد الجديد الذي يراهن على تحقيق إنجازات اقتصادية من بينها ضمان حصة أكبر في سوق النفط.
لذلك كله فإن انتخاب قاسم لا يجب أن يقرأ من زاوية إمكانات الرجل ومواصفاته وحسب بل من زاوية دلالة هذه المواصفات كإشارة إلى تحوّل مفصلي في مسيرة "حزب الله"، وهو تحوّل سيترجم أولا باستعداد أكبر للتفاوض حول وقف إطلاق النار مع كل ما يستتبع التهدئة من ترتيبات سياسية أمنية سواء في الجنوب اللبناني في ما يخص تطبيق القرار 1701، أو في الداخل اللبناني لجهة إعادة إنتاج السلطة في لبنان وفق موازين جديدة... وإذا كان من الصعب القول إن "حزب الله" طوى صفحته العسكرية أو يستعد لطيها، فإن الأكيد أننا سنكون أمام "حزب الله" جديد تتقدم فيه السياسة على العسكر بفعل الأمر الواقع الجديد. وقبل ذلك وبعده لا بد من طرح سؤال عما إذا كانت إيران قد حصلت على ضمانات بعدم استهداف قاسم على غرار القيادات الأخرى في "حزب الله"، وهذا إذا صح فهو كاف لإعطاء صورة عن "التفاهمات" الجديدة بين طهران وواشنطن.