ثمة كتب يتعذر تصنيفها، لا لأنها لا تدخل في أي خانة من خانات الأدب التقليدية (رواية، قصة، شعر، تأملات، يوميات سفر...)، بل لأنها قادرة على ملء جميع هذه الخانات، وفي الوقت نفسه، تفيض من كل واحدة منها. هذه هي حال كتاب ماتياس إينار الجديد، "كآبة الأقاصي، شمال"، الذي يشكّل الجزء الأول من رباعية هي عبارة عن "خريطة سروح حميمة" داخل عالم هذا الكاتب الذي لا ننصفه إن اكتفينا باعتباره أحد أبرز وجوه الأدب الفرنسي المعاصر، فهو، إضافة إلى معرفته المدهشة في آداب ولغات أوروبا والعالمين العربي والفارسي، متبحِّر في ميادين مختلفة، كالتاريخ والرياضيات والموسيقى الكلاسيكية. ومن لديه شك في ذلك، ما عليه سوى قراءة رواياته التي تتوالف هذه المعارف فيها بفطنة وفتنة نادرتين.
مثل كاتبه، فإن "كآبة الأقاصي" كتاب متعدد يقاوم أي محاولة لمحاصرته، ولا يملك قارئه أيّ مرجع سابق يمكن أن يسهّل له مهمة ولوجه. لكن هذا لا يعني أن هذا الولوج عسير في حد ذاته، بل يحصل فقط من دون بوصلة، أو بالأحرى من دون أيّ بوصلة أخرى غير نصّ الكتاب نفسه، الذي تتوالى فقراته وموضوعاته وفقا لمبدأ تداعي الأفكار، بنفسها، انطلاقا من تجاذباتها. تداعٍ تحفّزه نزهة طويلة يجريها إينار في "الليل المبكر لخريف برلين"، لا لدرء برد هذه المدينة القارص فحسب، بل أيضا لطرد الحزن الذي ينتابه بعد زيارته صديقة غالية على قلبه تقبع في مصحّ، في حالة غيبوبة، إثر إصابتها بجلطة خطيرة.
حوار داخلي
هكذا، وبينما يحلّ الليل على برلين، يطوف الكاتب في أنحاء المدينة وتاريخها. وضمن ما يشبه الحوار الداخلي، يتسكّع فكره، منقّبا في الزمن والجغرافيا، بدءا من بيليتز، البلدة التي يقع المصح فيها، ويستحضر حاضرها وماضيها إلى ذهنه بيت للشاعرة البيروفية بلانكا فاريلا تقول فيه: "حيث ينتهي كل شيء، افرد جناحيك". ولا عجب في هذا الاستحضار، فهذه البلدة التي لا تزال ماثلة في أرجائها آثار زمن الاحتلال السوفياتي الذي ولّى، كانت آخر خط دفاع عن برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى أطرافها حشد الجنرال الروسي جوكوف أكبر تجمّع مدفعي في تاريخ البشرية بغية تفكيك آخر الدفاعات الألمانية وفتح الطريق المؤدّي إلى برلين.
خلال ثلاثة أيام، "تواجه مليون ومائتا ألف جندي في هذا المستنقع"، يذكّر إينار، مشيرا إلى وقوع أكثر من خمسين ألف قتيل خلال هذه المعركة: "جثث ما زالت تظهر عظامها على السطح مرارا على مرّ الحراثة والفصول"، بينما أصحابها الألمان ماتوا فحسب. بلا مجد ولا صرح ولا حتى دفن. "ماتوا في صمت، ومقابرهم تقبع في روايتيّ تيودور بليفير، الناشط المناهض للفاشية الذي نجح في معجزة سرد آلام الجنود الألمان من ستالينغراد إلى برلين من دون أي تساهل مع العقيدة التي كانوا يدافعون عنها. ستالينغراد وبرلين هما المرآة الألمانية لرواية الروسي فاسيلي غروسمان ’حياة ومصير’".