تتكشف في شمال غزة أزمة إنسانية هائلة حيث تعاني المنطقة من دمار وفاقة وآلام لا يمكن تخيلها. إلا أن المأساة نفسها تعطي فكرة عن خطة إسرائيل لليوم التالي لعمليتها الحالية في هذا القطاع الفلسطيني، أو على الأقل في الجزء الشمالي منه.
واقترحت مصر مؤخرا وقفا مؤقتا لإطلاق النار في غزة لتبادل رهائن إسرائيليين مع بعض السجناء الفلسطينيين، على أمل أن يؤدي هذا الاتفاق إلى وقف كامل لإطلاق النار.
ويشكل شمال غزة نحو سُدس مساحة القطاع بالكامل، وقد حولته القوات الإسرائيلية خلال حملتها المطولة إلى أنقاض. وبلغ الوضع الحالي من الصعوبة حدا أصبح معه البقاء في المكان شبه مستحيل سواء للبشر أو للحيوانات.
كل ما يتحرك يُستهدف، والمباني تحولت إلى غبار، ومن لا يلتزم بأوامر الإخلاء يواجه خطر الموت، حتى بقذائف الدبابات. وحين يحاول الناجون من الموت الوصول إلى المستشفيات القليلة التي لا تزال تعمل، تستهدف الغارات الجوية الإسرائيلية بشكل خاص النظام الصحي المنهك بالفعل. وقد أكد مدير مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا، وهو أحد أكبر المستشفيات في غزة، أن المستشفى لم يعد قادرا على استيعاب العدد الهائل من الجرحى. وكان قد ناشد في وقت سابق، ولكن دون جدوى، بفتح ممرات آمنة لإدخال الإمدادات الضرورية قبل فوات الأوان، والآن لا يوجد في شمال غزة مكان آمن لأي بشر.
وهذا ما أكدته جويس مسويا، القائمة بأعمال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، حين قالت إن سكان شمال غزة "يعيشون أهوالا لا توصف". وفي 22 أكتوبر/تشرين الأول، ردد المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، المعنى نفسه حين قال إن السكان "ينتظرون الموت"، مضيفا أن "رائحة الموت في كل مكانKحيث تُترك الجثث ملقاة على الطرقات أو تحت الأنقاض".
يضمّ شمال غزة مدينتي بيت حانون وبيت لاهيا، بالإضافة إلى مخيم جباليا للاجئين، وهو أكبر محافظات القطاع الخمس. ويمتد على مساحة تبلغ حوالي 61 كيلومترا مربعا، في محاذاة الحدود الإسرائيلية. وكان يعيش في هذه المنطقة، قبل الغارات الإسرائيلية التي أعقبت هجمات 7 أكتوبر 2023، نحو نصف مليون فلسطيني، أي ما يقارب ربع سكان غزة.
غير أن الهجمات الإسرائيلية حوّلت هذا الجزء من غزة إلى ركام من الطوب وقذائف الهاون المحطمة، ما أجبر سكانه، الذين أفلتوا من هذه الهجمات، على الفرار بأرواحهم إلى وسط القطاع وجنوبه. ثم شجع الهدوء القصير في الهجمات بعض الناس على العودة إلى ما تبقى من منازلهم في شمال غزة. ويعيش هؤلاء الأشخاص أنفسهم تحت حصار إسرائيلي محكم منذ بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول الحالي، فإذا غامر أحدهم بالخروج من المكان الذي يوجدون فيه واجه الإعدام في الشوارع.
وأصدر الجيش الإسرائيلي الأوامر لمن بقي في الشمال للتحرك نحو مدينة غزة إلى الجنوب، على الطريق المؤدي إلى الجزء الجنوبي من قطاع غزة، حيث تعاني الغالبية العظمى من سكان القطاع من الاكتظاظ الشديد، ناهيك عن الجوع والعطش.
خطة الجنرالات
العمليات الحالية التي تقوم بها إسرائيل في شمال غزة جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى منع حركة "حماس"، التي كانت تحكم المنطقة، من إعادة تنظيم صفوفها، وذلك لأن شمال غزة كان على الدوام مصدر قلق أمني لإسرائيل، حيث استخدم كنقطة انطلاق للصواريخ والهجمات الصاروخية، بما في ذلك الهجمات التي وقعت في 7 أكتوبر 2023 على إسرائيل.
وقد قدمت مجموعة من الجنرالات المتقاعدين هذه الاستراتيجية، المعروفة باسم "خطة الجنرالات"، إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والكنيست، ومحورها أن القضاء على التهديد الأمني الذي يشكله شمال غزة يستلزم تفريغه من السكان. ولتحقيق هذا الهدف، قطعت إسرائيل المساعدات وتقوم فعليا بتجويع عشرات الآلاف من الأشخاص الذين لا يزالون في المنطقة، بمن في ذلك أولئك الذين لم يتمكنوا من الفرار بسبب الهجمات المستمرة للجيش الإسرائيلي.
وبالفعل، شرعت إسرائيل منذ أوائل أكتوبر بتطبيق هذه الخطة بنشاط، ولكن على الرغم من كل الجهود التي تبذلها في سبيل ذلك، لا يزال مقاتلو "حماس" مستمرين في المقاومة، ولا سيما بالقرب من مخيم جباليا للاجئين، مما يبرز صعوبة القضاء التام على الحركة.