بين المدارس الفنية المتعدّدة، ظلّت السوريالية من أكثر الحركات انتشارا وجماهيرية حول العالم، مع أن المنهج في الأساس يخاطب النخب والمثقفين. ويعتبر المخرج الإسباني لويس بونويل واحدا من أشهر رموز هذا المنهج ورواده، إذ ارتبطت أفلامه به منذ فيلمه القصير الأول الذي شارك في كتابته مع الرسّام سلفادور دالي.
ولد بونويل في 22 فبراير/شباط 1900 ورحل بعد عراك طويل مع العالم في 29 يوليو/تموز 1983، تاركا حصيلة من الأفلام تجاوزت العشرين بقليل، بداية من فيلمه الأول "كلب أندلسي" (1929) حتى آخر أعماله "شيء غامض اسمه الرغبة"(1977). وبتأمل تجربة بونويل الإخراجية، نكتشف أن الرجل لم يصل إلى أقصى طاقاته السوريالية سوى في فيلمه الأول الذي يعتبر ذروة التجربة، في ما عدا ذلك، تسللت تلك الطاقة بنسب متفاوتة عبر أفلامه اللاحقة، التي حرص على أن تكون غير مألوفة للمشاهد في المقام الأول.
يقول في تقديمه واحدا من أفلامه: "إذا وجدت في الفيلم الذي ستشاهده الآن غرابة أو غموضا، فكذلك هي الحياة". لهذا يستمدّ شرعية عالمه الفانتازي من الواقع المعتاد للحياة الذي لا يقل سوريالية بدوره، بل يفوقها في أغلب الأحيان. في حوار سابق، يبادر المذيع بونويل بالسؤال: حدثنا عن نفسك. فيجيب "لا أجد أمام سؤال كهذا سوى الخروج من الباب دون كلمة واحدة، فأنا لا أعرف نفسي". من جديد يكتسب بونويل مشروعية استكشاف العالم من خلال السينما والفن، لربما يتعرف الى نفسه في فيلم ما، أو الى بعض أوجه النفس البشرية.
كلب ينبح رغباته
في "كلب أندلسي" ليس هناك أي كلاب، سواء أندلسية أو غيرها، كذلك لا يوجد سيناريو محدد، وإنما مجرد لوحات ومشاهد غير مترابطة، تبدأ بعد الاستهلال التراثي للحكايات "كان يا ما كان". بذلك يتخذ الفيلم إطارا تقليديَّا لسرد ما هو غير تقليدي، ولا مجال هنا لمحدودية المنطق العقلاني، إذ تنبع الجمالية من عدم السببية والتتابع أو البحث عن علاقات بين الأشياء. انطلق الفيلم بدعم مادي من والدة بونويل ومن تلاقي حلمين، كما يقول في مذكراته: "دعاني دالي لتمضية أيام عدة في بيته، رويت له حلما كنت رأيته قبل فترة قصيرة، غيمة تقطع القمر وموسى حلاقة تشق عينا، وقال لي بدوره إنه رأى في الليلة الماضية يدا ملأى بالنمل، وأضاف: إذا انطلقنا من هذا، فهل نستطيع أن نصنع فيلما؟".